مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مناقب وفضائل السيدة خديجة (ع)

مناقب وفضائل السيدة خديجة (ع)

إن فاطمة(ع) لم تعش مع أمها خديجة الطاهرة أكثر من خمس سنين(1) وهذه الفترة الوجيزة لم تقع لها الفرصة الكافية للبقاء واللقاء معها، ولعلها تأست في ذلك بأبيها الذي حرم من لقاء أبيه عبد الله، والبنات يشعرون باليتم من موت الأمهات كما يشعر الأولاد باليتم من موت الآباء، ففاطمة(ع) شابهت أباها من هذه الجهة أيضا، وسنذكر في هذه الخصيصة الخاصة بخديجة الطاهرة من الصحيفة الفاطمية شيئا عن علو قدرها وجلالة مقامها، ففي ذكرنا لسيدة النسوان سرور زوجها وبنتها وأولادها الطاهرين، وإني أعلم أن سرورهم ورضاهم يوجب مغفرة الذنوب ويجلب رضا الله سبحانه.
فضائل السيدة خديجة(ع):
فأقول: اللهم صل وسلم على هذه المرأة الجليلة، النبيلة، الأصيلة، العقيلة، الكاملة، العاقلة، الباذلة، العالمة، الفاضلة، العابدة، الزاهدة، المجاهدة، الحازمة، والحبيبة لله ولرسوله ولوليه، المختارة من النساء، والصفية البيضاء، حليلة الرسول، وأم البتول، صفوة النسوة الطاهرات، وسيدة العفائف المطهرات، أفضل أمهات المؤمنين، وأشرف زوجات الرسول الأمين، وأول من آمنت من النساء، وأسبقهن إلى عبادة رب الأرض والسماء، سيدة النسوان، وخاصة الرسول، وخلاصة الإيمان، أصل العز والمجد، وشجرة الفخر والنجد، السابقة إلى الإسلام والدين في العاجلة والأخرى، مولاتنا وسيدتنا أم المؤمنين خديجة الكبرى(ع). إعلم; إن السيدة المحترمة خديجة هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشية الأسدية، وأمها من الفواطم التسع، وهي فاطمة بنت زائدة بن الأصم ينتهي نسبها إلى عامر بن لؤي(2).
قال الشيخ صاحب الوسائل في منظومته:
زوجاته خديجة وفضلها * أبان عنه بذلها وفعلها
بنت خويلد الفتى المكرم * الماجد المؤيد المعظم
لها من الجنة بيت من قصب * لا صخب فيه لها ولا نصب
وهذه صورة لفظ الخبر * عن النبي المصطفى المطهر


والحق أن الخديجة(ع) بذلت من همتها واهتمامها في خدمة الرسول في صدر الإسلام ما يعجز عنه الوصف، ويقصر عن بيانه اللسان والبنان.
زواج الرسول(ص) بالسيدة خديجة (ع):
وهي أول امرأة تزوجها النبي (ص) في مكة المعظمة، ولم يتزوج بأخرى ما داحت حية، وتزوج بعد وفاتها باثنتي عشرة امرأة، وتوفي (ص) عن تسع من أمهات المؤمنين، أفضلهن بعد خديجة أم سلمة، ثم ميمونة بنت الحارث، وهي المبشرة بالجنة -كما في الحديث المعتبر-.
وروى الشيخ الطوسي والشيخ المفيد عليهما الرحمة: أن رسول الله(ص) تزوج خديجة بكرا(3)، والمشهور أنها عرفت زوجين قبل رسول الله(ص) أحدهما: عتيق بن عائذ المخزومي، والآخر: أبو هالة الأسدي، أنجبت للأول بنتا، وللثاني ولدا اسمه "هند" رباه النبي)(4)، ثم تزوجها النبي(ص) وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت في خدمته أربع وعشرين سنة وشهرا، وأمهرها اثنتي عشرة أوقية ونصفا(5) وهو مهر باقي نساءه، أم سلمة، وميمونة، وزينب، وصفية، وجويرية، وأم حبيب، وسودة، وعائشة، وحفصة(6).

