مدينة الشمس تحتضن مالك الأشتر
بينما كنت أتصفّح كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات للهروي(1) (611هـ)، استوقفني المؤلّف عند الحديث عن بعلبك، بقوله: "على باب البلد من الشمال قبر مالك الأشتر النخعي(رضي الله عنه). والصحيح أنّه بالمدينة، وبها قبر حفصة زوجة النبي(ص) والصحيح أنّها أم حفص، أخت معاذ بن جبل، فإنّ حفصة ماتت بالمدينة". ولما كنت أعلم أنّ مالكاً مات في مصر، ولم أقرأ أو أسمع شيئاً عن وجوده في بعلبك، عندها ابتسمت فقط، وأطبقت الكتاب.
ذات يوم فيما أجول بإزاء السور الروماني، من جهة ثكنة غورو، شاهدت باباً رومانياً شبه كامل، وحينما سألت أهل الجوار عن اسمه، قالوا لي: هذا الباب الشمالي، فاستحضرني نصّ الهروي بقوة، وأخذت أحملق في الموقع، وأزيد السؤال، فشاهدت بناءً أثريّاً، قيل لي: إنّه قبّة السعادين، ولمّا قرأت النقش فوق مدخله، علمت أنّه مملوكي، وتاريخه 812هـ؛ أي في الفترة اللاحقة للهروي. بعدها لمحت بناءً مستحدثاً تحوطه حجارة أثريّة، كانت قبة ذات يوم، قيل لي إنّها (الست عفصة)، أي حفصة الوارد ذكرها في نصّ الهروي، لكن بقي قبر مالك الأشتر، أين هو يا ترى؟
تسارعت دقات قلبي، وامتلأت عروقي، بحثاً عن المفاجأة التي لا بدّ أن تكون في المحيط، فأخذتُ أُسرع الخطى، والتفت يُمنةً ويسرةً وسط البساتين، حتّى شاهدت قبراً ترابياً، يستظل تحت شجرةٍ من الصنوبر، فاقتربت من فلاح يعمل بقربه، متلطفاً في السؤال لعل هذا قبر أحد أقربائك؟ فأجابني: "كلّا، هذا مزار سيدي مالك الأشتر". عندها انشرح صدري، وصرت أتحسّس الضريح برويّة، متفكراً لماذا بقي سالماً من الاندثار وسط البساتين المزروعة، ودون أيّ بناء أو حتّى سياج. شكرت الفلاح الذي يُدعى "أبو مالك الشمالي"، الذي سُمّي كذلك، لنذر نذره لله تعالى، بحق صاحب هذا الضريح؛ ليررزقه الله تعالى مولوداً بعد عشرة سنوات من زواجه. حملت الخبر إلى المؤرّخ السيّد محسن الأمين(رحمه الله) فتعجّب للأمر، واعتبره صحيحاً في حال ثبوت مرور أمير المؤمنين في الجزيرة (شمال سوريا)، عندما أرسل مالكاً إلى مصر، عندها أخذت على عاتقي القيام بمهمّة التحقيق.
يُعتقد أنّ الهروي(2) كان أول من أشار إلى المقام، عندما أتى على ذكر بعلبك، وينقل عنه ياقوت الحموي(3) (660هـ) أيضاً عند ذكر بعلبك، فيذكر: "وبها قبر يزعمون إنّه قبر مالك الأشتر النخعي وليس بصحيح، فإنّ الأشتر مات بالقلزم في طريقه إلى مصر، وكان علي(رضي الله عنه) وجّهه أميراً، فيقال إنّ معاوية دسّ إليه السمّ بالعسل، فأكله فمات بالقلزم، فيقال إنّه نُقل إلى المدينة فدفن [فيها]، وقبره بالمدينة معروف". وأتى على ذكر المقام أيضاً، ميخائيل ألوف(4) في كتابه تاريخ بعلبك عام 1926، نقلاً عن ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، مستخدماً الرواية نفسها. كذلك أورده الشيخ قاسم الرفاعي(5)، في كتابه "بعلبك في التاريخ". وباللمقارنة، إنّ هناك آراء مختلفة في مكان ضريحه، فمنهم من أشار إلى وجوده في بعلبك عند الباب الشمالي، وآخر رأى إنّه دفن بالقلزم، وثالث قال: أعيد جثمانه إلى المدينة، ودفن فيها.
