لا تَطِشْ جهلاً! شرح خطبة السيّدة زينب في مجلس يزيد العلامة السيّد محمّد كاظم القزويني *
لا تَطِشْ جهلاً!
شرح خطبة السيّدة زينب في مجلس يزيد
العلامة السيّد محمّد كاظم القزويني *
* ابتدأت السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السلام خطبتها في مجلس يزيد، بأنْ عرّفت نفسها للحاضرين، وانتسبت إلى جدّها رسول الله سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالت:
-(الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على جدّي سيّد المرسَلين)
* ثمّ قالت:
-(صدَق اللهُ سبحانه، كذلك يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾...). (الروم:10)
أي أن عاقبة الذين أساؤوا إلى نفوسهم -بالكفر بالله وتكذيب رُسله، وارتكاب معاصيه- السوأى، وهي عذاب النار. وبسبب تراكم الذنوب والمعاصي حصل منهم التكذيب بآيات الله، وظهر منهم الاستهزاء بها وبالمقدّسات الدينية.
-(أظننتَ يا يزيد، حين أخذتَ علينا أقطارَ الأرضِ وضيّقْتَ علينا آفاقَ السماءِ، فأصبحنا لكَ في أسار، نُساقُ إليك سَوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتِدار، أنّ بنا من الله هواناً، وعليكَ منه كرامةً وامتناناً)؟!
أظننت أنّ لك عند الله جاهاً وكرامة لأنك غلبتنا وظفرت بنا، وقتلت رجالنا، وسبيت نساءنا؟!
-(وظننتَ أنّ ذلك لِعِظَم خطَرك): أي: لعلوّ منزلتك؟
-(وجلالةِ قدرك): عند الله تعالى؟!
-(فشمختَ بأنفِك): أي رفعته تكبّراً.
-(ونظرتَ في عِطفِك): العِطف، بكسر العين، جانبٌ البدن، والإنسان المعجَب بنفسه ينظر إلى جسمه وإلى ملابسه بنوع من الغرور.
-(تضرب أصدرَيك فرحاً): يُقال: ضرب أصدرَيه، أي حرّك رأسه بكيفية خاصة تدلّ على شدّة الإعجاب.
-(وتنفض مذروَيك مرَحاً): يقال: جاء فلان ينفض مذروَيه: إذا جاء باغياً يهدد الآخرين.
-(حين رأيتَ الدنيا لك مستوسِقة): أي: مجتمعة.
-(والأمور لديكَ متّسِقة): أي: منتظمة.
-(وحينَ صفى لكَ ملكَنا، وخلُصَ لك سلطانُنا).
* بعد هذه المقدّمة والتمهيد قالت صلوات الله عليها:
-(فمهلاً مهلاً، لا تَطِش جهلاً، أنسيت قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؟!). (آل عمران:178)
ثمّ خاطبته وذكّرته بأصله السافل، ونسَبه المخزي، فقالت:
-(أمِنَ العدل يا ابن الطُّلَقاء، تخديرُك حرائرَك وإمائك): تخديُر البنت: إقامتُها وراء السّتر.
-(وسَوقك بنات رسولِ الله سبايا، قد هتكْتَ ستورَهنّ، وأبدَيتَ وجوهَهُنّ، تحدو بهنّ الأعداءُ مِن بلدٍ إلى بلدٍ، ويستشرفهنّ أهلُ المناقل، ويتبرزْنَ لأهل المناهِل): المناقل: جمع منقل، وهو الطريق إلى الجبل. والمناهل: جمع منهل، وهو الماء الذي ينزل عنده.
-(ويتصفَّح وجوهَهنّ القريبُ والبعيدُ، والشريف والوضيع، والدنيء والرفيع): والحال أنّه -(ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ، ولا مِن حُماتهنّ حميّ): كلّ هذه الجرائم التي صدرت منك، وبأمرك كانت:
-(عتوّاً منك على الله): العتوّ: هو التكبّر.
-(وجحوداً لرسولِ الله): الجحود: هو الإنكار مع العلم بأنّ هذا هو الواقع والحقّ. -(ودفعاً لِما جاء به من عند الله، ولا غروَ منك، ولا عجب من فعلك. وأنّى تُرتجى مراقبة ابن مَن لفَظ فوه أكبادَ الشّهداء، ونبَت لحمُه بِدماء السعداء؟): أي: كيف ومتى يتوقّع الخوف من الله تعالى.. من ابن مَن رمتْ مِن فمها أكباد الشهداء الأبرياء؟
-(ونصَب الحربَ لِسيّد الأنبياء، وجمَع الأحزاب، وشهر الحِراب، وهزّ السيوفَ في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أشدّ العرب لله جحوداً، وأنكرهم له رسولاً، وأظهرهم له عدواناً، وأعتاهم على الربّ كفراً وطغياناً): عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «يموت معاوية على غير ملّتي»، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا يموتُ ابن هند حتّى يعلّق الصليب في عُنُقه». فلمّا مرض، علّق صليباً للتبرّك والاستشفاء! ثمّ جاء يزيد من بعده فكان يتفجّر حقداً على آل رسول الله صلّى الله عليه وآله.
