حكيمة معلمة لأم المهدي عليه السلام
حكيمة معلمة لأم المهدي عليه السلام:
توفيت بعد سنة ٢٦٢ هجرية.
يتعجب الناظر إلى التاريخ حينا، ويمتلئ غضبا حينا آخر، عندما يرى أن المفاصل الأساسية التي اعتمد عليها هيكل الحضارة الإسلامية، وبناء الدين الشامخ، تخلو منها كتب كثير من المؤرخين، ويمرون عليها غير كرام!! فلا يعطونها حقها من الذكر. بينما تمتلئ صفحات كتبهم بقصص السقوط، وتفاهات الحاكمين، ومن في بلاطهم.
ويأتي الجيل الذي يريد الاطلاع على تأريخ أمته، فلا يجد في ذلك التاريخ إلا المخازي، خمريات يزيد شعرا وشربا، وشهويات هارون قولا وفعلا.. (فقد شغف بجارية لأبيه المهدي كان قد دخل بها -أي المهدي- فامتنعت عليه، وقالت له: لا أصلح لك إن أباك قد طاف بي)..وزاد غرامه بها فأرسل خلف الفقيه أبي يوسف، فقال له: أعندك شيء في هذا؟ فأفتى أبو يوسف بما خالف كتاب الله وسنة نبيه قائلا: يا أمير المؤمنين أو كلما ادعت امة شيئا ينبغي أن تُصدق(1)؟ لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة!! وقد أفتى أبو يوسف بما يوافق هوى هارون وأعرض عما حكم به الإسلام من تصديق النساء على فروجهن!!
وتعلق هواه بجارية فأمر وزيره يحيى أن يدفع ثمنها وكان مائة ألف دينار، فاستكثر يحيى المال واعتذر عن دفعه فغضب الرشيد! فأراد يحيى أن يبين له مقدار ما يتحمله بيت المال من هذا الإسراف الذي لا مصلحة فيه ولا منفعة، فجعل المال دراهم، فبلغت مليونا فوضعها في الرواق الذي يمر به الرشيد إذا اراد الوضوء، فلما رأى ذلك استكثره وأدرك إسرافه. وجبي مال عظيم من بقايا خراج الموصل فأمر بصرفه أجمع إلى بعض جواريه فاستعظم الناس ذلك وتحدثوا به، وأصاب أبو العتاهية من ذلك شبه الجنون فقال له خالد بن الأزهر: ما بك يا أبا العتاهية؟ فقال: سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة؟؟
وإذا كان المؤرخون المعاصرون للخلفاء يدافعون عنهم طمعا في دنياهم وأموالهم، فلا أعلم لماذا يدافع مثل ابن خلدون عن هارون قائلا بأنه: لم يكن الرجل بحيث يوقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها..
ولا أعلم هل كان أولئك الحاكمون على السذاجة، أو المؤرخون الذي كتبوا عنهم -كابن خلدون- زاعمين أنه لم يكن على تلك الحال بل كان يغزو عاما ويحج عاما!!.. نعم لو كانت غزواته كالتي ذكرت أعلاه، فلم تكن كل عام بل ربما كل يوم..
أوردت لك عزيزي القارئ، نموذجا لكي تعرف مقدار الجناية التي ارتكبت بحق تاريخ الأمة الحقيقي، عندما أُبرز تاريخها وكأنه تاريخ البلاط والقصور والخمريات، والشعراء المرتزقة، والفقهاء الطبالين على أبواب السلاطين، بينما كان تاريخها الحقيقي هو تاريخ العلم، ونشر الشريعة، وقصص العفة والفضيلة، تاريخ الجهاد بأكبره وأصغره، تاريخ الإمامة.
* * *
والآن عزيزي القارئ.. هلم لنفتح صفحة من أطهر الصفحات، لامرأة نسلت من أطهر البيوت، وقد قامت بدور سيكون مرتبطا به مصير استمرار الإمامة، والولاية. تلك هي حكيمة بنت الإمام محمد بن علي الجواد، أخت الإمام علي الهادي، وعمة الإمام الحسن العسكري عليهم السلام جميعا. ولا بد أن نتعرف قليلا على الدور الذي عاشت فيه هذه السيدة الطاهرة، وهو الذي يبدأ من أيام المتوكل العباسي ثم المنتصر، ثم المستعين ثم المعتز والمهتدي والمعتمد (ما بين ٢٣٢ هـ و٢٥٦).