بطاقة هوية:
هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن سلمة بن جذيمة بن مالك النخعي. أدرك رسول الله(ص)، وهو من ثقاة التابعين، وكان رئيس قومه، شهد معركة اليرموك، فشُترت عينه بها(6). فلُقّب بالأشتر، وكان من أشدّ الناس إخلاصاً لأمير المؤمنين علي(ع)، وقد عُرف بإيمانه الراسخ، وإخلاصه الشامخ، وشجاعته المطلقة، وخطابته البالغة، وفصاحته المدهشة. جمع بين اللين والشدة والحزم والرفق، وقد شهد له الإمام علي(ع) بالقول: "وليت فيكم مثله اثنين، بل ليت فيكم مثله واحد"(7).
اشترك في معركةي الجمل وصفّين. وممّا جاء في خبر استشهاده أنّ عمرو بن العاص، وسفيان بن مجيب الأسدي، قد أوقعا بـ"محمد بن أبي بكر"، و"محمد بن حذيفة" وجماعة معه، فلمّا بلغ الإمام علي(ع) خبر استشهاد محمد بن أبي بكر، وكان في الجزيرة "شمال سوريا اليوم"، أرسل لمالك الأشتر، وأوكل إليه ولاية مصر، وعهد إليه بعهد الإمارة. وهو يعرف إلى اليوم بـ"عهد الأشتر"(8)، وأرسله إلى مصر.
لّا عرف معاوية بن أبي سفيان، إنفاذ مالك الأشتر إلى مصر، أغرى (دهقان العريش)(9) بإعفائه من الخراج لسنة كاملة، إذا استطاع اغتيال مالكاً، قبل أن يصل إلى مصر، وفي تلك الأثناء جمع معاوية أهل الشام، وخطب فيهم قائلاً: "إنّ علياً أرسل مالكاً الأشتر إلى مصر، فادعوا الله ألا يصل مالكاً إلى مصر". فقام الدهقان بوضع السمّ في كوب من عسل، وقدّمه لمالك بحيلة طويلة، فمات مالكاً فوراً. ولما وصل معاوية خبر استشهاد مالك، استهلّ فرحاً: "إنّ لله جنوداً من عسل، وكانت لعلي يمينان، قطعتُ الأولى في صفين، يعني الصحابي عمار بن ياسر(10)، والثانية اليوم"(11)؛ أي مالك الأشتر. ونعاه أمير المؤمنين(ع) بالقول: "إنّ لله وإنّا إليه راجعون والحمدلله ربّ العالمين، اللهم إنّي أحتسبه عندك، فإنّ موته من مصائب الدهر، رحم الله مالكاً، فقد كان وفياً بعهده، وقضى نحبه، ولقى ربّه مع إنّا وطّنّا أنفسنا أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول الله"(12). وحدّث أشياخ النخع قبيلة الأشتر قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر، وجدناه يتلهّف ويتأسّف عليه، ثمّ قال: "لله درّ مالك، وما مالك، والله لو كان جبلاً لكان فندا، ولو كان من حجر لكان صلدا، أمّا والله ليهدّنّ موتك عالماً وليفرحنّ عالماً، على مثل مالك فلتبك البواكي وهل موجود كمالك.. كان لي كما كنت لرسول الله(ص)"(13).
مالك والمدينة المنورة:
تغدو فكرة الرجوع بجثمانه إلى المدينة المنورة، ضعيفة جداً، خاصة أنّ العرف لدى المسلمين –وقتها- يوجب دفن شهدائهم في أرض المعركة(14). كما يوجد تعذر وصعوبة في العودة بالجثّة سليمة من مصر إلى المدينة المنورة؛ للدفن فيها في ذلك العصر. إضافة إلى إغفال المؤرخين والمحدّثين والثقاة والمحقّقين، ذكره من كافة القوائم المشهورة، والمعتبرة لأموات البقيع، حتّى إنّ الهروي لم يأتِ على ذكر مالك(15) عند ذكر قبور البقيع.
