مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مقام إسماعيل في مدينة صور

مقام إسماعيل في مدينة صور

 

صور:

ورد اسمها في النقوش الفينيقيّة "صرّ". وفي رسائل تل العمرانية sur- RI. وفي النقوش الآشوريّة surru. وقد ورد اسمها في التوراة "صور". أما الفرنجة فسمّوها TYR. ويردّ فريحة أصل الإسم إلى الآراميّة: SUR أي الصخر وتمثال الله المنقوش على الصخر، ويلفت إلى أنّ صور القديمة كانت جزيرة صغيرة أي صخرة في الماء.
تقع صور في وسط السهل الممتد من رأس الأبيض في الجنوب، حتى مصب نهر القاسمية (الليطاني) في الشمال، والذي يبلغ طوله أكثر من عشرين كيلومترا.
وقد أسست صور على جزيرة في البحر كانت تبعد حوالي 600 م عن الشاطئ، عند تلاقي خط الطول 35.12 مع خط العرض 33.16.
وتشكل صور الحالية الرأس الشمالي الغربي لشبه الجزيرة بعد أن وصلها الاسكندر بالبر بسده الذي كان عرضه ستين مترا، وبتأثير الرمال التي قذفها البحر خلال ثلاثة وعشرين قرنا ً بلغ عرضه مئات الأمتار واتخذ شكل خليج متناسق جميل على جانبي المدينة الشمالي والجنوبي.

حدودهـا:
أما حدود صور فقد بقيت زمنا ً طويلا ً ثابتة لم يطرأ عليها أي تغيير كبير، فكانت عكا حوالي 340 ق. م. تعرف بأنها "من مدن الصوريين المهمة"، وكانت المنطقة الصورية تمتد في العصر الروماني حتى سفوح جبل الكرمل الذي كان أيضا ً تابعا ً لها، كما أن أحد أنباء المؤرخ الصوري مناندر تذكر عكا ضمن المدن الخاضعة سياسيا ً واقتصاديا ً لصور. وأنباء الإسرائليين عن حدودهم الشمالية تتلاءم مع أنباء صورية تثبت أن حدود صور كانت تمتد حتى منطقة  الفلسطينيين.
وإلى الشرق لم يتعد َ امتداد المنطقة أكثر من بضعة كيلومترات إلى الداخل، والى الجنوب الشرقي وصلت حدودها إلى قـَدَس، وفي الشمال الشرقي كانت أماكن متعددة على جبال لبنان تابعة لصور  يجلب منها الصوريون الأخشاب والصخور لمنشآتهم.
مساحتها:
لم تكن جزيرة صور أكبر بكثير من القسم الغربي من شبه الجزيرة الحالية الذي تبلغ مساحته حوالي ثمانية وخمسين هكتارا ً.
أما سكانها، فهناك أسباب كثيرة تدعو إلى الاعتقاد بأن عددهم في أزمنة السلم لم يكن يتجاوز عشرين أو خمسة وعشرين ألفا. وكانت المنازل فيها تتألف من عدة طبقات. وتبنى على ارتفاعات لم تعهد من قبل حتى تستوعب هذا العدد من السكان الذي غالبا ً ما كان يتضاعف، عندما يلجأ إليها أبناء البر الصوري المقابل والمناطق المجاورة في حالات الخطر أو الحرب.
صور البرية: وقد اعتقد كثير من المؤرخين أن المدينة البرية هي الأقدم والأهم، وانها هي التي حملت اسم صور. ورواية بلين أن محيط الجزيرة كان يبلغ حوالي 4 كلم وإنها مع المدينة البرية، كان محيطها يقرب من ثلاثين كلم، هي التي أدت إلى الاعتقاد بأن صور كانت تمتد في السابق امتدادا ً عظيما، فتتجاوز القاسمية حتى عدلون، ولكن الأخبار الموثوق بها تجعلنا نشك في صحة هذا الادعاء.
والوثائق الأشورية والكلدانية تؤكد قيام منطقة سكن مقابلة للجزيرة، ومنذ عصور قديمة جدا، وأسطورة سنكن ياطون عن تأسيس صور يمكن تفسيرها بأن البر الصوري قد سكن فعلا ً قبل الجزيرة، ولكن منطقة السكن هذه لم تحمل يوما ً اسم صور، بل كان هذا الاسم وقفا ً على المدينة الجزيرة التي كان لها دوما ً دور الزعامة السياسية والاقتصادية على الشاطئ المقابل، ومنذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد على مدن فينيية كافة. والأنباء التاريخية كلها تؤكد أن المدينة الجزيرة كانت المركز الديني والتجاري والسياسي، بينما لم يكن "لصور القديمة" كما دعيت المدينة البرية أيام الفرس، سوى أهمية ضئيلة هي: الصلة بين صور والبر ونقطة انطلاق للتجارة الصورية باتجاه الشرق.
ومن المحتمل أن تكون صور القديمة قد امتدت حتى تل المعشوق، وإذا كانت أنباء سترابون صحيحة عن امتداد صور البرية إلى بعد 6 كلم عن صور، فإن حدودها تكون في الرشيدية، حيث عثر مطلع هذا القرن على نواويس ومدافن من الألف الثاني قبل الميلاد. ويؤكد نبأ يرويه أشور بانيبال (668-656) عن أمير صوري، أنه لم يبرح الجزيرة أبدا، صواب هذا الرأي، إذ لا يعقل إلا يتعرف هذا الأمير –ولي العهد– إلى صور البرية ولا يزورها مرارا ً لو كانت لها تلك الأهمية. كما أن النبي حزقيال، عندما يصف عظمة صور واتساع تجارتها، لا يذكر أي شيء عن صور البرية أو القديمة.
 