أما بنات خديجة ففيهن ثلاثة أقوال:
الأول: إنهن بنات رسول الله)(7).
الثاني: إنهن من زوجيها السابقين(8).

الثالث: إنهن بنات أختها هالة، توفيت وهن صغار، فكفلتهن خديجة حتى كبرن ونسبن إليها(9). وهذا القول خير دليل على بكارة خديجة عند زواجها برسول الله(ص)، وقد ذهب إليه أعلام الشيعة المذكورين وجماعة من علماء السنة، والقول به يرفع الكثير من الإشكالات والمحاذير، وهو لا يعارض المذهب الحق.
ويمكن أن يقال: إن
خديجة ولدت في هذه الفترة ستة أبناء أو أربعة، وقد ذكرت أسماؤهم في كتب التاريخ والسير وكانت فاطمة الزهراء(ع) آخرهم، ماتوا كلهم ودفنوا في مكة إلا تلك المخدرة، ولا يستبعد أن تكون خديجة أكبر من رسول الله(ص) سنا، وأنها عاشت أربعا وستين عاما، وإن كان المشهور خلاف ذلك. ولكن طرح قول الشيخين العلمين المعتمدين بعيد عن الاحتياط ومفارق لنهج الصواب.
أفضلية السيدة خديجة(ع) على سائر نساء العالمين في كتب أهل السنة:
وعلى أية حال، فمن نظر في كتب أهل السنة رأى أنهم يروون الكثير في فضل عائشة ومناقبها، ومع ذلك فإنهم يقولون بأن خديجة أفضل منها ومن سائر زوجات النبي، بل يفضلونها على نساء العالم، بل يروون أحاديث عن عائشة عن النبي(ص) في جلالة قدرها وعلو شأنها، مع ما كانت عليه عائشة من الحسد والغيرة والخصومة لخديجة(ع). والأفضل أن نروي ما رواه المخالف لإثبات قول المؤالف وصدق دعاويه:
الخبر الأول: روى أحمد بن حنبل والطبراني عن أنس أن النبي(ص) قال: "خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون(10).
الخبر الثاني: أخرج الترمذي في صحيحه أن أمير المؤمنين(ع) قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران(11).
الخبر الثالث: روى أحمد والطبراني والحاكم عن ابن عباس عن النبي(ص) قال: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون(12).
الخبر الرابع: روى الحاكم عن عائشة عن رسول الله(ص) أنه قال: سيدات أهل الجنة أربع: مريم وفاطمة وخديجة وآسية(13).
الخبر الخامس: روى عن حذيفة عن رسول الله(ص) قال: خديجة سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله وبمحمد(14).
الخبر السادس: روى في الصحيحين عن أبي هريرة قال: أتى جبرئيل النبي(ص) فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرء عليها السلام من ربها عز وجل ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(15). والصخب: رفع الصوت، والنصب: التعب، والقصب: قصب الذهب. وقال الجوهري: القصب: بيت من جوهر. وقال صاحب النهاية في غريب الحديث: القصب لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف.
الخبر السابع: روى البخاري في صحيحه عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله(ص) فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك فقال: اللهم هالة؟! قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها؟! فقال: والله ما رزقت خيرا من خديجة، آمنت بي حيث كذبني الناس، وأعطتني حيث منعني الناس، وكانت من أحسن النساء حجالا، وأكملهن عقلا، وأتمهن رأيا، وأكثرهن عفة ودينا وحبا ومروة ومالا(16). وكانت عائشة غالبا ما تذكر خديجة بسوء وتنال منها.
الخبر الثامن: روى عن محمد بن إسحاق -وهو من أهل الخلاف- قال: كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء من الله ووازرته على أمره، فخفف الله بذلك عن رسول الله(ص) وكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله ذلك عن رسول الله(ص) بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتهون عليه أمر الناس، حتى ماتت رحمها الله(17).