ثمّ يذكر الهروي أنّه في القلزم، ويقول: "عنده مالك بن الحارث الأشتر، لا يُعرف قبره"(16). ويورد الناصري(17) عن القلزم بالقول: "وهي قرية معروفة بالقرب من القاهرة، ومحطة القطار فيها تسمّى "بالقلج" وفي بعض المراجع تعرف بـ"كلك"(18)، وقبر مالك فيها مشهور بمرقد "الشيخ العجمي"، وقد تشرّفنا بزيارته وقراءة الفاتحة على روحه، والملاحظ أنّ مالك الأشتر لم يكن أعجميّاً؛ حتّى يُعرف قبره في القلزم "بالشيخ العجمي"، كما إنّ العجمي لقب المتصوفيين، الذين يغضبون بسرعة"(19).
حصار بعلبك:
إنّ ثبوت اشتراك مالك الأشتر في حصار بعلبك عند فتحها حسب رواية الواقدي(20)، وعند عمر التدمري بأنّ نسبة القبر إليه على باب بعلبك من جهة الشمال؛ لارتباطه بحادثة ما عند أهل بعلبك(21)، دليل قوي على حصاره للمدينة، ليس أثناء فتحها، وإنّما لفك أسر "محمد بن أبي بكر" و"عبد الرحمن ابن عديس" و"محمد بن أبي حذيفة" بعدما سيقوا جميعهم إلى سجن بعلبك(22). ولاسيما مع ورود رواية تؤكّد مقتل "ابن عديس" و"ابن حذيفة" في جبل لبنان(23)، على يد سفيان بن مجيب الأسدي، الذي كان حاكماً على بعلبك في خلافة معاوية بن أبي سفيان(24)، خصوصاً أنّ بعلبك كانت في تلك الفترة محلّ كرٍّ وفرّ بين جيش الإمام علي(ع) ومعاوية(25).
وقد حرص الأشتر على الوصول حتى بعلبك؛ لأنّه كان يمتلك جيشاً كثيفاً، مشهوراً بالقوة، والظاهر أنّ معاوية حرص على عدم مواجهة مالك عسكرياً في بعلبك؛ لقربه من عاصمة حكمه في دمشق، ولإيمانه بأنّ محاولة الاغتيال ستبوء بالنجاح.
كما إنّ مالكاً سلك طريق الفرات الغربيّ المعروف بطريق البريد، فمن حمص 13 ميلاً، ومن بعلبك إلى طبرية عبر عين الجر 20 ميلاً، ومن عين الجر إلى القرعون (وهو منزل في بطن الوادي) 15 ميلاً، ومن القرعون إلى القرية يُقال لها العيون "تل دبين" ثمّ تمضي إلى كفر ليلي 20 ميلاً، ومنها إلى طبرية 15 ميلاً، ثمّ إلى اللجون، الرملة، الجفار 17 سكة، ثمّ إلى الماوردية، ثمّ إلى الفسطاط عبر ازدود، غزة، رفح، العريش، الواردة، العذيب ثمّ الفسطاط(26).
وبالتالي، فإنّ الطريق الذي يسلكه الأشتر في طريقه إلى مصر، يملي عليه المرور في بلاد البقاع؛ لكونه أقرب الطرق وأيسرها، خاصة مع اعتماد الجزيرة مكان إقامة مالك، وخصوصاً مع نهي الإمام علي(ع) له أن يأخذ طريق السماوات(27).
فيرجح بحسب هذه النصوص، أن يكون ضريحه الحقيقي في بعلبك.
الهوامش:
1- الهروي: الإشارات إلى معرفة الزيارات، ص9.
2- (م.ن)، ص9.
3- ياقوت الحموي: معجم البلدان. ط1، دار الكتب الإسلامية، بيروت، (لا.ت)، ج1، ص454.
4- ألوف: تاريخ بعلبك، ص69.
5- الرفاعي، قاسم الشماعي: بعلبك في التاريخ، ص53.
6- الشتر: معناه انقلاب الجفن من أعلى وأسفل، وانشقاقه واسترخاء أسفله. يراجع: الفيروز آبادي: القاموس المحيط، ج2، ص56.
7- المنفري، نصر بن مزاحم: وقعة صفّين، ص512.
8- عهد الأشتر: هو أطول عهد كتبه أمير المؤمنين لأحد عماله على بلد من بلدان الخلافة الإسلاميّة، يراجع: شمس الدين، محمد مهدي، ص5.
9- الدهقان: بالكسر والضمّ، يعني القوي على التصرف مع حدّة، والتاجر وزعيم فلاحي العجم، ورئيس الإقليم: يراجع القاموس المحيط، ج4، ص226.
