مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الزهراء؛ امرأة وجدت استقلالها في بيت زوجها

الزهراء؛ امرأة وجدت استقلالها في بيت زوجها

يعلل البعض جنوح شريحة واسعة من بنات حواء إلى التفرّد في عملية صياغة الشخصية وتقرير المصير، إلى عوامل قهرية مثل؛ هواجس البطالة والفقر والضائقة المادية التي تضرب رجال العصر المادي الراهن، وأيضا على عوامل موضوعية منها؛ تراجع الإيمان وصعود أفكار تحررية وتجديدية تنزع إلى القفز على الثوابت والقيم مهما كانت مصداقيتها، مما جعل المرأة والفتاة تنطلق خارج البيت متأبطة حزمة من المبررات في رحاب العلم والعمل وتختار لنفسها ما تراه مناسباً من نمط الحياة.

بيتها؛ أوج استقلالها
لمن يطالع سيرة الصديقة الزهراء، عليها السلام، في هذا الجانب بالذات، يجد أن ذاك التعليل لا يعدو كونه رؤية متسرعة وعاطفية، بل ويجانب حقيقة تكوين المرأة وسماتها وقدراتها الموهوبة سماوياً، انطلاقاً من كون الإسلام أول وآخر من ضمن الحقوق والكرامة للمرأة على طول حياة البشرية، وفي التاريخ الإسلامي نماذج لا تُعد، من نساء نهضن بأدوار مشرفة وبطولية عندما واجهن التبعية لحكام الجور، ولمغرياته وحتى تهديداته، وكانت الصديقة الزهراء في الطليعة.
فمن يتحدث عن الاستقلالية في الحياة، ما عليه إلا أن يراجع الأيام التي قضتها الزهراء، سلام الله عليها، بعد وفاة أبيها وفي خضم تلك الملحمة التاريخية المدوية؛ في وقت كانت الثقافة الجاهلية والتبعية للأقوى، هي السائدة على الرجال فضلاً عن النساء، وكان هذا أحد عوامل الهزيمة التي منيت بها الأمة أمام قوى التضليل والانحراف، وإلا ما الذي يفسّر موقفها الشجاع في الدفاع عن الإمامة الإلهية وكشف حقيقة الطامعين بالحكم وزيف ادعاءاتهم بأنهم «خلفاء»، وذلك من خلال إثارة قضية أرض فدك؟ وهل كان أمير المؤمنين، عليه السلام، بحاجة لمن ينوب عنه في الدفاع عن حقه، وهو سيد البلغاء؟ ثم ألم تعرف الصديقة الطاهرة أنها تقدم على خطوة باتجاه خط النار في جبهة حرب أوجدها من وصفتهم في خطبتها بأنهم من «ظهرت فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين و...»؟ ثم إن المفضوح أمام الملأ يكون أكثر شراسة ودموية لإنقاذ نفسه، كل هذا وغيره، تجاوزته الصديقة الطاهرة، بروح كبيرة ورؤية ثاقبة تتطلع إلى مستقبل الأمة، بعد التزام الإمام علي، بعهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، بما يجري عليه وتكون مهمته الصبر حفاظاً على مصير الأمة والدين.
ولم تكتف الصديقة الطاهرة بالدفاع عن أمير المؤمنين، وفضح المنافقين وأدعياء الدين في مسجد رسول الله، وأمام جموع المسلمين، بل استمرت في ذلك حتى وهي في ساعاتها الأخيرة، عندما اجتمعت عندها عدّة من النساء، وجاء مما قالت لهنّ في عتاب مرّ: «وما نقموا من أبي الحسن... نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطئه، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله –عز وجل- ..».
وفيما كان المسلمون يختفون خلف جدران بيوتهم خوف السوط والسيف، كانت فاطمة ترافق علياً بعد إتمام مراسيم تجهيز وتشييع ودفن رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"، فعرجا على بيوت الأنصار، فكانت، عليها السلام، تدعو النساء والرجال إلى نصرة الوصي وعدم خذلانه وتركه وحيداً في الميدان، فجاء الجواب الفجّ منهم: أن «يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل (أبو بكر) ولو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به..»!
وإذن؛ فإن استقلال فاطمة، عليها السلام، انطلق من البيت ليتحول إلى مفهوم رسالي وقيمة إنسانية إلى سائر البيوت ويعم أرجاء الأمة، لا أن يكون بالعكس، كما هو سعي البعض من النسوة بتوظيف قدرات الخارج؛ من علوم وأموال ومواهب، وصبّها في قالب صغير ومحدود اسمه «المرأة المستقلة».
ولنفترض أن الاستقلال المالي تحقق للمرأة، فما هي ضمانات استمراره؟ وهل يستحق الثمن إزاءه إذا عصفت به الاضطرابات السياسية والتقلبات الاقتصادية؟
إن الرؤية الثاقبة هو ما تحتاجه المرأة الحصيفة في تجسيد الاستقلال على أرض الواقع، فبالقدر الذي تسهم في صنع واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تكون ضامنة لاستقلالها الفكري والثقافي الذي يحقق لها الحياة السعيدة بعيداً عن التبعية لأنماط الحياة التي أثبتت فشلها بين أهلها.

تقوية الجبهة الداخلية لمواجهة التحديات الخارجية
لقد مثّلت الصديقة الطاهرة، عليها السلام، أهل البيت، عليهم السلام، في أول مواجهة لقوى الباطل، ودونت لهم وللأجيال الوثيقة الثورية -إن صحّ التعبير- يحملونها مشعلاً في طريق التغيير والإصلاح.
إن الإمام علياً، عليه السلام، لم يكن الوحيد في التاريخ ممن بقي وحيداً في الساحة يواجه الظلم والانحراف، إذ شهد التاريخ -وما يزال- حالات عديدة لرجال تحملوا المسؤولية بقلمهم وخطابهم وفكرهم، لكنه تميّز بزوجة ضحت بكل شيء من أجل الحق.
فقد كانت المرأة الشابة ذات الثماني عشرة من العمر، وكانت أيضاً الجبل الأشمّ أمام الضربات الخائبة، وبذلك علّمت النساء والفتيات على مر الأجيال كيف يكنّ السند المعين للرجال في سوح المواجهة مع الباطل، وأن توسع نطاق تفكيرها ليشمل أكبر مساحة من المجتمع والأمة.
إن بإمكان بنات حواء بحكم تكوينها الخاص، أن يكنّ حلقة الوصل بين رب الأسرة ومن هو في واجهة الأحداث، وبين من هو في داخل الأسرة، فإذا وجد الأطفال التضامن مع الأب في محنته فإنهم -دون شك- سيكونون على النهج صامدين، ويواصلون نفس الدور الذي نهضت به الأم، والعكس ينتج العكس تماماً، فإذا كانت الأم في وادٍ، والأب يواجه مصيره لوحده، كيف بالإمكان توقع جيل يواجه التحديات؟ أو حتى يحافظ على هويته وكرامته؟






المصدر: مجلة الهدى
حسين محمد علي

التعليقات (0)

اترك تعليق