ويذكر المؤرخون عن هذه الفترة مواصفات مشتركة، من أهمها الضعف العام الذي استولى على مؤسسة الحكم، ففقدت حتى احترامها الظاهري بين الناس بل بين أعوانها الأتراك الذين أصبحوا فيما بعد سادتها، فكانوا ينصبون ويعزلون كما يشاؤون، إلى الحد الذي تذكر فيه هذه الطرفة التي تحكي عن الحالة آنئذ: لما جلس المعتز على سرير الخلافة قعد خواصه وأحضروا المنجمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة، وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته، فقالوا: فكم تقول أنه يعيش وكم يملك؟ فقال: مهما أراد الأتراك!! فلم يبق في المجلس إلا من ضحك..
والملاحظ أنه في نفس الوقت الذي زاد ضعف الخلفاء امام الأتراك، كانوا يستأسدون على المؤمنين لا سيما على أهل البيت عليهم السلام، وهذه المعادلة يبدو أنها عند الحاكمين تجري كقاعدة، بينما العكس هو الموافق للحكمة، فنرى البعض من الحاكمين عندما يزداد ضعفهم يزداد عنفهم على شعوبهم، فيقمعون كل كلمة، ويحاربون كل تجمع، ويهدمون كل قوة، خوفا ورعبا، بينما لو اتجهوا إلى هذه الشعوب، وأعطوها بعض ما لها من حقوق لزادت قوتهم، ولتغلبوا على ضعفهم، ولانتصروا على عدوهم.
انظر إلى المتوكل فهو في نفس الوقت الذي يتآمر عليه الأتراك -وهم صنائعه- حتى انتهى الأمر بهم أن قتلوه، بدلا من أن يتجه إلى إكرام المسلمين من رعيته، ولا سيما أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإذا به يعلن عليهم الحرب، فيحرث قبر الحسين، ويمنع الناس من زيارته، ويسجن الإمام عليا الهادي عليه السلام، ويتهدده بالقتل بين فترة وأخرى، وبزعم الدفاع عن السنة، فقد حول فتنة خلق القرآن إلى سيف سلطه على كل من عارضه، فوقع الناس بين مطرقة خلق القرآن أيام المأمون والواثق وبين سندان القول بقدمه أيام المتوكل!!
وجاءت أدوار من بعده لتسوء الحالة أكثر -باستثناء فترة قصيرة أيام المنتصر-، وبحسب ما كان لدى الحكام العباسيين، وغيرهم من علم بأن المهدي الموعود الذي وردت صفاته، وبُشر به من أيام رسول الله، وهو الثاني عشر من الأئمة سيكون من ولد الإمام العسكري، وعلى يده سيكون إزالة الظلم والانحراف، وإقامة حكومة العدل الإلهي بقيادة مهدي آل محمد، فأعلنوا حالة طوارئ قصوى في البلاد، وسعوا جهدهم للقضاء عليه قبل أن يشتد عوده، ففرضوا الإقامة الجبرية على أبيه العسكري عليه السلام، وكان منزله مراقبا طول الوقت، وكان كل تغيير يحصل في الوضع العام على مستوى الحاكم، لا بد أن يفتتح أمره بسجن الإمام عليه السلام، فقد سجن في أيام المستعين العباسي، ثم لما خلعه الأتراك وأمروا بقتله، وأتوا بالزبير بن المتوكل الملقب بالمعتز، وكان هذا كأبيه في نصبه وعدائه لأهل البيت عليهم السلام، كان أول ما افتتح به عهده هو إعادة الإمام إلى السجن بعدما كان قد أفرج عنه، وهلك هذا الثاني (المعتز) في ما قيمته خمسون ألف دينار فقد طلب منه قادته الأتراك هذا المبلغ ليوزعوه على أنصارهم، ولم يكن في خزينة الدولة التي انهارت هذا المبلغ، فخف المعتز إلى أمه المسماة (قبيحة) وطلب منها أن تعينه في ذلك، وكانت تملك ما يقارب من مليون وثمانمائة ألف دينار، مخبأة هذا عدا عن غيرها من الجواهر!