10- صحاب من الأوائل استشهد مع الإمام علي في صفّين في حربه ضد معاوية بن أبي سفيان. يراجع: القمي، عباس: منتهى الآمال في تاريخ النبي والآل.
11- المقريوي، ج2، ص68.
12- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج2، ص29-30.
13- القمي عباس، (م.س)، ص394.
14- مقابلة مع الدكتور حسن نصرالله، بتاريخ 15/4/2000م.
15- يراجع: الهروي، (م.س)، ص92-94.
16- (م.ن)، ص96.
17- الناصري، محمد باقر: مع الإمام (ع) في عهده لمالك الأشتر، ص20.
18- (م.ن)، ص12.
19- فكتور سحاب: التقاليد والمعتقدات والحرف الشعبيّة، ص87.
20- محمد الواقدي: من فتوح الشام ومصر والعراق.
21- تدمري، عمر عبد السلام: لبنان منذ الفتح الإسلامي حتّى سقوط الدولة الأموية، ص34.
22- تاريخ اليعقوبي 20/176.
23- أسد الغابة 4/316.
24- الصفدي: تاريخ الصفدي.. وسفيان بن مجيب الأسدي الشامي كان من قدماء الصحابة، وأنّ معاوية بن أبي سفيان زوج حفصة بنت أمية بن حرب، وكان أميراً على بعلبك في خلافة عثمان، يراجع: ابن عائذ في المعازي.
25- وقالوا: أقبل شبيب بن عامر من نصيبين في ستة مائة فارس ورجّالة، ويقال في أكثر من هذه العدد، فوجد كميلاً قد أوقع بالقوم واجتاحهم فهنأه بالظفر وقال: والله لأتبعنّ القوم، فإن لقيتهم لم يزدهم لقائي إلا هلاكاً وفلا، وإن لم ألقهم لم أثن أعنّه الخيل حتّى أطأ أرض الشام، وطوى خبره عن أصحابه، فلم يعلمهم أين يريد، فسار حتّى صار إلى جسر منبح، فقطع الفرات ووّجه خيله فأغارت ببعلبك وأرضها، ولمّا بلغ علياً خبر شبيب قال: رحم الله شبيباً لقد أبعد الغارة وعجّل الانتصار.
26- عبد الله ابن خرداذبه: كتاب المسالك والممالك، ص89.
27- المفيد: الاختصاص، ص89.
المصدر: مجلة نجاة، العدد: 20.
ذات يوم فيما أجول بإزاء السور الروماني، من جهة ثكنة غورو، شاهدت باباً رومانياً شبه كامل، وحينما سألت أهل الجوار عن اسمه، قالوا لي: هذا الباب الشمالي، فاستحضرني نصّ الهروي بقوة، وأخذت أحملق في الموقع، وأزيد السؤال، فشاهدت بناءً أثريّاً، قيل لي: إنّه قبّة السعادين، ولمّا قرأت النقش فوق مدخله، علمت أنّه مملوكي، وتاريخه 812هـ؛ أي في الفترة اللاحقة للهروي. بعدها لمحت بناءً مستحدثاً تحوطه حجارة أثريّة، كانت قبة ذات يوم، قيل لي إنّها (الست عفصة)، أي حفصة الوارد ذكرها في نصّ الهروي، لكن بقي قبر مالك الأشتر، أين هو يا ترى؟
تسارعت دقات قلبي، وامتلأت عروقي، بحثاً عن المفاجأة التي لا بدّ أن تكون في المحيط، فأخذتُ أُسرع الخطى، والتفت يُمنةً ويسرةً وسط البساتين، حتّى شاهدت قبراً ترابياً، يستظل تحت شجرةٍ من الصنوبر، فاقتربت من فلاح يعمل بقربه، متلطفاً في السؤال لعل هذا قبر أحد أقربائك؟ فأجابني: "كلّا، هذا مزار سيدي مالك الأشتر". عندها انشرح صدري، وصرت أتحسّس الضريح برويّة، متفكراً لماذا بقي سالماً من الاندثار وسط البساتين المزروعة، ودون أيّ بناء أو حتّى سياج. شكرت الفلاح الذي يُدعى "أبو مالك الشمالي"، الذي سُمّي كذلك، لنذر نذره لله تعالى، بحق صاحب هذا الضريح؛ ليررزقه الله تعالى مولوداً بعد عشرة سنوات من زواجه. حملت الخبر إلى المؤرّخ السيّد محسن الأمين(رحمه الله) فتعجّب للأمر، واعتبره صحيحاً في حال ثبوت مرور أمير المؤمنين في الجزيرة (شمال سوريا)، عندما أرسل مالكاً إلى مصر، عندها أخذت على عاتقي القيام بمهمّة التحقيق.