عائلاتها:

ورد في كتاب قرى جبل عامل للعلامة الشيخ إبراهيم سليمان متحدثا ً عن العائلات الصورية وأصولها ما يلي: أشهر عائلاتها آل الخليل وأصلهم  من معركة، وآل حلاوة وهم دروز من الشوف، وآل المملوك سنة أصلهم من مصر من المماليك ويكادون ينقرضون، وآل شرف الدين السادة من شحور، وآل فران أصلهم من تبنين وقبلا ً من النبطية مقدار خمسين بيتا، وآل الأشقر (الظاهر أنهم من جبل لبنان مسيحية موارنة)، وآل الزين من قبريخا، وآل شعبان سنة، وشيعة أصلهم  من آل بيضون ينسبون إلى الحاج شعبان بيضون، وآل نزال وآل نجدة من صريفا، آل عكنان أصلهم أتراك، وآل قصاب من الفوعة كانوا ينسبون إليها فيقال الفوعاني وبما أن مهنتهم الجزارة قيل آل قصاب، وآل السوقي أظن أن أصلهم دروز من الشويفات، وآل زيدان من معركة، وآل سعد من معركة، وآل عز الدين من حناويه، وآل ياسين من بيت زيدان ينسبون إلى ياسين زيدان، وآل الفاخوري شيعة وكاثوليك.
وآل بحسون أصلهم إيرانيون، وآل قرعوني من البازورية، وآل هاشم عباس من دير سريان، وآل الحكيم من الحنية، وآل جابر من يانوح قليلون، وآل سكيكي كثيرون من دير قانون راس العين وعين بعال، وآل الشغري أظنهم أتراك، وآل السمرة في صور شيعة وفي صيدا سنة، وآل حلاق أظنهم أتراك، وآل بحر نسبة إلى امرأة قدمت من البحر فنسبوا إلى البحر، وآل كريت من مدينة رشيد في مصر، وآل عطوي من بنت جبيل، وآل دبوق أكراد من الصالحية، وآل الكردي من اصل كردي، وآل الدلباني من البازورية، وآل حب الله من شقراء، وآل نعمة الشيعة من جباع وحبوش، وآل نعمة السنة أتراك، وآل العجمي من العباسية، وآل قشاش وآل حيدر من جويا، وآل دهيني من طورا، وآل عابد وآل جهمي من مصر، وآل بيطار وآل خضرا، وآل صفي الدين من شمع ثم دير قانون، وآل حجازي كثيرون، وآل جبيلي كلهم شيعة، وآل عيسى رهط الشيخ محمد عقيل إيرانيون، وآل فقيه رهط الشيخ أحمد الزين فقيه من المنصوري، وآل عواضة من برج الشمالي، وآل سقسوق من حناوية، وآل غبريس من برج رحال وأصلهم من البابلية، وآل قدسي الظاهر أنهم من القدس قليلون، وآل شميساني من الناقورة أصلهم من النبطية، وآل حاجو من اصل تركي وآل قصير من دير قانون، وآل فرحات من برعشيت، وآل أبو خليل من القليلة، وآل نصرالله عامية، وآل مرتضى من بعلبك، وآل بوصي من بنت جبيل، وآل أمين من الطيبة.
ويقال أن المسيح مر عليها فآذاه بعض أهلها الصيادون فقال لهم: ستبقين يا صور منشرا ً لشباك الصيادين، ومر بها ارميا قبل المسيح فقال لها طوفي في الأسواق وغني أغنيتك الحزينة ليسمع بك الآخرون.
وعائلات السنة آل مملوك وآل نعمة وتقدما، وآل جودي، وآل شعبان، وآل محفوظ  أكبر عائلة، وآل قدادو، وآل دادا وآل بواب (منهم سنة وشيعة)، وآل تمساح كلهم من أصل تركي، وبيضاوي من صيدا، وآل دمياطي من دمياط، وآل زهير من بيت الفار من مصر، وآل الملاح أصلهم تركي، وآل بصراوي وآل قندقجي، وآل تركية نسبة إلى امرأة تركية.

