مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

نرجس: الوالدة المكرمة للمنقذ الأعظم

نرجس: الوالدة المكرمة للمنقذ الأعظم

نرجس: الوالدة المكرمة للمنقذ الأعظم

يا أبا بصير: (القائم) هو الخامس من ولد ابني موسى، ابن سيدة الإماء الإمام الصادق عليه السلام هل يعقل أن يخطط الله نظام الكون لينتهي إلى هذه النهايات البائسة؟
وهل يمكن أن يخلق الله البشر، ومعهم هذه القدرات المتفاوتة ليظلم بعضهم بعضا، ويأكل بعضهم رزق بعض، ويقتل الأقوياء منهم الضعفاء؟
هل يعقل أن يستمر ليل البائسين، فلا ينفلق عن صبح نعيم؟ وأن يتطاول مشوار النفق المظلم، من دون بصيص نور، أو بارقة أمل؟
أم أن هناك أملا إلهيا، ووعدا ربانيا، به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا(1) كما ملئت ظلما وجورا(2)؟
حتى لو لم يكن لدينا هذا العدد الهائل(3) من الروايات التي تتحدث عن ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه في آخر الزمان، لكان يلزم أن يهدي الفكر السليم إلى لزوم وجوده، وحتمية ظهوره.
بل إن هذه القضية (قضية المصلح المنتظر) مما تتفق عليها الديانات السماوية وإن اختلفت في المصاديق، والتفاصيل. لكن أصل لزوم قيام المصلح العالمي المعَدّ من قبل الله سبحانه، مما لا يختلفون فيه.
غير أن فئة من الذين لم يجدوا برد اليقين أبدا، واصطلوا بحمى الشك والتردد صاروا إلى إنكار بعض تفاصيل هذه القضية، مثل إنكار ميلاده ووجوده، مع أن التاريخ يثبت ذلك، ولا أعلم ماذا يصنعون عندما ينظرون إلى ما روي كثيرا عن الأمور التي رافقت ولادته المباركة، والتي تعمد فيها والده المكرم إظهار أمر الولادة بوسائل مختلفة.. فمنها: 
- ما روته السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام وقد ذكرت تفاصيل الولادة المباركة، وتقدم نص حديثها في ترجمتها، فليراجع.
- ومنها قيام الإمام العسكري عليه السلام نفسه بإخبار عدد من خلص أصحابه، ليكون عندهم ذلك معلوما وليسروا به(4) كما سرّ هو به، ومنها قيامه عليه السلام بالعقيقة لعموم شيعته وقد أكثر من ذلك(5).
- ومنها استقبال الإمام للشيعة المهنئين له بولادة صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف(6).
- كما قام سلام الله عليه، بتشريف بعض الأصحاب بإراءتهم المنقذ الأكبر عندما كان طفلا صغيرا.. منهم: من كان في بيت من الغلمان والخدم مثل أبي غانم الخادم، ونسيم الخادمة. وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (وكيل الإمام العسكري وسفير الحجة فيما بعد، والذي وثقه -وابنه- الرجاليون بتبع توثيق الإمام له (العمري وابنه ثقتان ما أديا فعني يؤديان وما قالا فعني يقولان) حيث أجاب على سؤال أحمد بن اسحاق القمي عندما سأله: هل رأى الخلف من أبي محمد؟ فقال: إي والله(7).
بلى.. كان الظالمون يخططون للقضاء على خط الإمامة ونسل الحسن العسكري عليه السلام وأراد الله -ولا راد لإرادته- أن يبقى هذا الخط وذلك النسل الطاهر. تماما مثلما قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام (.. زعم الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل فكيف رأوا قدرة الله) وسماه المؤمل.
* * *
حظيت سيدة الإماء(8) بعناية تامة كما تنقل قصة وصولها إلى البيت الطاهر، وأنها رأت في منامها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يدعوها للإسلام، وأنها سوف تكون زوجة لأحد أبنائه، فتعلق قلبها بهذا الدين وبنبيه العظيم، وكانت تنتظر حصول الفرصة لأن تلتحق ببلاد المسلمين حيث أن أصولها رومية، وقد كانت من الأسر المالكة عندهم (من سلالة شمعون الوصي)، فلم يكن هينا أن تهرب مثلا، ولا أن تعلن عن رغبتها تلك لأسرتها، لكن المناسبة تهيأت عندما حصلت حرب بين المسلمين والروم(9)، كانت الغلبة فيها للمسلمين، وكان أن سبيت فيها هذه المرأة، فوصلت إلى بغداد وكان البيت العلوي ينتظر قدومها حتى تصبح أم القائد الأعظم.
وينقل لنا شيخ الطائفة الطوسي في كتابه الغيبة(10) كيفية وصول هذه السيدة إلى بيت الإمام عليه السلام فيقول: 
