الشهيد القائد قاسم سليماني: شعرت أنني أرى السيدة الزهراء عليها السلام
شعرت أنني أرى السيدة الزهراء عليها السلام
قبل عمليّات "والفجر8"، قمنا بعدّة إجراءات بالغة الأهمية ومؤثرة في خططنا العسكرية قبل بدء الهجوم. أحد هذه الإجراءات كان دراسة حركة الجَزْر والمد في جميع الأنهار المتشعّبة من نهر أروند.
وفي الواقع، فإنّ لجزر الماء ومدّ جدولًا محدّدًا وهو جدول ثابت أيضًا. أنتم تستطيعون أن تشخّصوا حركة الجزر والمد لسنة كاملة، ولا يعدّ هذا الأمر معقّدًا من الناحية العلمية.
لكنّنا اكتشفنا مسألة دقيقة في نهر أروند كانت بالنسبة لنا مهمة جدًّا من الناحية التكتيكيّة. من الطبيعي، عندما يصطدم النهر بالبحر ترتدّ مياهه -وهذا الارتداد يحصل في زمن المد- والنهر في الواقع لا يحصل فيه جزر ومد، إنما يحدثان في البحر فقط. وعندما يصطدم مدّ البحر بالنهر فإنّ مياه هذا النهر ترتد. يحصل في النهر تراجع على خلاف مسيره الطبيعي.
وحيث إنّ هذا الماء يكون محصورًا في تجويف ونطاق جغرافي محدّد، ومن الناحية الأخرى يصطدم بالبحر أيضًا، بمعنى أنّ ضغط مد البحر يطوّقه، تمرّ أوقات على هذا الماء يكون فيها ساكنًا بالكامل. لا يجري فيه مد ولا جزر ولا حركة. وهذا السكون جعل نهر أروند وكأنّه مسبح ممكن العبور. هذا السكون الطويل كان يمتد في بعض أيام الشهر. ففي بعض الأيام كان يمتد لساعتين أو لأربع ساعات مثلًا، وبطبيعة الحال كان أروند يتمتع بسكون أكثر في أوقات أخرى. كنّا نراقب هذه الأزمنة لنحدد أفضل الظروف من الناحية الزمانية، خلال الليل وخلال أيام الأسبوع، وعلى مدار الشهر والساعات من أجل العبور. وأفضل الأوقات كان وقت سكون الماء هذا.
وهكذا، على أثر الأعمال المجهدة جدًّا التي قام بها شبابنا في جهاز المعلومات والاستطلاع ليلًا ونهارًا، اكتشفنا زمانًا هو يوم في شهر، وساعة في يوم وليلة، يمكن أن يكون أفضل وقت لعمليّاتنا. هذا الأمر كان ثمرة السعي المتواصل لشبابنا في جهاز الاستطلاع.
والملاحظة الأخرى هي أنه قبل تنفيذ العمليّات، وعلى الرغم من توافر استطلاع معلوماتي لدينا، خصّصنا لكل محور تقريبًا فريقَ استطلاع. وقسّمنا المحاور على الأنهر المتفرعة، ولكل نهر هدف محدّد في طرفه المقابل داخل أرض العدو. إضافةً إلى ذلك، كان هناك فريق استطلاع يقوم باستطلاع شاطئ العدو ومتاريسه.
فرق الاستطلاع هذه كانت مؤلفة عمومًا من فتية في مقتبل العمر كحسين عالي وحسين يزداني وشبّان في هذه الأعمار، ممّن كانوا عمومًا تحت سن 18 و19 سنة، لكنّهم كانوا ذوي بأس شديد. لقد وُفّقوا في عبور نهر أروند أكثر من 15 مرة، ووصلوا إلى شاطئ العدو. كانوا يمضون أوقاتًا في وسط أنهار العدو ويستطلعون حتى خطوطه الخلفية ومن ثم يعودون.
قبل ليلتين من تنفيذ العمليّات، طلبنا من كلّ قادة الكتائب والسرايا عبور النهر برفقة فرق الاستطلاع، وذلك لاستطلاع أهدافهم عن قرب ومن ثم العودة. ولقد كانت هذه الخطوة نقطة قوة كبيرة جدًا لنا.