الخبر التاسع: روى في "نزهة المجالس ومنتخب النفائس" للشيخ عبد الرحمن الشافعي: إن جبرئيل أتى النبي(ص) فقال: يا محمد! ما نزلت من عند سدرة المنتهى إلا ويقول الله تعالى: سلم على خديجة. فقال رسول الله(ص): الله السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام وعلى جبرئيل السلام(18).
الخبر العاشر: وفي الكتاب المذكور عن معاذ بن جبل: لما مرضت خديجة مرضها الذي توفيت فيه، دخل عليها رسول الله(ص) فقال لها: بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا. أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون. قالت: وقد فعل الله ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، قالت: بالرفاء والبنين(19)(20). وقد ذكر أحد علماء العامة عبارة فيها الكثير من المدح، قال: ويكفي خديجة فضلا أن فاطمة كانت في بطنها.[...].
السيدة خديجة العالمة الموحدة المؤمنة بالنبوة والإمامة:
ويستفاد من أحاديث الشيعة وأخبار السنة أن خديجة كانت عالمة بكتب الرواية المعروفة، وأنها كانت معروفة -من بين نساء قريش- بالعقل والكياسة إضافة إلى كثرة المال والثراء والضياع والعقار والتجارة التي عرفت بها ، وكانت تدعى منذ ذلك الحين بـ‍ "الطاهرة" و"المباركة" و"سيدة النسوان"، بل إنها كانت ممن ينتظر خروج النبي(ص) ويعد له عدته، ولطالما سألت "ورقة" وغيره من العلماء عن علائم النبوة. وكان أول ما طلبته من النبي(ص) حينما التقت به الكشف عن خاتم النبوة. وقد تبين -في الجملة- في حديث حنة أم مريم مدى الجمال والجلال والكمال والإفضال التي كانت لخديجة (ع). ولقد كانت خديجة مؤمنة راسخة الإيمان، ثابتة الجنان، مستعدة لقبول الإيمان، وقد روي أنها آمنت بالنبي(ص) في عصر اليوم الذي بعث فيه وصلت معه، وروى الشيعة أن النبي بعث يوم الاثنين فآمن به علي(ع) نفس ذلك اليوم، وأظهرت خديجة الإيمان يوم الثلاثاء(21). وفي الخبر: إنها أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به(22). قال أبو عمرو والحاكم بن عتبة: هي أول من آمن وعلي أول من صلى إلى القبلة(23). وفي النهج: وقال علي(ع): "ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت: يا رسول الله! ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادتك; إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزيري، وإنك لعلى خير"(24). فصل فيه فضل إن من مفاخر خديجة(ع) ومناقبها المخفية على أغلب الخواص والعوام قبولها ولاية أمير المؤمنين وإمامة أولاده الأمجاد المعصومين(ع)، مع أنها لم تكن يومها مكلفة بقبول الولاية، بمعنى أن هذا التكليف لم يكن فرضا واجبا إلا بعد وفاة الرسول(ص)، وذلك إنها سمعت -بأذنها- بإمامة الأئمة الطاهرين من أبناءها المعصومين يوم ولادة فاطمة حينما ذكرتهم واحدا بعد واحد ، فعرفت بذلك مقام أمير المؤمنين(ع) ومنزلته، وكانت تسعى جاهدة من أجل تنفيذ ما سمعت وإنجازه وإنجاحه، والأفضل أن نروي هنا حديثا سارا ورد عن طرق الشيعة الإمامية; لتتضح -لبعض الغافلين- كمال الكمالات التي تمتعت بها خديجة سلام الله عليها.
روي أن رسول الله(ص) دعى خديجة(ع) وقال لها: "إن جبرئيل عندي يقول لك إن للإسلام شروطا وعهودا ومواثيق:
الأول:
الإقرار بوحدانية الله جل وعلا.
