مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كريمة الدارين السيدة نفيسة رضي الله عنها تحفر قبرها في دارها

كريمة الدارين السيدة نفيسة رضي الله عنها تحفر قبرها في دارها

استقرّت السيّدة نفيسة رضي الله عنها في الدار التي وهبها لها أمير مصر السري بن الحكم في خلافة المأمون العباسي، وانتقلت إليها سنة إحدى ومائتين في ولايته الثانية، وقد سارع إلى أخذ البيعة بعد المأمون لولّي عهده علي بن موسى بن جعفر بن علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)، وقد سمّاه المأمون
بالرضا، وقد مات السري بالفسطاط.
ويقول العلاّمة الأجهوري(رحمه الله): 
إنّ السيّدة نفيسة رضي الله عنها حفرت قبرها الشريف بيدها، أي أمرت ببنائه حال صحّتها ; لشدّة شوقها للقاء خالقها، وعدم رغبتها في الدنيا الفانية وزينتها، وكانت عليها سحائب الغفران، تنزل فيه للتعبّد والتذكّر بالدار الآخرة، وكانت تصلّي فيه النوافل العديدة حتّى قيل: إنّها قرأت فيه ستة آلاف ختمة، ووهبت ثوابها لأموات المسلمين، بخلاف ما 
كانت عليه من التعبّدات.
قالت زينب بنت أخيها: تألمّت عمّتي في أولّ من رجب، وكتبت إلى زوجها إسحاق المؤتمن كتاباً، وكان غائباً بالمدينة، تطلب إليه في المجيء إليها وموافاتها ; لإحساسها بدنوّ أجلها، وفراقها لدنياها، وإقبالها على أُخراها، وما زالت متوعّكة إلى أن كان أول جمعة من شهر رمضان، فزاد عليها الألم وهي صائمة، فدخل عليها الأطبّاء، فأشاروا عليها بالإفطار لحفظ قوّتها، ولتتغلّب على مرضها وضعفها، فقالت: واعجباه، إنّ لي ثلاثين سنة وأنا أسأل الله عزّوجلّ أن يتوفّاني وأنا صائمة، أفأفطر؟! معاذ الله تعالى، ثم أنشدت تقول:
اصرفوا عنّي طبيبي *** ودعوني وحبيبي
زاد بي شوقي إليه *** وغرامي في لهيب
طاب هتكي في هواه *** بين واش ورقيب
لا أبالي بفوات *** حيث قد صار نصيبي
ليس من لام بعذل *** عنه فيه بمصيب
جسدي راض بسقمي *** وجفوني بنحيبي
فانصرف الأطبّاء وهم معجبون بقوّة يقينها وثبات دينها، وسألوها الدعاء، فقالت لهم خيراً ودعت لهم.
وقالت زينب: ثم إنّها بقيت كذلك وقد أفترها الداء إلى العشر الأواسط من شهر رمضان، فاشتدّ بها المرض واحتضرت، فاستفتحت بقراءة سورة الأنعام، فلا زالت تقرأ إلى أن وصلت إلى قوله تعالى: (قل الله كتب على نفسه الرحمة) ففاضت روحها الكريمة. وقيل: إنّها قرأت: (له دار السلام عند ربّهم وهو وليّهم بما كانوا يعملون) فغشي عليها. 
قالت زينب: فضممتها إلى صدري، فإذا بها تشهد شهادة الحقّ، وقُبضت، واختارها الله لجواره، ونقلها إلى دار كرامته، وكان ذلك في سنة ثمان ومائتين، وذلك بعد موت الإمام الشافعي بأربع سنين رحمهم الله جميعاً.
وما أحسن ما قال بعضهم في خروج روحها رضوان الله عليها:
روح دعاها بالوصال حبيبها *** فأتت إليه مطيعةً ومجيبه
يا مدّعي صدق المحبّة هكذا *** صدق المحبّ إذا دعاه حبيبه
وقد أوصت السيّدة نفيسة رضي الله عنها أن لا يتولّى أمرها غير بعلها، وكان مسافراً،
