أمهات مغدوشة يحترفن تقطير ماء الزهر..
أمهات مغدوشة يحترفن تقطير ماء الزهر..
بين شجرة الزهر والأم حكاية من العطاء... فكلتاهما يعطيان بلا حدود، فالأم التي تلد وتسهر الليالي من أجل تربية أولادها، تماماً مثل الشجرة التي يتفتح ثمارها لتنبت الخير، وبينهما موعد من العطاء يتجدد كل عام في آذار فالأرض تفرح بربيعها والأم في عيدها..
وبين الزهر والأم رحلة عمل لا تنتهي، فالأولى تُعطي أجمل ما تملك رائحة وجمالاً، والثانية تكافح من أجل وجودها في المجتمع، وسد رمق عيشها وعائلتها خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة..
وفي حقول بلدة مغدوشة تُترجم حكاية العطاء بأسمى معانيها، فالأم تقطف الزهر من على الشجر، لتحوّله بأناملها الى ماء زهر ومشتقات أخرى موعده الربيع، لكن هذا العام حل موسم التقطير باكراً، وانتهى قبل أن يبدأ موعده في الثلث الأول من آذار، فموجة الحر والشلوق الذي ضربت لبنان ومنها صيدا منذ أسابيع، جعل الربيع يطل باكراً وزهر «البوصفير» يتحول على عجل إلى ماء زهر، حيث تفوح رائحته العطرة لتعبق بالمكان امتدادا لأشجاره التي تغطي المساحة الأكبر من البلدة..
وماء الزهر الذي يعتبر مهنة موسمية ينتظره محترفوه من عام إلى آخر بفارغ الصبر، ليشكل مصدر رزق لهم، لا يخلو بيت لبناني واحد سواء في المدينة أو القرية من قارورة منه، إذ عادة يستخدم في الطب المنزلي وخاصة لأوجاع البطن، كما لصناعة الحلويات وتعطير الشراب، يُباع في الأسواق أو يُصدر إلى الخارج كصناعة لبنانية رائجة فضلاً عن تقديمه هدايا..
رحلة الأمهات والقطاف
تبدأ رحلة الأمهات مع تقطير ماء الزهر من بساتين «الخلة» في البلدة وتمر بمراحل متعددة، حيث يُقطف زهر الليمون البري «بوصفير» كما يُسمّيه «المغدوشيون»، ثم يُغربل ويُنقى من الورق والعيدان، ويُغسل إذا كان تَعرّض للغبار أو التراب، ويُفرش على غطاء لأن تكدس بعضه فوق بعض يُعرّضه للإهتراء والذبول، على أن لا يحفط أكثر من يوم أو يومين، إذ من المفضل المباشرة فوراً بتقطيره بواسطة «كركة» من الألمنيوم أو النحاس، وحالياً من «الستانلس ستيل»، ويختلف حجمها باختلاف حجم عملية التقطير.
وتحترف كثير من أمهات البلدة هذه المهنة، ويلجأن في أغلب الأحيان إلى «كركة» صغيرة تتسع من 5-8 كلغ من الزهر، كانوا في الماضي يشعلن الحطب تحت «الكركة»، أما اليوم فيعمدن إلى وضعها على الغاز، بحيث يُوضع الزهر داخل «الكركة» ويُغمر بالماء، ثم يُقفل عليه بالقسم العلوي من «الكركة» الذي توضع فيه المياه الباردة، ويجري «تطيين» الوصلة بواسطة الرماد أو الطحين المجبول بالماء، منعاً للتبخر في اتجاه الخارج، ويمكن تقوية النار في بداية النزل، وعندما تبدأ قطرات الماء تخرج من أنبوب متصل بـ «الكركة»، فمعنى ذلك أن الزهر بدأ يتحول إلى بخار، فماء، عندها ينبغي تخفيف النار إلى أقصى حد بحيث تنزل القطرات قطرة قطرة، على أن المطلوب الانتباه الدائم إلى تغيير الماء في القسم العلوي كلما فتر، واستبدال الماء البارد الذي يلعب الدور الأساسي في تحويل البخار الداخلي إلى ماء الزهر.
إيناس حبيب تشير إلى منتوجاتها البيتية
وتوضح الأم إيناس حبيب (65 عاماً) لديها 4 أولاد و6 أحفاد، أنها باشرت العمل منذ 3 سنوات بعدما افتتحت محلاً صغيراً لبيع ماء الزهر، وكل ما يتعلق بالمنتوجات «لبيتية» مثل: شراب الورد، بوصفير، التوت، النعناع، دبس الرمان، خل التفاح، خل العنب، مربيات التين، سفرجل، اللقطين، المكدوس والكبيس والصابون البلدي وزيت الزيتون، قبل أن تضيف «ولكن ماء الزهر يبقى الأفضل فيه نكهة خاصة ومغدوشة رائدة في صناعته».
وتضيف: إن عملية التقطير سهلة، لا تحتاج إلا إلى خبرة، وكل كلغ واحد من زهر «البوصفير» يقطر قارورة واحدة من ماء الزهر، ثم تعبأ القطرات في قوارير متوسطة ويُحكَم إغلاقها منعاً لتسرب الرائحة، ثم تعرض للبيع بمبلغ 10 آلاف ليرة لبنانية..
وأشارت إلى «أنني أعمل وحدي دون أي مساعدة، ربما لأنني أعشق العمل وعندنا رزق وأراضي، في لقمة عيشنا لا نعتمد على أحد حتى على الأولاد كما يفعل الكثير من الناس، فالأم التي تعطي أولادها بلا حدود لا تنتظر أن تأخذ منهم شيئاً».