قال بشر بن سليمان النخاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجارهما بسر من رأى: أتاني كافور الخادم فقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري يدعوك إليه فأتيته فلما جلست بين يديه قال لي: يا بشر إنك من ولد الأنصار وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف وأنتم ثقاتنا أهل البيت وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسر أطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمة فكتب كتابا لطيفا بخط رومي ولغة رومية وطبع عليه خاتمه وأخرج شقة صفراء فيها مائتان وعشرون دينارا فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وترى الجواري فيها ستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشرذمة من فتيان العرب فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا لابسة حريرين صفيقين تمتنع من العرض ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها وتسمع صرخة رومية من وراء ستر رقيق فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه فيقول بعض المبتاعين علي ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة فتقول له بالعربية: لو برزت في زي سليمان بن داود وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك فيقول النخاس: فما الحيلة ولابد من بيعك فتقول الجارية: وما العجلة ولابد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته. فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إن معك كتابا ملطفة لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه تناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه فان مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك. 
قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن عليه السلام في أمر الجارية فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرجة والمغلظة أنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي عليه السلام من الدنانير فاستوفاه وتسلمت الجارية ضاحكة مستبشرة وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا عليه السلام من جيبها وهي تلثمه وتطبقه على جفنها وتضعه على خدها وتمسحه على بدنها..
وهكذا صارت هذه السيدة الجليلة في بيت الإمامة، منذ أيام الإمام الهادي عليه السلام لتحتضنها اليد القديرة في بناء الإنسان، والمربية الحكيمة (حكيمة بنت الجواد عليه السلام) فـ (دخلت، أم المهدي إلى بيت الإمامة.. جارية من نسل شمعون الوصي، شاء لها سعدها، وطيب نفسها أن يكتب لها الله سبحانه هذه المنزلة العالية.. 
سليل، سوسن، نرجس، ريحانة، مليكة.. وغيرها، أسماء مختلفة لشخصية واحدة هي زوجة الإمام العسكري والتي شاء الله أن تكون وعاء لحجة الله الكبرى، وآيته العظمى صاحب النهضة العالمية الإمام المهدي عجل الله فرجه. تعدد الأسماء يكشف عن حراجة الوضع الذي كان يعيش فيه الإمام ويكشف عن حالة التخفي وراء عناوين متعددة وأسماء مختلفة، من قبل زوجته، أم المهدي عجل الله فرجه، فقد نمي إلى علم السلطة أن الحسن قد تزوج في عهد أبيه الهادي، من امرأة يتوقع أن تكون أم الموعود المنتظر، وظلوا يراقبون الأمر، إلى أن كبسوا دار الإمام بعد شهادة أبيه الهادي عليه السلام، وفتشت الدار والدور القريبة منها أيضا، وأمروا بتفتيش النساء، ومعرفة أسمائهن، والتعرف على من تكون منهن عليها آثار الحمل.. وكان تعددا الأسماء منجيا عن المراقبة، فإذا طلبوا سليل فليست هنا، وإنما الموجودة هي سوسن، ولو طلبوا ريحانة فالموجودة هي نرجس، وهكذا..
بينما كانت أم المهدي، في عهدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام، والتي كانت قد نهلت من علوم أبيها الجواد ما جعلها تليق بمكانة أستاذة لأم آخر الأوصياء المعصومين، فقد قال الإمام العسكري عليه السلام عندما قرر الزواج من نرجس لعمته حكيمة، أن تأخذها عندها فتعلمها فرائض الإسلام، وعلوم النبوة وثقافة أهل البيت فنادى أحد غلمانه وقال له: يا كافور ادع لي اختي حكيمة فلما دخلت عليه قال عليه السلام لها: هاهيه فاعتنقتها طويلا وسرت بها كثيرا فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم عليه السلام. وبالفعل فقد بقيت في بيت حكيمة مدة من الزمان حتى لقد عرفت بين الناس بأنها جارية حكيمة، وعلى يد بنت الجواد عليه السلام، أخذت من علوم أهل البيت عليهم السلام الكثير، ولولا أن الدور الذي كان ينتظر السيدة نرجس، كان يتطلب الكتمان والتخفي، لظهر من آثار تلك العلوم والمعارف شيء ليس بالقليل. ولقد برعت التلميذة فيما أخذت، وبلغت من الفضل ما بلغت، إلى الحد الذي نرى فيه السيدة حكيمة عليها السلام فيما بعد تسوي حذاءها، وعندما تعترض نرجس على ذلك تواضعا، تقول لها حكيمة: أنا فداك وجميع العالمين!!..
بلى؛ لا يعرف الفضل إلا أهله)(11).







