نحو منظور إسلامي للمعرفة النسوية
المعرفة النسوية هي نوع من المعرفة، نشأ في إطار دعم حركة إنصاف النساء وتأكيد حقوقهنَّ في المواطنة المتساوية مع الرجال. هذا اللون من المعرفة ظهر كرد فعل لجملة الحجج والأسانيد التاريخية والبيولوجية والاجتماعية التي ساقها المناهضون لإنصاف المرأة؛ لدعم الأوضاع القائمة لمصلحتهم، والتي قامت على أساس إثبات الخصائص الدونية للمرأة قياسًا على الرجل؛ بما يبرر إبقاءها تحت الهيمنة، وفي ظل بنى تقوم على الاستضعاف.
وفي هذا الإطار كان من المفترض أن تُقدم النساء المدافعات عن مساواتهن الإنسانية على إعادة اختبار المعارف الاجتماعية والتاريخية والعلمية المطروحة لكشف ما بها من انحيازات، وتضليل وإجحاف، وتقديم رؤية بديلة أكثر إنصافًا تدعم خطاب حقوق المرأة.
لقد بدأ التوجه نحو إنتاج هذا اللون من المعرفة بالحدس النسائي القائم على إحساسهنَّ العميق بالمساواة في الخصائص الإنسانية مع الرجال، أو شعور المتدينات منهن بالعدل الإلهي الحتمي إزاء البشر؛ ولكن هذا الجهد انتهى عبر مراجعات كثيرة إلى العديد من النتائج العلمية والنظرية التي تدعم دعاوى النساء، خاصة في مجال التحليل التاريخي والأنثروبولوجي لتكوّن وبناء أنماط السلطة في المجتمع.
دواعي الاتجاه نحو تأصيل إسلامي للمعرفة النسوية
تبرز الحاجة ملحة إلى نشأة معارف نسوية محلية أو خاصة، وفك عرى التبعية بين حركة النساء في العالم عمومًا - والعالم الإسلامي على وجه الخصوص - وبين الاتجاهات النسوية الأسبق حركة وتقدمًا في الغرب.
تنبثق الحاجة إلى توليد هذه المعرفة من نوعين من الأسباب: الأول سبب طارد أو سلبي؛ يكمن في صميم المعرفة النسوية الغربية المهيمنة. ويرجع ذلك إلى المسارات التي انتهت إليها، وهي مسارات تثير في النهاية شعورًا بالرفض والاغترار وعدم الرضا لدى قطاع كبير من النساء غير الغربيات؛ إما لتناقضها مع رؤيتهن الخاصة للعالم ولذواتهن وللأهداف المرجوة لحركة النساء، أو لتناقضها مع أطرهن المرجعية الأصلية.
من بين تلك العوامل تفاقم نزعة التطرف وغلبة الاتجاهات النسوية الراديكالية على مجمل الحركة النسوية؛ الأمر الذي يتجلى في تخلي عديد من النسويات الغربيات عن النزعات الإصلاحية الرامية لإصلاح البنى القائمة نحو هدمها تمامًا، يستوي في ذلك بنى المجتمع - وعلى رأسها الأسرة الطبيعية - أو بنى المعرفة والعلوم المختلفة. كما يظهر في تجاوز غاية إقامة أو تحقيق العدل الغائب في ظل الأنظمة الأبوية* إلى السعي لإقامة بنى انحيازية أو ظلم تاريخي بديل.
الطائفة الأخرى من الدواعي هي دواعٍ ذاتية تتعلق بتشخيص واقع ومشكلات النساء في العالم الإسلامي والجذور الثقافية لتلك المشكلات.
إذا كانت المعرفة النسوية تهدف إلى تحرير العلم والثقافة من مكونات الانحياز الذكوري، والبحث عن الأسس والركائز والحجج التي تدعم مفهوم العدل والمساواة الإنسانية بين البشر، وترفع الغبن عن النساء؛ فإن هذا التعريف - في حد ذاته - يفرض بالضرورة خصوصية المعرفة النسوية الإسلامية؛ ذلك أن الثقل الأشد وطأة على النساء في العالم الإسلامي إنما ينبع من منظومة الثقافة (شعبية كانت أم نخبوية مقروءة)، ثم العديد من العلوم والمعارف الدائرة حول الدين وأحكامه، سواء منها ما يتعلق بتفسير الآيات والفقه وعلم التاريخ، كما يتعلق ببنى التنظيم الاجتماعي التي تزعم تمثيل القيم الدينية والأخلاقية.
وباختصار: فإن الظلم الواقع على النساء في العالم الإسلامي إنما يرجع إلى منظومات المعرفة البشرية التي نسجت حول الدين، واكتسبت قداسة مزعومة من مجرد اقترابها منه رغم بشريتها الأصلية وتاريخيتها.