الثاني: الإقرار برسالة الرسول.
الثالث: الإقرار بالمعاد والعمل بأحكام هذه الشريعة.
الرابع: إطاعة أولي الأمر والأئمة الطاهرين واحدا بعد واحد، والبراءة من أعدائهم، فصدقت خديجة بهم واحد بعد واحد وآمنت بالرسول(ص) فأشار إلى علي ثم قال: "يا خديجة! هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي"(25). ثم أخذ العهد منهما، ثم وضع علي يده فوق يد رسول الله، ووضعت خديجة يدها فوق يد علي فبايع لعلي(26). وكذا روي عن الصادقين الباقرين(ع) في حمزة سيد الشهداء: أن النبي(ص) دعاه عشية شهادته في أحد إلى بيعة أمير المؤمنين وأبناءه الغر الميامين من أولهم إلى قائمهم(عج) أرواحنا له الفداء، فقال حمزة: آمنت وصدقت ورضيت بذلك كله، وكان الرسول(ص) قد دعا عليا وحمزة وفاطمة في حديث طويل أخرجه السيد(رحمه الله)(27). وبهذا يتضح معنى قوله(ص): "ما كمل من النساء إلا أربعة أولهن خديجة" لأن تلك المخدرة آمنت بأصول الدين وفروعه وأحكامه واحدة واحدة، وآمنت بروح الأصول والفروع كلها، وآمنت بالميزان الذي به تقبل وترد الأعمال والعقائد، حيث أنها آمنت بإمامة الأئمة(ع) في وقت لم تك خديجة بعد مكلفة بها، نظير إيمان فاطمة بنت أسد حينما جلس الرسول(ص) على شفير قبرها وقال لها: "ابنك ابنك علي، لا جعفر ولا عقيل"(28) مع أنها لم تكن مكلفة بعد بقبول الإمامة. ونظيره ما روي في البحار أن رسول الله(ص) قال: إذا سأل نكير ومنكر في القبر من فاطمة الزهراء(ع) عن إمامها فإنها تقول: "هذا الجالس على شفير قبري بعلي إمامي: علي بن أبي طالب)"(29). وهذه المقامات خاصة بالأولياء الكاملين من أهل هذا البيت، حيث تكون الولاية فرض وحتم على فواصلهم، وإن كانت متأخرة عنهم; لأنها شرط كمال الإيمان، وبدونها تكون الشريعة قالبا خاويا لا روح فيه وكلاما فارغا لا معنى له. ولهذا نزل يوم الغدير -عند تنصيب أمير المؤمنين(ع) للخلافة- قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»(30) وقوله تعالى: «وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»(31) والآيتان تشهدان لنا نحن الشيعة الإمامية. الحاصل: لقد أودع الله في تلك الذات القدسية -يعني ذات خديجة المقدسة(ع)- ودائع نفيسة وذخائر شريفة لم يودعها -في ذلك الزمان- في ايحاءات أخرى من سكان السماوات والأرض; وأعظم تلك الودائع الجوهر الثمين لولاية أمير المؤمنين(ع) حيث أنها آمنت وصدقت بها قبل الإعلان عنها وقبل خروجها من القوة إلى الفعل، وبذلك سبقت خديجة إلى الإيمان بجميع مراتبه ومقاماته وتفصيلاته، وهذا المستوى من الإيمان الكامل لم يتيسر لعموم الناس، لأن أمر الإمامة كان مخفيا على أهل ذاك الزمان إلى يوم غدير خم، حيث رفع عنها الستار بعد نزول قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(32) فبشرت النبي(ص) برفع الخوف ودفع أذية القوم، وعندها صار قوله تعالى: «فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ»(33) عليه حكما منجزا. ويكفي خديجة شرفا أنها عاشت مع النبي(ص) أربعا وعشرين سنة، فلم يختر عليها امرأة حتى ماتت، فلما هاجر(ص) تزوج في فترة وجيزة عدة زوجات وظل يلهج باسم "خديجة" ويترحم عليها ويستغفر لها ويحترم أرحامها ويقربهم ولم يغفل عن ذكرها أبدا، وكان يرى في فاطمة حنان أمها وحبها وودها وإحسانها فيلزمها ويحبها ويقبلها ويتذكر فيها أمها. وفي الخبر أن فاطمة امتنعت يوما عن الطعام وقالت لا آكل حتى اعلم أين أمي خديجة، فنزل جبرئيل الأمين وقال: إن خديجة في الجنة بين آسية وسارة(34).