مقام إسماعيل في مدينة صور

الأمكنة المقدسة تلازم الفكر الإنساني من حين طفولته الأولى، فمنذ أن كان الإنسان كانت معه فكرة الأمكنة المغايرة لما حولها، فالإنسان لا سيما الذي يعتقد أن هناك عوالم خارج الإدراك الحسي للعالم المادي يؤمن بلا تجانس المكان حيث يقسمه دائما إلى قسمين: المكان المقدس والمكان العادي والأول ذي دلالة وجودية قوية ومتميزة إذ إنه يمثل نقطة اتصال غير عادية بين عوالم الغيب وعالم الشهود بين عالم الأموات وعالم الغيب مرورا بعالم الإنسان.
عبر الرمزية تنتظم هذه الرؤية الثنائية للكون ويتحدد موقف الإنسان من العالم الأرضي بعد أن يشبعه بالمعاني والمعقولية والدلالات فيتحول بها فضاؤه الكوني المملوء بالغموض والفوضى إلى فضاء مدينة أو شجرة أو جبل تكتسب الإجلال والغبطة. أمام هذه القداسة والغموض، حيث تتصل بما يشير إلى الأبدية، تختبر الجماعة الإنسانية الجغرافية المقدسة تلك في علاقتها مع العالم العلوي والأبدية والتعالي وتدخل عبر توسطات إلى جسر يصل العالم الأرضي بالعالم الإلهي، بين المرئي واللا مرئي بين الزمان والأبدية، بين الحضور والغياب.

لهذا لا نجد بلدة أو مدينة من مدن هذا الشرق، الممتلئ بالتصورات الروحية عن عوالم الغيب، خالية من مكان مقدس سواء كان مقام ولي أو صالح أو عابد بل وحتى أثر من آثار أقدامه أو شعره أو حتى حادثة ذات صلة بشيء أو شخص مقدس في تراث الجماعة وهكذا...
ومدينة صور ليست شذوذا عن هذه القاعدة فعلى شاطئها الجنوبي مقام اختلفت فيه الأقوال العلمية لكن الذاكرة الشعبية لم تتردد في إضفاء قدسية عالية عليه. فهذا المكان –المقام ذو بعد سماوي عال ومنسوب إلى أحد أنبياء الله (إسماعيل) لذا أطلق عليه اسم "مقام النبي إسماعيل". ومما يشهد على المكانة التي يحظى بها هذا المقام أن الناس لطالما قدموا له النذور وأشعلوا في جنباته الشموع ورفعوا عند أعتابه الأدعية مؤمنين بأنه من الطرق الموصلة إلى رضا الله عز وجل وبالتالي فيمكن عبر وساطته المفترضة بلوغ الأماني وتحقيق المطالب صغيرها وكبيرها، خطيرها وحقيرها. وتتناقل الذاكرة الشعبية الصورية قاعدة مفادها "أن نذر النبي إسماعيل لا بد مستجاب".