-(ألا إنّها نتيجة خِلال الكفر): أي أن أفعالك حصيلة خِصال الكفر فيك.
-(وضِبٌّ يُجَرجرُ في الصّدرِ لِقتلى يوم بدر): الضِّب بكسر الضاد: الغيظ الكامن والحقد الخفيّ.
-(وكيف يستبطئ في بُغضِنا أهل البيت، مَن كان نظرُه إلينا شنَفاً وإحناً وضغناً): أي: كيف لا يُسرع إلى بغض أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، مَن كانت نظرته وعقيدته فيهم عقيدة الكراهة والحقد. والشنف والشنآن والإحْن والأضغان: معانيها متقاربة، والمقصود منها: شدّة الحقد والبغض.
-(يُظهِر كُفرَه برِسوله، ويُفصِح ذلك بلسانه وهو يقول فرحاً بقتل ولده، وسبي ذريّته، غير مُتحوّب ولا مُستَعظِم: لأهلّوا واستهلّوا فرحاً، ولقالوا: يا يزيد لا تُشَلّ): غير متحوّب: أي غير متأثّم أو غير متحرّج من القبيح. والحَوبة: مَن يأثم الإنسان في عقوقه.. كالوالدين.
-(منحنياً على ثنايا أبي عبد الله يَنكتُها بِمِخصرتِه): ثنايا جمع الثنية: وهي الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ينكت: يضرب. مخصرة: العصا.
-(قد التمع السرور بوجهه، لَعمري لقد نكأتَ القرحة، واستأصَلتَ الشّأفة): نكأ القرحة: قشّرها بعد ما كادت تبرأ. استَأصل شأفته: أي أزاله من أصله.
-(بإراقتك دم سيّد شباب أهل الجنّة، وابن يعسوب الدين، وشمس آل عبد المطّلب وهَتَفتَ بأشياخك، وتقرّبت بدمه إلى الكفرة من أسلافِك، ثمّ صرختَ بندائك، ولعمري لقد ناديتَهم لو شهدوك): يا يزيد! لقد تمنّيتَ أسلافك لو كانوا حاضرين كي يشهدوك ويشهدوا أخذك لثارهم، ولكنّ هذه الأمنية لا تتحقّق لك، فأسلافك موتى معذّبون في نار جهنّم.
-(ووشيكاً تشهدهم ولن يشهدوك، ولتودّ يمينُك شُلّت بك عن مِرفَقها وجُذّت): جُذّت: قُطعت أو كُسِرَت. والمعنى: في يوم القيامة، حين تُعاقب تلك العقوبة الشديدة، سوف تتمنّى أنّ يمينك كانت مشلولة أو مقطوعة حتى لا تستطيع أن تَضرب بعصاك ثنايا الإمام الحسين عليه السلام.
-(وأحبَبتَ أنّ أُمّك لم تحملكَ، وإيّاك لم تَلِد، حين تصير إلى سخطِ الله ومُخاصمك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. اللّهمّ خُذ بحقّنا، وانتقِم مِن ظالمِنا، واحلُل غضبَك على مَن سفك دماءَنا، ونقضَ ذمارَنا، وقَتلَ حُماتَنا، وهتك عنّا سُدولَنا): الذّمار: ما ينبغي حفظه والدفاع عنه، كالأهل والعِرض. سدول جمع سدل: السِّتر.
* وعادت عليها السلام بعد هذا الدعاء إلى يزيد توبّخه على فعلته الشنيعة غير آبهة بطغيانه، فقالت:
-(وفعلتَ فعلتَك التي فعلتَ، وما فرَيتَ إلّا جلَدك، وما جَزَرت إلا لحمَك): فَريتَ: شققتَ. جزَرتَ: قطعتَ.
-(وسَتَرِد على رسولِ الله بما تحمّلتَ من دمِ ذريّته، وانتهكتَ من حرمته، وسفكتَ من دماءِ عِترته ولُحمَته): اللُّحمة: القرابة.
-(حيثُ يُجمعُ به شملهم، ويُلمّ به شعثَهم، وينتقمُ من ظالمِهم، ويأخذُ لهم بحقّهم من أعدائِهم): الشّعث: ما تَفرّقَ من الأمور أو الأفراد.
-(فلا يستفزّنّك الفرحُ بقتلهم): أي: لا يُخرجك الفرح عن حالتك الطبيعيّة.
-(﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ...﴾ وحسبُك بالله ولياً وحاكماً، وبرسول الله خَصماً، وبجبرئيل ظهيراً).