وأكدت «أن المهنة لا تؤدي إلى العيش ببحبوحة، أو تهدف إلى الربح الوفير أو الثراء الفاحش، هي كي تستر الإنسان ويعيش بعيداً عن ذل السؤال أو الحاجة، فيها بعض الإرهاق والتعب ولكن في ذات الوقت تشعر بمتعة خاصة في صناعتها إذ تعبق فيك رائحة الزهر والأرض لتعيد نبض الحياة من جديد».
وإذ حيت إيناس الأم العاملة في عيدها، وعتها إلى «المزيد من العمل وشق طريق النجاح في شتى المجالات، فالأم مثل الأرض تُضحي من أجل فرح الأولاد وسعادتهم، ولكن للأسف في هذا الزمن فإن كثيراً منهم لا يقدرون هذه التضحية».
وتؤكد الأم ليلى إيليا (لديها 3 أولاد و3 أحفاد)، أنها احترفت المهنة منذ 22 عاماً، لكنها «لا تفكر أبداً في اعتزال العمل، ففيه متعة لا يشعر بها إلا من يحترف هذه المهنة».. قبل أن تضيف: «سأبقى أحافظ عليها كتراث من أصالة البلدة، وفي ذات الوقت كمهنة نعتاش منها».. معتبرةً أن شهرة مغدوشة بصناعة ماء الزهر تشجع كل أم على احتراف تقطيره، والأيام كفيلة بأن تجعل من كل واحدة خبيرة حتى دون أي معلم، علماً أن معظم الأهالي يتوارث هذه المهنة أباً عن جد، مؤكدة أن ما يميزنا عن الآخرين أننا نقطره على «أصوله»، والذي يشتري منا مرة لا بد وأن يعاود الكرة مرة أخرى، لا نغش ونكتفي بالربح القليل».
وقالت: إن صناعة ماء الزهر مهنة موسمية، ننتظرها من عام إلى آخر كي نجني قوت يومنا ومصروفنا دون أن نحتاج إلى أحد، وهي في كل الأحوال تقطر في المنزل أي لا تحتاج الأم الانتقال إلى مكان عمل بعيد، واصفةً الأمر بأنه شعور جميل عندما يتم قطاف الزهر عن شجر «البوصفير»، حيث يسرح الإنسان في أحضان الطبيعة ويخرج من كل ما يضايقه.
وأضافت: عادة يبدأ موسم قطاف زهر الليمون في الثلث الأول من آذار، ويستمر حتى نهاية نيسان، ولكن هذا العام حل الموسم باكراً بسبب موجات الحر التي ضربت لبنان، فداهمنا الموسم.
وأوضحت «إنني أقطف الزهر وأبيعه وفي غالب الأحيان أصنعه».. مشيرة إلى «أن عملية التقطير تتطلب 6 ساعات، من الغلي إلى البخار، ولا فرق في حجم «الكركة» سواءً كانت كبيرةً أم صغيرة، بعضها يستوعب 5 كلغ وبعضها الآخر 300 كلغ، والأفضل أن تكون بين (40- 70) لأنها تعتبر المثالية في عملية التصنيع وخاصة إذا كانت من النحاس، وتنتج كل (5 - 6) كلغ «ألفية» - أي ما يوازي تقريباً كل كلغ قنينة.
وأوضحت «إن استعمالات ماء الزهر كثيرة، فقد درجت العادة لدى اللبنانيين على إضافة قليل منه إلى الحلويات العربية لمنحها نكهة خاصة، ويلجأ كثيرون إلى اعتماد القهوة البيضاء بدلاً من القهوة التقليدية، وتُعَدّ بالماء الساخن وقليل من السكر وماء الزهر، فضلاً عن استخدامه في الطب المنزلي ولوجع البطن، تحديداً عند الاطفال والكبار على حد سواء».
يؤكد أبناء مغدوشة أن بلدتهم تتحول في موسم الربيع الى عاصمة زهر «البوصفير» و«ماء الزهر»، إذ يعود بعض أشجارها إلى نحو 150 سنة وتنتج حالياً ما بين 100 و120 طناً من الزهر، وقد ساعدت «الوكالة الأميركية للتنمية» في بناء أكبر معمل من نوعه لصناعة ماء الزهر المزوّد بأحدث التقنيات.
ويعمل في هذا الموسم نحو 300 عامل وعاملة في قطاف الزهر، وينتجون نحو 3 أطنان من ماء الزهر يومياً، وتقطف الشجرة بين مرتين وأربع مرات في الموسم بحسب الطقس، وتقطف الحبة المستطيلة أولاً أو الشامطة، على أن تقطف الحبات الأصغر في القطاف الثاني أو الثالث أو الرابع، ويُفضل أن لا يتعدى تفتح الزهرة 15% حتى لا يتعارض نضوجها مع رائحتها الذكية.
أما السعر فيختلف بين الجملة والمفرق، ويسلم بالجملة دون 10 آلاف ليرة للقارورة الواحدة، وبالمفرق بين 10 و15 ألف ليرة.
تذكير وشهرة
يطلق اسم شجرة «البوصفير» على شجرة الليمون المر، وصادف أن كانت بلدة مغدوشة تضم 3 بساتين من هذا الليمون، في أوائل السبعينيات وفي منطقة يطلق عليها اسم (الخلة)، وربما كانت تربتها من أنسب أنواع التربة لهذا الشجر، فاشتهرت بصناعة ماء الزهر ومشتقاته، ووصلت شهرتها الى كل المناطق اللبنانية وحتى إلى الشام، والآن إلى الدول العربية والاغترابية.
المصدر: جريدة اللـواء
ثريا حسن زعيتر
اترك تعليق