 

ولتسليط الضوء على حقيقة هذا المقام كان طبيعيا أن ينطلق البحث من التسمية فمن هو النبي إسماعيل الذي ينسب إليه هذا المقام؟
معلوم أن في التاريخ الديني نبيين باسم إسماعيل هما: إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام "أبو العرب" والذي ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة النساء، سورة الأنعام، سورة إبراهيم، سورة الأنبياء، وسورة ص. وإسماعيل بن حزقيل الذي ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة مريم. وسنبدأ بتحقيق الاحتمال في أن يكون صاحب المقام هو الثاني أي إسماعيل بن حزقيل عليه السلام هذا النبي الكريم هو أحد أنبياء بني إسرائيل كان أبوه حَزقيل بن بورى ابن العجوز ثالث خلفاء موسى عليه السلام وكانت أمه عجوزاً طلبت من الله أن يرزقها ولداً فاستجاب الله لها، تشرف بالنبوة وقام بهداية بني إسرائيل على الشريعة اليهودية، ولما دنت منيته أوصى إلى ابنه إسماعيل. الذي يسمى بلغات أخرى: شموئيل أو سموئيل أو صموئيل بن القانة، وقد عاش بعد أبيه مدة طويلة، وكان والده قد اختاره خليفة له على بني إسرائيل وبعثه الله نبياً، وقد ورد ذكره في القرآن في سورة مريم الآيتان 55 و 56 موصوفاً بصادق الوعد في قوله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» وروي في تفسير الآية أنه سمي كذلك لأنه وعد جماعة من الناس فجلس ينتظرهم في مكانه مدة سنة؟
وكل ما نملك من معلومات عن هذا النبي هو ما ذكرته بعض المرويات من أن الله بعثه إلى بني إسرائيل ليدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده، وحثهم على ترك المعاصي والجنايات، فقابلوه بالجفاء والعناد والتحدي، ثم ألقوا القبض عليه وسلخوا جلد رأسه ووجهه حتى مات.
قبل وفاته- وقومه يسلخون جلده- طلب الله منه أن يطلب ما يريد من العذاب والعقاب لقومه، فأجاب: بأنه يتأسى بالأنبياء الذين سبقوه، وعذبوا وقتلوا في سبيل الله وصبروا، وسأل الله سبحانه أن يعطيه صبرا كصبرهم، وقيل: إنه قال: لي أسوة بما يصنع بالأنبياء.
ولا نعلم عن مكان دفنه شيئا يذكر. وبالتالي يلزم تحقيقا تاريخيا علميا أوسع حول صلة أنبياء بني إسرائيل بمدينة صور وإمكان أن يكون هذا النبي قد قتل أو دفن فيها.... وربما يساعد على ترجيح هذا الاحتمال مقولة الإمام الأوزاعي رضي الله عنه: "عليك بصور فإنها مباركة مدفوع عنها الفتن يصبح فيها الشر ولا يمسي، ويمسي ولا يصبح قبر نبي في أعلاها ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما عدلت بها بلدا..." وإن كان في المطابقة الجغرافية بين النص والمكان ما يدعو إلى كثير من التردد في كون المراد هو هذا المقام وتحديدا لقوله "في أعلاها" ومعلوم