الخلاصة: لقد وفقت خديجة لخدمة ابنتها فاطمة الزهراء، وتزودت من تلك الروح الغالية مدة خمس سنين، ثم توفيت في السنة العاشرة من البعثة، على الرواية المشهورة(35)، وقارنت وفاتها وفاة أبي طالب، فسمى الرسول(ص) ذاك العام ب‍ "عام الحزن" ثم هاجر النبي(ص) بعد ثلاث سنوات من وفاتها إلى المدينة المنورة. وكان عمر خديجة عند وفاتها خمسة وستون عاما -على ما ذكر- وكان عمر فاطمة الزهراء(ع) عند الهجرة ثمان سنوات حيث بقيت في مكة ثلاث سنين بعد وفاة أمها.
ما قام الإسلام إلا بمال خديجة وسيف علي(ع):
وروى في ذيل قوله تعالى «وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى»(36) أن الله من على نبيه وأغناه بأموال خديجة(ع). وقد وردت الأخبار عن العامة والخاصة في كثرة أموال خديجة، حتى قال العلامة المجلسي في المجلد السادس من بحار الأنوار أنه "كان لخديجة في كل ناحية عبيد ومواش، حتى قيل: إن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان"(37) وكانت خديجة أميرة عشيرتها وسيدة قومها ووزيرة صدق لرسول الله(ص)، فكانت كأنها الملكة في الحجاز وأطرافها، لكثرة ما كانت تملكه من المواشي والخدم والحشم والضياع والعقار والأملاك والأموال والتجارة والعبيد والإماء والجواهر الغالية والذهب والفضة، وقد قدمتها جميعا -وهي في غاية الرضا والإمتنان- إلى النبي(ص) خصوصا خلال فترة الحصار في شعب مكة، حيث استمر ثلاث سنوات منعت قريش القوت والإمداد عن بني هاشم ، فكانت خديجة تغدق عليهم بكل سخاء، وتنفق على تلك الجماعة من الرجال والنساء من بني هاشم ومن الحراس والحفظة الذين كانوا مع رسول الله(ص)، وكان الربيع بن العاص صهر خديجة على بنتها يحمل الحنطة والتمر على الإبل ويبعث بها إليهم تحت جنح الظلام، حتى نفذت ذخائرهم ولم يبق لهم شيء، وآل أمرهم إلى أن قنعوا بثوب واحد يستر عوراتهم. وهكذا كانت خديجة(ع) مؤمنة حقا، آمنت بنبي آخر الزمان بالقلب واللسان والمال والجنان. نعم; لقد ساوى بذل خديجة(ع) سيف علي(ع) في الإسلام، وتساويا من قبل في السبق إلى الإسلام ، وفي هذا من الشرف ما يكفي خديجة(ع)، علاوة على أنها قامت عن بنت كفاطمة(ع)، وبها تشرفت على نساء العالمين.