يُعتقد أنّ الهروي(2) كان أول من أشار إلى المقام، عندما أتى على ذكر بعلبك، وينقل عنه ياقوت الحموي(3) (660هـ) أيضاً عند ذكر بعلبك، فيذكر: "وبها قبر يزعمون إنّه قبر مالك الأشتر النخعي وليس بصحيح، فإنّ الأشتر مات بالقلزم في طريقه إلى مصر، وكان علي(رضي الله عنه) وجّهه أميراً، فيقال إنّ معاوية دسّ إليه السمّ بالعسل، فأكله فمات بالقلزم، فيقال إنّه نُقل إلى المدينة فدفن [فيها]، وقبره بالمدينة معروف". وأتى على ذكر المقام أيضاً، ميخائيل ألوف(4) في كتابه تاريخ بعلبك عام 1926، نقلاً عن ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، مستخدماً الرواية نفسها. كذلك أورده الشيخ قاسم الرفاعي(5)، في كتابه "بعلبك في التاريخ". وباللمقارنة، إنّ هناك آراء مختلفة في مكان ضريحه، فمنهم من أشار إلى وجوده في بعلبك عند الباب الشمالي، وآخر رأى إنّه دفن بالقلزم، وثالث قال: أعيد جثمانه إلى المدينة، ودفن فيها.
بطاقة هوية:
هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن سلمة بن جذيمة بن مالك النخعي. أدرك رسول الله(ص)، وهو من ثقاة التابعين، وكان رئيس قومه، شهد معركة اليرموك، فشُترت عينه بها(6). فلُقّب بالأشتر، وكان من أشدّ الناس إخلاصاً لأمير المؤمنين علي(ع)، وقد عُرف بإيمانه الراسخ، وإخلاصه الشامخ، وشجاعته المطلقة، وخطابته البالغة، وفصاحته المدهشة. جمع بين اللين والشدة والحزم والرفق، وقد شهد له الإمام علي(ع) بالقول: "وليت فيكم مثله اثنين، بل ليت فيكم مثله واحد"(7).
اشترك في معركةي الجمل وصفّين. وممّا جاء في خبر استشهاده أنّ عمرو بن العاص، وسفيان بن مجيب الأسدي، قد أوقعا بـ"محمد بن أبي بكر"، و"محمد بن حذيفة" وجماعة معه، فلمّا بلغ الإمام علي(ع) خبر استشهاد محمد بن أبي بكر، وكان في الجزيرة "شمال سوريا اليوم"، أرسل لمالك الأشتر، وأوكل إليه ولاية مصر، وعهد إليه بعهد الإمارة. وهو يعرف إلى اليوم بـ"عهد الأشتر"(8)، وأرسله إلى مصر.
لّا عرف معاوية بن أبي سفيان، إنفاذ مالك الأشتر إلى مصر، أغرى (دهقان العريش)(9) بإعفائه من الخراج لسنة كاملة، إذا استطاع اغتيال مالكاً، قبل أن يصل إلى مصر، وفي تلك الأثناء جمع معاوية أهل الشام، وخطب فيهم قائلاً: "إنّ علياً أرسل مالكاً الأشتر إلى مصر، فادعوا الله ألا يصل مالكاً إلى مصر". فقام الدهقان بوضع السمّ في كوب من عسل، وقدّمه لمالك بحيلة طويلة، فمات مالكاً فوراً. ولما وصل معاوية خبر استشهاد مالك، استهلّ فرحاً: "إنّ لله جنوداً من عسل، وكانت لعلي يمينان، قطعتُ الأولى في صفين، يعني الصحابي عمار بن ياسر(10)، والثانية اليوم"(11)؛ أي مالك الأشتر. ونعاه أمير المؤمنين(ع) بالقول: "إنّ لله وإنّا إليه راجعون والحمدلله ربّ العالمين، اللهم إنّي أحتسبه عندك، فإنّ موته من مصائب الدهر، رحم الله مالكاً، فقد كان وفياً بعهده، وقضى نحبه، ولقى ربّه مع إنّا وطّنّا أنفسنا أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول الله"(12). وحدّث أشياخ النخع قبيلة الأشتر قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر، وجدناه يتلهّف ويتأسّف عليه، ثمّ قال: "لله درّ مالك، وما مالك، والله لو كان جبلاً لكان فندا، ولو كان من حجر لكان صلدا، أمّا والله ليهدّنّ موتك عالماً وليفرحنّ عالماً، على مثل مالك فلتبك البواكي وهل موجود كمالك.. كان لي كما كنت لرسول الله(ص)"(13).