أن المقام المنسوب إلى النبي إسماعيل ليس في أعلى صور بالمعنى الجغرافي... وهذا ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن المراد هو الضريحان الموجودان في منطقة المعشوق والتي لم يعرف أن فيهما نبي والثابت على الأقل أن في أحدهما عباس بن المحمد النصار مجدد بناء صور في القرن الثامن عشر والذي بحسب رواية السيد محسن الأمين في خطط جبل عامل كان قد أوصى – أي عباس المحمد- أن يدفن في المحل المعروف بالمعشوق بجانب القبر الموجود هناك شرقي المدينة وبني هناك بوصية منه قبتان متجاورتان إحداهما على قبره والأخرى على قبر المعشوق وبني حولهما أبنية وحجر وجعل لها باب.
هذا النص للسيد محسن الأمين يجعلنا نميل أكثر إلى أن مراد الإمام الأوزاعي هو هذا القبر الموجود في المعشوق التي هي جغرافيا في أعلى صور ولتحقيق حال القبر الثاني المسمى المعشوق إلى جانب قبر عباس المحمد مجال بحثي مختلف.
وعليه فمع انصراف المروي عن الأوزاعي إلى غير المقام الذي نحن بصدده ومع جهلنا التام بعلاقة أنبياء بني إسرائيل لا سيما إسماعيل بن حزقيل بساحل بلاد الشام ومعرفتنا التقريبية بأن مواضع أنبياء بني إسرائيل كانت في أمكنة بعيدة نسبيا عن صور يجعل هذا الاحتمال ضعيفا.
أما النبي إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام فهو إما إسماعيل بن إبراهيم(ع)، فهو أبو العرب، وقد عاش مائة وسبعاً وثلاثين سنة على ما يذكر الرواة، وقد رزق(ع) من الأولاد اثنا عشر ذكراً هم: فائت، قيدار، إربل، ميم، مسمع، دوما، دوام، ميشا، حداد، حيم، قطورا، وماش. ويذكر أن نبي الله إسماعيل(ع) لما أحس بدنو أجله، أوصى إلى أخيه إسحاق بتدبير شؤون البيت الحرام، وتوفي سلام الله عليه، ودفن في المسجد الحرام في المكان الذي فيه الحجر الأسود.
وعليه فلا مجال حتى لشك في كون المقام هو مدفن النبي إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام أما كونه ابن حزقيل فكما ذكرنا أمر لا يمكن أخذه أو رده إلا بالتحقيق العلمي. 
نعم، يتناقل أبناء مدينة صور أن نسبة المقام إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ليست لعلة الدفن بل لأنه عليه السلام قد مر بمدينة صور وأقام الصلاة عند هذه النقطة المطلة على البحر قبل أن يغادر المدينة، فبنى الصورريون مقاما في محل وقوفه تبركا ببقعة صلى فيها نبي من أنبياء الله الكرام وفي هذه الرواية ما لا يخلو من الضعف لعدم وجود أي مؤيد تاريخي لها فمعلوم أن حياة النبي إسماعيل بن إبراهيم كانت في شبه الجزيرة العربية ولم يذكر أنه زار ساحل الشام وإن كان التداخل بين الديني والتاريخي والأسطورة الشعبية يترك الأبواب مفتوحة دائما لكل الاحتمالات.