كنّا قد أنجزنا خلال 40 يوماً تقريبًا أعمالًا صعبة أخرى. حيث شققنا في هذا المستنقع طريقًا بطول 1500 متر وبعرض يكاد يتّسع لسيارة واحدة، وأوصلنا الطريق إلى حافة النهر عند مشارف حقول القصب العالية التي كانت موجودة عند شواطئنا، ثم حفرنا متاريس هناك، وقد استخدمننا في عملية شقّ الطريق هذه شاحنات (قلّابة) التي كانت وحدها تستطيع السير إلى الخلف حتى قلب المستنقع.
حفرنا هذه المتاريس لتأتي الدبّابات وتستقرّ عندها. فإن واجه غوّاصونا مشكلة في اقتحام خطوط العدو ليلة الهجوم، أو حالت متاريس العدو دون متابعتنا للهجوم، أو ظهرت مشكلة ما، فإنّ هذه المنصّات التي تموضعت فوقها الدبّابات تستطيع تدمير المتاريس عند حافة النهر وتساعدنا في اقتحام خطوط العدو.
لقد أحضرنا كلّ عتادنا ووضعناه في ذلك المستنقع نفسه، بنينا منشآت (قواعد) إسمنتية. وبما أنّه كان مستنقعًا فإنّه لولا المنشآت الإسمنتية لكانت مدافع الهاون بعد عدة رميات تغرق فيه حتى الفوّهات.
وإذا غرقت المدافع في المستنقع، لم يعد لقذائفها أي تأثير. رحم الله الشهيد زندي الذي جهّز على مسافة كبيرة وسط بساتين النخيل قواعد لاستقرار وتثبيت مدافع الهاون حيث يشغل الواحد منها مساحة 20 قذيفة هاون، وذلك بصبّ الإسمنت فوق الصفحات الخرسانية المتبقية من قبل.
أما فيما يتعلق بإيجاد المقرات والملاجئ التي كنا نريد أن نستفيد منها لمصلحة قوّات الدعم، فقد جئنا إلى القرى، إلى البيوت التي كانت موجودة هناك، ومن دون أن يتم بناء أية متاريس جديدة قمنا بإنشاء متاريس في قلب هذه البيوت. في الواقع كان السقف في الأعلى هو سقف البيت الطيني لكن أسفل منه كان هناك متراس أضحى مقرًا أو مركز إسعاف أو ملجأ كتيبة أو محلًا لإخفاء تجهيزات أو ذخائر كانت قد استترت في ذلك الوادي.
أودّ الإشارة إلى هذه الملاحظة، وذلك لإنصاف الإخوة وعملهم، فإلى جانب التدريبات التي أشرت إلى قسم منها، وجراء شغل الشباب بالجزر والمد أو بماء البحر المالح أصيبت الأمكنة الحساسة من أبدانهم بالثآليل.
كان الأخوة يجرون تدريباتهم في فصل الشتاء القارس في قلب هذه المستنقعات الباردة من الليل حتى الصباح. لا أظنّ أنّ أحدًا من غواصي عمليات "والفجر8" و"كربلاء 5" و"كربلاء 4" الذين لا يزالون أحياء حتى الآن، لم يُصب بأي جراح خلال الحرب. فحتى أولئك الذين لم يصابوا خلال المعارك لا تقل نسبة جراحاتهم عن 50 بالمئة، فقد كان جهدهم في شحن الذخائر وإطلاق النيران من قلب هذا النطاق المائي وحربهم مع المدّ يتلف أبدانهم. ولكن روحية الإخوة ومعنوياتهم العالية في خضمّ هذه التدريبات تركت أثرًا كبيرًا على الجميع، وقد تأثرتُ إلى حدّ كبير بروحيتهم هذه.