مالك والمدينة المنورة:
تغدو فكرة الرجوع بجثمانه إلى المدينة المنورة، ضعيفة جداً، خاصة أنّ العرف لدى المسلمين –وقتها- يوجب دفن شهدائهم في أرض المعركة(14). كما يوجد تعذر وصعوبة في العودة بالجثّة سليمة من مصر إلى المدينة المنورة؛ للدفن فيها في ذلك العصر. إضافة إلى إغفال المؤرخين والمحدّثين والثقاة والمحقّقين، ذكره من كافة القوائم المشهورة، والمعتبرة لأموات البقيع، حتّى إنّ الهروي لم يأتِ على ذكر مالك(15) عند ذكر قبور البقيع.
ثمّ يذكر الهروي أنّه في القلزم، ويقول: "عنده مالك بن الحارث الأشتر، لا يُعرف قبره"(16). ويورد الناصري(17) عن القلزم بالقول: "وهي قرية معروفة بالقرب من القاهرة، ومحطة القطار فيها تسمّى "بالقلج" وفي بعض المراجع تعرف بـ"كلك"(18)، وقبر مالك فيها مشهور بمرقد "الشيخ العجمي"، وقد تشرّفنا بزيارته وقراءة الفاتحة على روحه، والملاحظ أنّ مالك الأشتر لم يكن أعجميّاً؛ حتّى يُعرف قبره في القلزم "بالشيخ العجمي"، كما إنّ العجمي لقب المتصوفيين، الذين يغضبون بسرعة"(19).
حصار بعلبك:
إنّ ثبوت اشتراك مالك الأشتر في حصار بعلبك عند فتحها حسب رواية الواقدي(20)، وعند عمر التدمري بأنّ نسبة القبر إليه على باب بعلبك من جهة الشمال؛ لارتباطه بحادثة ما عند أهل بعلبك(21)، دليل قوي على حصاره للمدينة، ليس أثناء فتحها، وإنّما لفك أسر "محمد بن أبي بكر" و"عبد الرحمن ابن عديس" و"محمد بن أبي حذيفة" بعدما سيقوا جميعهم إلى سجن بعلبك(22). ولاسيما مع ورود رواية تؤكّد مقتل "ابن عديس" و"ابن حذيفة" في جبل لبنان(23)، على يد سفيان بن مجيب الأسدي، الذي كان حاكماً على بعلبك في خلافة معاوية بن أبي سفيان(24)، خصوصاً أنّ بعلبك كانت في تلك الفترة محلّ كرٍّ وفرّ بين جيش الإمام علي(ع) ومعاوية(25).
وقد حرص الأشتر على الوصول حتى بعلبك؛ لأنّه كان يمتلك جيشاً كثيفاً، مشهوراً بالقوة، والظاهر أنّ معاوية حرص على عدم مواجهة مالك عسكرياً في بعلبك؛ لقربه من عاصمة حكمه في دمشق، ولإيمانه بأنّ محاولة الاغتيال ستبوء بالنجاح.
كما إنّ مالكاً سلك طريق الفرات الغربيّ المعروف بطريق البريد، فمن حمص 13 ميلاً، ومن بعلبك إلى طبرية عبر عين الجر 20 ميلاً، ومن عين الجر إلى القرعون (وهو منزل في بطن الوادي) 15 ميلاً، ومن القرعون إلى القرية يُقال لها العيون "تل دبين" ثمّ تمضي إلى كفر ليلي 20 ميلاً، ومنها إلى طبرية 15 ميلاً، ثمّ إلى اللجون، الرملة، الجفار 17 سكة، ثمّ إلى الماوردية، ثمّ إلى الفسطاط عبر ازدود، غزة، رفح، العريش، الواردة، العذيب ثمّ الفسطاط(26).