غير أن تحليلينا لنص الأوزاعي ونقل رواية السيد الأمين المشار إليهما سابقا معطوفين على حقيقة أن السيد الأمين كان يؤرخ للمكان في جبل عامل ولم يتعرض للمقام الذي يسمى باسم "النبي إسماعيل" بقليل أو كثير ومثله فعل جميع الرحالة الذين زاروا صور يجعلنا نميل إلى أنه ليس مقاما لنبي بأي حال من الأحوال ونميل أكثر إلى أنه حتى لم يكن مشتهرا في تلك الحقبة بالنحو الذي يجعله قبلة للاهتمام فالسيد الأمين وهو رجل دين محقق وفي نفس الوقت يؤرخ للمكان من البعيد أن يهمل قضية بهذه الأهمية أي قبر نبي لو كان لها حظ من الصحة أو حتى نصيب من الشهرة.
من هنا ننتهي إلى أن نسبة المقام إلى أحد الأنبياء فيها الكثير من الشك والتردد ولعل هذا ما يفسر وجود مجموعة روايات مختلفة متداولة عن أصل هذا المقام.
ومن هذه الروايات رواية لا نعرف لها أصلا تدعي أن هذا الضريح هو لقائد من قادة جيش صلاح الدين الأيوبي دفنه أبناء المدينة في أرضهم ويدعى إسماعيل. غير أن هذه الرواية تنسى ربما أن ابن الأثير قد ذكر في كتابه أنه يوم دخول الصليبيين إلى صور قد خرج منها جميع المسلمين ولم يبقَ منهم إلا صعلوك عاجز عن الحركة فتسلمها الصليبيون وحصنوها وحكموها.. وأنه حين القتال مع صلاح الدين لم يكن في صور سوى الفرنجة، وقد امتنعت صور على صلاح الدين في حربه للصليبيين حتى عجز عن فتحها فانه تهاون بأمرها وترك المجال للهاربين والمستأمنين من المدن التي كان يفتحها أن يدخلوا صور حتى تحصنت بقوتهم وبحرها فعجز عنها وتركها..
ومن الروايات أن المقام هو لولي من أولياء الله الصالحين زار صور ومات فيها ودفن هناك وربما كان يحمل اسم "إسماعيل" ودعي نبيا على نحو المجاز نظرا لصلاحه وتقواه ومرجع هذه الرواية أن صور كانت تعج بالعلماء والرواة والمحدثين وقد ذكرت كتب التاريخ والحديث جمعا كبيرا منهم كما أنها كانت أرض رباط أي ثغر من ثغور المسلمين في مواجهتهم الروم والفرنجة وقد رابط فيها جمع من كبار المتصوفة والصالحين منهم إبراهيم بن أدهم الصوفي الكبير الذي قيل أنه مات فيها مرابطا ودفن فيها.. لكن ليس في أيدينا ما يفيد ولو على نحو الاحتمال عن هوية هذا الشخص أو يثبت كونه من جملة هؤلاء الصالحين الذين قد يكون في ثرى المدينة منهم العدد الوفير.
وهناك رواية أخرى تدعي أن الذي شاد هذا المقام إنما هم البحارة الصوريون الذين أقاموه وقدموا إليه النذور ليحميهم من شرور البحر ومخاطره وغضبه في رحلاتهم الطويلة والمخيفة، فالضريح الذي أقيم على تلة عالية فوق كتف المرفأ المصري الذي أغرقته الزلازل المتعاقبة تحت سطح الماء وكان منطلقاً للصيادين خلال القرون الماضية، كان يبقى مضاءً بالشموع والفوانيس ليلاً نهاراً فأضحى إضافة لكونه مزاراً مقدساً يحتمون بها منارة تشير في الليالي المظلمة الحالكة إلى الشاطئ الصوري، وتدعي هذه الرواية أن البحارة قد آمنوا بالقدرات الخارقة لهذا المقام، ومن هؤلاء البحارة انتقل الاعتقاد بقدسية المزار إلى سكان المدينة كلها فأخذوا بدورهم يقصدونه للتوجه عبره إلى الله تعالى.
مما لا يجب استبعاده أن يكون لهذا المكان قدسية متوارثة منذ التاريخ السابق للأديان السماوية في المدينة.
وقد التفتت بلدية صور مؤخرا نحو المقام فجددت بنيانه بطريقة معمارية جميلة وطراز فني تراثي استخدم فيه الحجر الرملي.



المصادر:
1- موسوعة لبنان: تاريخ، سياسة وحضارة، دليل المدن والقرى وعائلاتها. 1998م، ج15.
2-  مدن وقرى لبنان: طوني مفرج. دار نوبليس، بيروت، لبنان. ج15.
3- 
www.yasour.org
4- جمعية قبس لحفظ الآثار الدينية

التعليقات (0)

اترك تعليق