كان كلّ فرد في فرقة الغوص هذه -والذين كانوا فتية وشبابًا صغارًا بالإجمال- بمنزلة عارف حقيقي يحمل تجربة 70 سنة في السير والسلوك والعمل. وأما ما يتعلق بالإيمان والاهتمام بالنوافل، فإن نغمات تهجّدهم ونحيبهم التي طالما علت في هدأة الليل كانت كفيلة بأن تقلب حياة كلّ من تطأ قدماه تلك البقعة، روحانيتهم تلك وآهاتهم وأدعيتهم ومناجاتهم التي تشهدها فيهم وهم مرتدون بدلات غوصهم المبلّلة بالماء في زاوية من بستان النخيل ذاك جعلت الواحد منهم يبدو كالسِقاء. وكأنهم يعيشون داخل أسقية الماء. كانت بدلات غوصهم كالأسقية المملوءة ماء. كان واحدهم قرب النخلة يتلوّى وينتحب كما لم يُر مثله "مضطرّ إذا دعا".
كانت ليلة عمليّات (والفجر8) وفق حساباتنا أفضل ليلة من حيث الزمان للبدء بتنفيذ العملية. أوصلت الإخوة إلى حافة الماء وارتدوا بدلات غوصهم قرب حقل القصب. وعند حلول الظلام توجهوا نحو حافة النهر. كان خندقنا هو تلك الحافة نفسها، وهي النقطة التي يليها المستنقع مباشرة. وقد رافق كتائب الغوص شباب فرقة الاستطلاع الذين كانوا ينزلونهم في الماء حيث مددنا أسلاكًا إلى جانبهم.
كانت تلك الليلة ليلة عجيبة. فمنذ العصر تبدّل حال الطقس بالكامل وصار عاصفًا. طوال الأشهر الثلاثة حين تفحّصنا كلّ مكان في نهر أروند، لم نشهد أمواج أروند على الحال التي كانت عليه عصر ذلك اليوم. كانت أمواجًا عاتية تقذف الماء بعيدًا على الشاطئ. وتُصدر أصواتًا مخيفة. كادت المراكب الكبيرة وحتى السفن لتختفي في تلاطم هذه الأمواج! وبطبيعة الحال فإن مجموعة الغوص اختفت في طيات هذه الأمواج. عندما رأيت هذا الوضع، تملّكني اليأس. فمن بين كلّ الإجراءات والتدابير التي اتخذناها شعرت حقيقةً أنّ أي تدبير عسكري لا فعالية له ولا تأثير.
أكّد لي شباب الاستطلاع الذين حدثتهم، وشباب كتائب الغوص الذين عبروا أروند قبلًا، عدم إمكانية عبورهم لأروند في ظرف كهذا، "هذه الأمواج لا تسمح لنا بالتقدم أساسًا، ستقذفنا إلى الخلف جميعنا".
حسنًا، كان بطبيعة الحال عملًا منسّقًا، ولا بدّ من القيام به. قلت للإخوة الأعزاء الذين كانوا يحملون نفس القناعة: إنّ نقطة أملنا الوحيدة معقودة على هذا الأمر، لم يكن أي شيء قادرًا على أن يمنحني قوة القلب والأمل بالاستمرار ويلهمني السكينة ويرفع عني الاضطراب غير هذا الكلام، قلت للإخوة: علينا بالتوسّل بالسيدة الزهراء عليها السلام.
في مثل هذه الأوضاع علينا أن نناديها ونتوسل بها، وهذا ما حصل. في الواقع ما حصل كان أمرًا عجيبًا. توجّه جميع الإخوة إلى طرف المستنقع وبدأوا بقراءة دعاء التوسل بالزهراء عليها السلام المعروف. واتّحد نداء "يا وجيهة عند الله اشفعي لنا عند الله" مع أصوات تلاطم أمواج أروند حتى بات الصوتان صوتًا واحدًا. في تلك الحال شعرت بكامل وجودي أنّني أنظر إلى السيدة الزهراء عليها السلام. أصلًا منذ اللحظة التي ألهمني الله ذلك وأخبرت الإخوة به، تملّكني إيمان غريب وسكينة عجيبة بأنّنا منتصرون.
وبالفعل، في تلك الليلة اقتحم الإخوة جوف الماء.
المصدر: من كتاب (قاسم سليماني – ذكريات وخواطر)، علي أكبر مزدآبادين مركز المعارف للترجمة، دار المعارف الإسلامية الثقافية، 2016م- 1437هـ.
اترك تعليق