وبالتالي، فإنّ الطريق الذي يسلكه الأشتر في طريقه إلى مصر، يملي عليه المرور في بلاد البقاع؛ لكونه أقرب الطرق وأيسرها، خاصة مع اعتماد الجزيرة مكان إقامة مالك، وخصوصاً مع نهي الإمام علي(ع) له أن يأخذ طريق السماوات(27).
فيرجح بحسب هذه النصوص، أن يكون ضريحه الحقيقي في بعلبك.
الهوامش:
1- الهروي: الإشارات إلى معرفة الزيارات، ص9.
2- (م.ن)، ص9.
3- ياقوت الحموي: معجم البلدان. ط1، دار الكتب الإسلامية، بيروت، (لا.ت)، ج1، ص454.
4- ألوف: تاريخ بعلبك، ص69.
5- الرفاعي، قاسم الشماعي: بعلبك في التاريخ، ص53.
6- الشتر: معناه انقلاب الجفن من أعلى وأسفل، وانشقاقه واسترخاء أسفله. يراجع: الفيروز آبادي: القاموس المحيط، ج2، ص56.
7- المنفري، نصر بن مزاحم: وقعة صفّين، ص512.
8- عهد الأشتر: هو أطول عهد كتبه أمير المؤمنين لأحد عماله على بلد من بلدان الخلافة الإسلاميّة، يراجع: شمس الدين، محمد مهدي، ص5.
9- الدهقان: بالكسر والضمّ، يعني القوي على التصرف مع حدّة، والتاجر وزعيم فلاحي العجم، ورئيس الإقليم: يراجع القاموس المحيط، ج4، ص226.
10- صحاب من الأوائل استشهد مع الإمام علي في صفّين في حربه ضد معاوية بن أبي سفيان. يراجع: القمي، عباس: منتهى الآمال في تاريخ النبي والآل.
11- المقريوي، ج2، ص68.
12- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج2، ص29-30.
13- القمي عباس، (م.س)، ص394.
14- مقابلة مع الدكتور حسن نصرالله، بتاريخ 15/4/2000م.
15- يراجع: الهروي، (م.س)، ص92-94.
16- (م.ن)، ص96.
17- الناصري، محمد باقر: مع الإمام (ع) في عهده لمالك الأشتر، ص20.
18- (م.ن)، ص12.
19- فكتور سحاب: التقاليد والمعتقدات والحرف الشعبيّة، ص87.
20- محمد الواقدي: من فتوح الشام ومصر والعراق.
21- تدمري، عمر عبد السلام: لبنان منذ الفتح الإسلامي حتّى سقوط الدولة الأموية، ص34.
22- تاريخ اليعقوبي 20/176.
23- أسد الغابة 4/316.
24- الصفدي: تاريخ الصفدي.. وسفيان بن مجيب الأسدي الشامي كان من قدماء الصحابة، وأنّ معاوية بن أبي سفيان زوج حفصة بنت أمية بن حرب، وكان أميراً على بعلبك في خلافة عثمان، يراجع: ابن عائذ في المعازي.
25- وقالوا: أقبل شبيب بن عامر من نصيبين في ستة مائة فارس ورجّالة، ويقال في أكثر من هذه العدد، فوجد كميلاً قد أوقع بالقوم واجتاحهم فهنأه بالظفر وقال: والله لأتبعنّ القوم، فإن لقيتهم لم يزدهم لقائي إلا هلاكاً وفلا، وإن لم ألقهم لم أثن أعنّه الخيل حتّى أطأ أرض الشام، وطوى خبره عن أصحابه، فلم يعلمهم أين يريد، فسار حتّى صار إلى جسر منبح، فقطع الفرات ووّجه خيله فأغارت ببعلبك وأرضها، ولمّا بلغ علياً خبر شبيب قال: رحم الله شبيباً لقد أبعد الغارة وعجّل الانتصار.
26- عبد الله ابن خرداذبه: كتاب المسالك والممالك، ص89.
27- المفيد: الاختصاص، ص89.
المصدر: مجلة نجاة، العدد: 20.
اترك تعليق