* ثمّ صعّدَت عليها السلام من لهجتها في تهديد يزيد وإنذاره، فقالت:
-(وسيَعلم مَن بوّأك ومكّنك من رِقابِ المسلمين أنْ بِئسَ للظالمين بدلاً،، وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضلّ سبيلاً. وما استصغاري قدرك، ولا استعظامي تقريعك، توهما لانتجاع الخطاب فيك): التَقريع: الضرب مع العُنف والإيلام. الدواهي جمع داهية: وهي المصيبة.
-(بعد أن تركتَ عيونَ المسلمين به عَبرى، وصدورَهم عند ذكره حَرّى).
* ثمّ ذكرت سبب عدم احتمال تأثير خطابها في نفسيّة يزيد وحاشيته، فقالت عليها السلام:
-(فتلك قلوبٌ قاسية، ونفوسٌ طاغية، وأجسامٌ محشوّة بِسخَطِ الله ولعنةِ الرسولِ، قد عشّش فيها الشيطانُ وفَرّخ، فالعجبُ كلُّ العجبِ لِقتلِ الأتقياءِ، وأسباط الأنبياءِ، وسليلِ الأوصياءِ، بأيدي الطُّلَقاء الخبيثة، ونسلِ العَهَرة الفَجَرة؛ تَنطِف أكُفّهم من دمائنا، وتتحلّب أفواهُهم من لُحومنا): تنطِفُ: تقطرُ أو تسيل. تحلّب فوه أو الشيء: إذا سال.
-(تلك الجُثث الزاكية، على الجَبوبِ الضّاحية): الجَبوب: وجه الأرض الصلبة. وقيل: الجَبوب: التُراب. الضاحية: يُقال ضحا ضَحواً: برز للشمس، أو أصابه حرّ الشمس، وأرض ضاحية الظلال: أي لا شجر فيها. إخبارٌ منها عليها السلام عن مصيبة بقاء الأجساد الطاهرة على وجه الأرض عدّة أيام.. من غير دفن، تصهرها الشمس بأشعّتها المباشرة.
-(تَنتابها العواسِل، وتُعفّرها أمّهات الفراعل): العواسل: السّباع والذئاب. والفراعل: الضّباع. ربّما تشير عليها السلام إلى أولئك الأفراد الذين ركبوا خيولهم ورضّوا جسد الإمام الحسين عليه السلام بعد شهادته.
-(فلئن اتّخذتنا مغنَماً، لتجدُ بنا وشيكاً مُغرماً حين لا تَجِد إلّا ما قدّمت يداك، وما الله بظلّامٍ للعبيد. فإلى الله المشتكى والمُعَوّل، وإليه الملجأ والمؤمّل): المُعَوّل: المُستعان.
* ثمّ عادت عليها السلام لتصبّ جاماً آخر من غضبها على يزيد، فقالت:
-(ثمّ كِد كيدك، واجهد جهدك): الكيد: إرادة مَضَرّة الغير خفية، والخُدعة، والمكر. والجهد، الوُسع والطاقة.
-(فو الله الذي شرّفنا بالوحيِ والكتاب، والنبوّةِ والانتخاب، لا تُدرِك أمَدَنا، ولا تَبلُغ غايتنا، ولا تَمحو ذِكرنا): الأمد: الغاية والنهاية.
-(ولا يُرحَضُ عنك عارُها): يُرحض: يُغسل.
-(وهل رأيُك إلا فَنَد، وأيّامك إلا عدَد، وجمعك إلا بدَد): الفَنَد: الخطأ في القول والرأي.
-(وأيّامُك إلّا عدَد): للتقليل.
-(وجمعُك إلّا بدَد): بَدّدَ الشيء: فَرّقَه والتَبَدّد: التفرُّق.
-(يوم ينادي المنادي: ألا لعنَ اللهُ الظالمَ العادي).
ثمّ.. بدأت السيدة زينب عليها السلام، تُمهّد لختام خطبتها الخالدة، فقالت:
-(والحمدُ لله الذي حَكَم لأوليائه بالسعادة، وخَتَم لأصفيائِه بِالشهادة، ببلوغِ الإرادةِ، نقلهم إلى الرحمةِ والرأفةِ، والرضوانِ والمغفرة، ولم يَشقَ بهم غيرُك): إنّ الذي صار شقيّاً وتعيساً ومطروداً من رحمة الله.. هو أنت يا (يزيد).
-(ولا ابتُليَ بهم سواك، ونَسأله أن يُكمِلَ لهم الأجرَ، ويُجزلَ لهم الثّوابَ والذُّخرَ،
ونسألُه حُسنَ الخلافة، وجميلَ الإنابة، إنّه رحيمٌ ودودٌ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الشرح مختصر نقلاً عن كتابه: (زينب الكبرى عليها السلام: من المهد إلى اللّحد). والخطبة رواها الشيخ الطبرسي في (الاحتجاج)، والسيد ابن طاوس في (اللّهوف)، وقد اعتمد السيد القزويني رحمه الله في شرحه رواية (الاحتجاج)
المصدر: موقع السرائر.
اترك تعليق