فلمّا ماتت قدم في ذلك اليوم، وهيّأ لها زوجها تأبوتاً وقال: إنّي لا أدفنها إلاّ بالبقيع، عند جدّها المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتعلّق به أهل مصر، وسألوه بالله عزّوجلّ أن يدفنها عندهم، فأبى، فاجتمعوا وذهبوا إلى عبدالله بن السري; أمير مصر، وتوسّلوا به إلى إسحاق بأن يدفنها عندهم، وأن يرجع عن عزمه، وخاصّةً أنّها حفرت قبرها بيدها في دارها، فسأله الأمير في ذلك، وقال له: بالله لا تحرمنا من مشاهدة قبرها، فإنّا كنّا إذا نزل بنا أمر جئنا إليها في دارها في حياتها نسألها الدعاء، فما تنتهي من دعائها إلاّ وقد كشف الله عنّا ما نزل بنا، فدعها لتكون في أرضنا، فإذا نزل بنا أمر جئنا إلى قبرها فسألنا الله تعالى عنده، فأصرّ على نقلها، ولم يرض ما طلبه القوم وما عرضه الوالي.
فجمعوا له مالا جزيلا وسق بعيره الذي وفد عليه، وسألوه البقاء، فأبى، فباتوا في ألم عظيم وهمٍّ مقيم، وقد تركوا المال عنده، فلمّا أصبحوا جاءوا إليه فوجدوا منه مالم يروه من قبل، فإنّه أجابهم عن طيب خاطر إلى دفنها عندهم، وردّ عليهم ما لهم، فسألوه عن ذلك، فقال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام، وقال لي: يا إسحاق، ردّ على الناس أموالهم وادفنها عندهم، ففرح القوم وأخذوا يكبّرون. 
ولمّا توفّيت اجتمع الناس من القرى والبلدان، وأوقدوا الشموع تلك الليلة، وسُمع البكاء عليها من كلّ دار بمصر، وعَظُم الأسف والحزن عليها، وصلِّي عليها بمشهد حافل، ودُفنت بالمكان الذي حفرته.
وكان يوم دفنها يوماً مشهوداً، ازدحم فيه الناس ازدحاماً شديداً، وأخذوا يزورون 
قبرها، ويأتون إليه من بلاد متعدّدة، يصلّون ويذكرون ويدعون.
وقد كانت وفاة السيّدة الصالحة كريمة الدارين في عهد ولاية عبدالله بن السري بن الحكم الذي بايعه الجند في يوم 9 شعبان سنة ستة ومائتين، في اليوم التالي لوفاة أخيه محمد بن السري أمير مصر.
وكان السري وبنوه الأُمراء يبجّلون السيّدة نفيسة رضي الله عنها ويعظّمونها، فأمر عبدالله بأن يُبنى لها مقام على قبرها; إعلاماً لعلوّ شأنها، وآيةً على رفعة قدرها، وإظهاراً لجلالها.
وكان بناء ذلك المقام عقب وفاتها سنة ثمان ومائتين، وفي ولاية الحافظ لدين الله; أبي الميمون عبدالمجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد ابن الخليفة المستنصر بالله الذي ولي الخلافة سنة أربع وعشرين وخسمائة، ومكث في خلافته إلى سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقد أمر ببناء قُبّة على قبرها الشريف، وببناء مدفن للفاطمييّن بجوارها من الجهة الغربية.
وقد أخذ الكثيرون في بناء القبور لهم ولذويهم حول ضريح السيّدة نفيسة رضي الله عنها; تبرّكاً بجوارها.
وكان مكتوباً على باب المقام هذان البيتان، وهما من قول الإمام الشافعي(رضي الله عنه):
يا آل بيت رسول الله حبّكمو *** فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكمو من عظم القدر أنّكمو *** من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له


المصدر: كتاب السيدة نفيسة رضي الله عنها، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

التعليقات (0)

اترك تعليق