وفاة السيدة خديجة(ع):
وقبل نزول الأجل وحلول زمن الفراق والتوجه إلى العالم الأعلى ظهرت لخديجة الطاهرة من مبدأ المراحم الإلهية الخاصة، من الألطاف والمراحم ما لا يعد ولا يحصى حتى كانت مسلية لخاطر النبي الرؤوف. ومنذ البعثة والنبوة لم يقبض عزرائيل وعماله روح أحد له تلك الألطاف المتواترة والأفضال المتكاثرة، ولم يكن يومها على وجه الأرض امرأة بل حتى رجل بصلابة الإيمان وحسن الإسلام الذي كانت عليه خديجة. حيث كان في ذلك الزمان أربعة نفر; رجلان وامرأتان من كل ما أظلته السماء من شيوخ وشبان ورجال ونسوان، كانوا أركان العالم وقوام الشرع، أما الرجلان فأمير المؤمنين علي(ع) وأبوه أبو طالب الذي توفي في عام الحزن، وأما النساء فخديجة الطاهرة وبنتها فاطمة المطهرة. والآن انظر إلى ما داخل السيد المختار من فقدان هذين الركنين. والرواية المشهورة على أن ملائكة الرحمة جاءت بالكفن لخديجة، وأن النبي(ص) خرج في جنازتها وهو في غاية الحزن، ونزل في قبرها ووسدها بيده الشريفة في لحدها، وقبرها المطهر في الحجون من مكة في مقبرة المعلى قبالة قبر آمنة بنت وهب أم النبي(ص)، وقد بني على قبرها قبة سنة سبعمائة وسبع وعشرين، ولا زال أهل مكة يزورون تلك التربة الزاكية والبقعة السامية لإظهار الخلوص والمحبة، فينشدون الأشعار وينظمون القصائد ويعلقونها هناك، ويخرجون يوم ولادة الرسول من بيت خديجة إلى مزارها، يحتفلون ويبتهجون، وقد أثبتت التجربة أن زيارتها ترفع الهم وتكشف الغم وتدفع المصائب والنوائب الدنيوية والأخروية، رزقنا الله محبتها، وثبتنا على مودتها، وجعلنا من خيار زائريها، وخاصة مواليهم إن شاء الله تعالى. لا يخفى: أن هناك اختلافا شديدا في سنة وفاة أبي طالب وخديجة، وأيهما المتقدم؟ فقد ذكر صاحب المناقب أن أبا طالب عاش إلى تسع سنين وثمانية شهور بعد النبوة. وروى في كتاب المعرفة: أن خديجة ماتت بعد أبي طالب بثلاثة أيام. وقيل: مات أبو طالب قبل خديجة بشهر وخمسة أيام. فلما ماتا(ع) حزن النبي(ص) حزنا شديدا، وجلس في بيته إلى أن هاجر إلى الطائف فبقي فيها شهرا ثم عاد إلى مكة، وكان غالبا ما يعتزل في شعب مكة المعروف بمقبرة المعلى (شعب أبي طالب)، ثم أنه أمر جماعة بالهجرة إلى الحبشة. فنزل قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ»(38)، «فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ»(39). وفي الحديث: اجتمعت على رسول الله(ص) مصيبتان واشتد عليه البلاء ولزم بيته وأقل الخروج...(40) الخ.



الهوامش:
1- فقد ذكروا أن خديجة(ع) توفيت سنة عشرة من النبوة، وأن فاطمة(ع) ولدت سنة خمس من المبعث. انظر البحار 16/ 13 ح 12 باب 5 و 43/ 6 ح 7 باب 1.
2- انظر بحار الأنوار 44/ 144 ح 9 باب 22.
3- انظر البحار 22/ 191 ح 5 باب 2.
4- البحار 2/ 200 ح 20 باب 2.
5- والأوقية أربعون درهما وقال العلامة المجلسي: وفي هذا الزمان تعادل واحد وثلاثين ألف وخمسمائة دينار. (من المتن)
6- البحار 2/ 200 ح 20 باب 2 عن مبسوط الطوسي.
7- انظر البحار 22/ 191 ح 5 باب 2.
8- البحار 16/ 10 ح 12 باب 5.
9- البحار 16/ 171 ح 4 باب 8.
10- انظر مسند أحمد 1/ 116.