الهوامش:
1- الناظر يلاحظ محورية القسط والعدل في روايات المهدي المنتظر، وجهة ذلك ما نراه من أن السبب الرئيس في الفساد العالمي هو فقدان القسط والعدل، فأنت ترى الفساد السياسي مرجعه إلى الظلم والجور، والفساد الأخلاقي كذلك، بل فساد الأنفس مرجعه إلى (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم: ٩) فزوال النعم عن الأمم وبوار الدنيا، ونهاية الحضارات هي بسبب الظلم كما في كتاب الله العزيز (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل: ٥٢).. (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (الحج: ٤٥) 
ولا غرابة في ذلك فإن (الظلم في الدنيا بوار وفي الآخرة دمار) وهو (يزل القدم ويسلب النعم ويهلك الأمم) كما في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام. ويكفيك أنه (لا أثر بعد عين).
2- في أحاديث الفريقين مثلما: نقل ابن حبان في صحيحه ١٥/ ٢٣٨: عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي أقنى يملأ الأرض عدلا كما ملئت قبله ظلما يملك سبع سنين.. 
- ونقل الطبراني في المعجم الكبير ج ١/ ١٣٣: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا..
- وفي روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام عدد كبير بهذا النص، وأكثرها معتبر السند -وإن كانت مع كثرتها وتظافرها لا تحتاج إلى تحقيق سندي- مثل موثقة أبي بصير، التي رواها ابن بابويه القمي في كتابه الإمامة والتبصرة بسنده عن أبي بصير عن الصادق جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقا وخلقا، تكون له غيبة وحيرة حتى تضل الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب، فيملاها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
3- ذكر بعض المحققين أن الروايات الواردة من طرق السنة حول شؤون المهدي تزيد على أربعمائة حديث، ومن طرق الشيعة تزيد على خمسة آلاف.
4- في بحار الأنوار ج ٥١ ص ١٦: عن أحمد بن الحسن بن إسحاق القمي قال: لما ولد الخلف الصالح عليه السلام ورد من ‏مولانا أبي محمد الحسن بن علي، على جدي أحمد بن إسحاق كتاب وإذا فيه ‏مكتوب بخط يده عليه السلام الذي كان يرد به التوقيعات عليه: ولد المولود فليكن ‏عندك مستورا وعن جميع الناس مكتوما فانا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى ‏لولايته أحببنا إعلامك ليسرك الله به كما سرنا والسلام.‏
5- وكذلك فيه عن أبي جعفر العمري قال: لما ولد السيد (الحجة) عليه السلام قال أبو محمد عليه السلام: ابعثوا إلي أبي عمرو، فبعث إليه فصار إليه فقال: اشتر عشرة آلاف رطل خبزا وعشرة آلاف رطل لحما وفرقه أحسبه قال: على بني هاشم وعق عنه بكذا وكذا شاة. 
وفيه أيضا عن محمد بن إبراهيم الكوفي أن أبا محمد عليه السلام بعث إلى (بعض) من سماه لي بشاة مذبوحة قال: هذه من عقيقة ابني محمد.
6- عن الحسن بن الحسين العلوي أنه قال: دخلت على سيدنا أبي محمد الحسن ‏العسكري بسر من رأى فهنأته بسيدنا صاحب الزمان عليه السلام.
7- الغيبة للشيخ الطوسي ٢٤٤.
8- ورد تلقيبها بذلك في كلمات أمير المؤمنين، والحسن، والصادق والكاظم، والرضا عليهم السلام.
9- ليس هناك تفاصيل عن هذه المعركة والتي ذكرت في سياق قصتها التي ينقلها العلامة المجلسي رحمه الله في البحار عن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي قدّس سرّه.. ولكن نقل ابن كثير في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٩٠ ما يلي:.. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين فيها أغزى المنتصر وصيفا التركي الصائفة لقتال الروم، وذلك أن ملك الروم قصد بلاد الشام، فعند ذلك جهز المنتصر وصيفا وجهز معه نفقات وعددا كثيرة، وأمره إذا فرغ من قتال الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين، وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق كتابا عظيما فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه.. 
فقد تكون هذه المعركة (غزو الصيف) والتي يوافق تاريخها، قريبا من تاريخ ولادة الإمام الحجة عجل الله فرجه، حيث أنها قبل ولادته بسنتين، فلعل هذه الفترة كانت هي الفترة التي قدمت فيها السيدة نرجس إلى بيت الإمام العسكري عليه السلام، وكان أن تزوج بها فولدت له الحجة المنتظر. 
10- صفحة ٢٠٨، ولسنا في مقام نقد الرواية سندا، وإنما ننقلها عن الكتاب وعهدتها عليه.
11- يراجع ترجمة حكيمة بنت محمد بن علي الجواد عليه السلام في هذا الجزء.






المصدر: كتاب نساء حول أهل البيت(ع)، فوزي آل سيف، ج2.

التعليقات (0)

اترك تعليق