وجاء (ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه) المسمى بالمهتدي، وعلى سنة أسلافه مضى، وكعاقبة سابقيه انتهى.. وفي عهد التالي له، المعتمد استشهد الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وكان لا يزال في ريعان شبابه.
في هذا الوضع الحرج، حيث كان الاتصال بين الإمام وبين شيعته ممنوعا، ومنزله مراقبا، والمنتظر ابنه مترقبا، والأمور كلها في حالة استثنائية.. كان من المهم أن تتم ولادة الإمام المهدي عجل الله فرجه، بنحو خاص ينجو فيه من الرقابة، وكان ما يعرض للشيعة من مشاكل ومسائل يحتاجون فيها إلى رأي الإمام عليه السلام، لا بد من وصوله إليهم، من دون اتصال مباشر.
وهنا تجلى الدور الحكيم، للسيدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام، فقد مارست دورها كأفضل ما يمكن لأحد أن يمارسه..
في أيام الإمام علي الهادي عليه السلام دخلت أم المهدي إلى بيت الإمامة.. جارية من نسل شمعون الوصي، شاء لها سعدها، وطيب نفسها أن يكتب لها الله سبحانه هذه المنزلة العالية..
سليل، سوسن، نرجس، ريحانة، مليكة.. وغيرها، أسماء مختلفة لشخصية واحدة هي زوجة الإمام العسكري والتي شاء الله أن تكون وعاء لحجة الله الكبرى، وآيته العظمى صاحب النهضة العالمية الإمام المهدي عجل الله فرجه. تعدد الأسماء يكشف عن حراجة الوضع الذي كان يعيش فيه الإمام ويكشف عن حالة التخفي وراء عناوين متعددة وأسماء مختلفة، من قبل زوجته، أم المهدي عجل الله فرجه، فقد نمي إلى علم السلطة ان الحسن قد تزوج في عهد أبيه الهادي، من امرأة يتوقع أن تكون أم الموعود المنتظر، وظلوا يراقبون الأمر، إلى أن كبسوا دار الإمام بعد شهادة أبيه الهادي عليه السلام، وفتشت الدار والدور القريبة منها أيضا، وأمروا بتفتيش النساء، ومعرفة أسمائهن، والتعرف على من تكون منهن عليها آثار الحمل.. وكان تعددا الأسماء منجيا عن المراقبة، فإذا طلبوا سليل فليست هنا، وإنما الموجودة هي سوسن، ولو طلبوا ريحانة فالموجودة هي نرجس، وهكذا..
بينما كانت أم المهدي، في عهدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام، والتي كانت قد نهلت من علوم أبيها الجواد ما جعلها تليق بمكانة أستاذة لأم آخر الأوصياء المعصومين، فقد قال الإمام العسكري عليه السلام عندما قرر الزواج من نرجس لعمته حكيمة، أن تأخذها عندها فتعلمها فرائض الإسلام، وعلوم النبوة وثقافة أهل البيت فنادى أحد غلمانه وقال له: يا كافور ادع لي أختي حكيمة فلما دخلت عليه قال عليه السلام لها: ها هيَ فاعتنقتها طويلا وسرت بها كثيرا فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم عليه السلام. وبالفعل فقد بقيت في بيت حكيمة مدة من الزمان حتى لقد عرفت بين الناس بأنها جارية حكيمة، وعلى يد بنت الجواد عليه السلام، أخذت من علوم أهل البيت عليهم السلام الكثير، ولولا أن الدور الذي كان ينتظر السيدة نرجس، كان يتطلب الكتمان والتخفي، لظهر من آثار تلك العلوم والمعارف شيء ليس بالقليل. ولقد برعت التلميذة فيما أخذت، وبلغت من الفضل ما بلغت، إلى الحد الذي نرى فيه السيدة حكيمة عليها السلام فيما بعد تسوي حذاءها، وعندما تعترض نرجس على ذلك تواضعا، تقول لها حكيمة: أنا فداك وجميع العالمين!!.. بلى؛ لا يعرف الفضل إلا أهله.
الهامش:
1- تاريخ الخلفاء.
المصدر: كتاب نساء حول أهل البيت(ع)، فوزي آل سيف، ج2.
اترك تعليق