11- سنن الترمذي 5/ 702 ح 3877، صحيح مسلم 2/ 459 ح 69 باب 12 فضائل خديجة(ع) وفيه: "قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: سمعت عليا بالكوفة يقول: سمعت رسول الله(ص) يقول:... "، صحيح البخاري 4/ 230 باب تزويج النبي(ص) خديجة وفضلها.
12- مسند أحمد 1/ 316.
13- المستدرك للحاكم 3/ 185 كتاب معرفة الصحابة -فضائل خديجة(ع).
14- انظر البحار 23/ 112 ح 19 باب 7.
15- صحيح مسلم 2/ 459 ح 71 باب 12 فضائل خديجة، صحيح البخاري 4/ 231 باب تزويج النبي(ص) خديجة وفضلها.
16- انظر صحيح البخاري 4/ 231 في فضائل خديجة(ع) وقد بتر البخاري ذيل الحديث.
17- كشف الغمة 2/ 137، بحار الأنوار 16/ 10.
18- انظر نزهة المجالس 2/ 517 فضائل أمهات المؤمنين عليهن السلام.
19- انظر نزهة المجالس 2/ 518 فضائل أمهات المؤمنين عليهن السلام.
20- "بالرفاء والبنين": كلمة معروفة في الجاهلية تقال للعرسين عند الزواج، وقد نهى عنها النبي(ص) في زواج فاطمة الزهراء(ع) وقال: "بارك الله لكما وطيب نسلكما وجمع بينكما في خير" ولعله نهى عنها لأنها ناظرة إلى العيش الدنيوي فقط. (من المتن)
21- البحار 16/ 20 ح 19 باب 5 و 17/ 239 ح 2 باب 2 وفيهما أن النبي(ص) بعث يوم الاثنين وأن عليا(ع) صلى معه يوم الثلاثاء. ولا تعارض بين الخبرين.
22- البحار 16/ 10 ح 12 باب 5.
23- انظر البحار 38/ 258 ح 49 باب 65.
24- نهج البلاغة 301 خ 192.
25- تجد تفصيل الخبر في المجلد السادس من بحار الأنوار عن السيد بن طاووس عن كتاب الوصية لعيسى بن المستفاد عن موسى بن جعفر(ع): إن رسول الله(ص) دعا عليا وخديجة وذكر لهم أصول الدين وفروعه الواحد تلو الآخر حتى آداب الوضوء والصلاة والصيام والحج والجهاد وبرالوالدين وصلة الرحم وغيرها من الواجبات والمحرمات ثم أخذ العهد منهما... (من المتن)
26- البحار 18/ 232 ح 75 عن الطرف للسيد ابن طاووس... ينقل الحديث كاملا.
27- البحار 22/ 278 ح 32 باب أحوال عشائره وأقربائه والحديث.
28- البحار 6/ 241 ح 60 باب البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله والحديث.
29- البحار 43/ 58 ح 50 باب 3 والحديث.
30- المائدة: 3.
31- المائدة: 67.
32- المائدة: 67.
33- الشرح: 7; وقد وردت قراءة بلفظ (وانصب) بالكسر في تفسير الكشاف وتفسير البحر المحيط. انظر معجم القراءات القرآنية 8/ 188 إعداد الدكتور أحمد مختار عمر وعبد العال سالم مكرم.
34- البحار 16/ 1 ح 1 باب 5 والحديث.
35- البحار 16/ 13 ح 12 باب 5.
36- الضحى: 8.
37- البحار 16/ 22 ح 19.
38- الرعد: 38، غافر: 78.
39- التوبة: 129.
40- البحار 19/ 21 ح 11 باب 5.



المصدر: الخصائص الفاطمية: الشيخ محمد باقر الكجوري، ترجمة: سيد علي جمال أشرف. ط1، انتشارات الشريف الرضي، 1380ش. ج1.

التعليقات (0)

اترك تعليق