إن كثيرًا من أهل العلم من النساء والرجال الذين يقتربون من تلك المعارف لا يملكون سوى الدهشة من مقدار الانحياز الذي لا ينبني إلا على الرأي والتوجه المسبق والأعراف في تأويل النصوص وبناء الأحكام فيما يخص المرأة. وبناء عليه يمكن القول بأن حركة إنصاف المرأة لا يمكن أن تتم إلا بتوافر ذلك الشق المعرفي الذي يهدف بوضوح ودون التباس إلى تفكيك التاريخي البشري عن النصوص المقدسة المجردة، وتطهير الأصول والمصادر الإسلامية من قرآن وسنة مما ألصق بها من عناصر بشرية تأويلية، وبناءات فكرية مصدرها الحقيقي هو الأعراف والآراء والانحيازات البشرية.
خصائص المعرفة النسوية الإسلامية
في تصور مبدئي لخصائص معرفة نسوية إسلامية يمكن الإشارة إلى الأبعاد التالية لتلك المعرفة الناشئة:
أولا: أصالة المكون الميتافيزيقي جنبًا إلى جنب مع المصادر المادية للمعرفة:
وهذا خلاف جوهري مع مرتكزات المعرفة النسوية الغربية التي تعتمد العقل البشري والخبرة المادية والإنسانية مصدرًا وحيدًا للمعرفة، سواء في ذلك علاقات الإنتاج أم الخبرة المادية الجسدية للمرأة... إلخ. في المقابل فإن المنظور الإسلامي ينبثق من الاعتراف بالأبعاد الغيبية (ما وراء الطبيعية) ممثلة في الخالق المعبود جل شأنه، وهو مصدر أساسي للمعرفة والحكمة من خلال الرسالة والدين والشريعة؛ فالمعرفة الميتافيزيقية ليست في المنظور الإسلامي معرفة هلامية غير محددة الأبعاد، بل هي منظومة متكاملة للحياة، وأصل الكون وغاية الوجود الإنساني، وعلاقته الطبيعية وما وراءها ثم مصير الإنسان. كما أنها بالنسبة للإنسان المسلم محددة في "نص مقدس" - لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - يتضمن نسق العقائد والأحكام.
بالإضافة لهذه المعرفة ومن منطوق النص المقدس ذاته تأتي المعرفة المادية والتاريخية مصدرًا أساسيًّا بدوره: للعلم والتذكر والتدبر والتأمل والتفكر والفهم واستنباط الدروس. وقد دعانا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه إلى النظر في الآفاق وفي أنفسنا، وإلى النظر في الكون والمخلوقات وسير السابقين واستنباط الحكمة من ذلك.
ثانيًا: إن المعرفة النسوية الإسلامية تستند إلى إطار مرجعي عقدي أكبر:
في هذا الإطار هي تقترب - تصنيفًا- من الاتجاهات النسوية الليبرالية والماركسية، وتتباعد عن الاتجاهات النسوية ما بعد الحداثية التي ترفض المعرفة ما قبل النسوية. والمعرفة النسوية الإسلامية هنا قد تواجه ما تواجهه المدرستان المشار إليهما من معضلات تتمثل في خضوعها لسلطة تلك المنظومة المرجعية.
وإذا كانت تلك السمة مصدرًا للضعف أو الانتقاد في المثلين السابقين - كون هاتين المدرستين نتاج فكر بشري قاصر أُسس وفق منظومات انحيازية تعكس القصور والتاريخانية وسمات الانحياز الذكوري والأبوي - فإن التماس العدل المطلق الذي ننشده في المنظور الإسلامي يقتضي هنا ويؤكد أهمية التمييز الواضح والحاسم بين المقدس الثابت من ناحية، والتاريخي النسبي من ناحية أخرى؛ حيث المصادر الأخيرة للمعرفة (البشرية النسبية) التي نُسجت حول الأصول (القرآن والسنة الثابتة) هي المجال المتوقع لدخول وتغلغل الانحيازات النوعية ضد أو مع جنس بعينه من البشر.
ثالثًا: المعرفة النسوية في المنظور الإسلامي هي معرفة نقدية في جوهرها ومضمونها، إصلاحية في هدفها:
هي معرفة تتجه بالنقد إلى الواقع القائم والأنظمة الاجتماعية والبنى المعرفية والعلمية، كشفا عن مواطن الغبن والانحياز وعدم الشرعية في ضوء المرجعية الإسلامية المبرأة عن التحيز والظلم. التحليل والتفكيك للمعرفة والأنظمة هو أحد وسائل تلك المعرفة، ولكنه ليس هدفها. فكما أن النساء هنَّ جزء من الجماعة الإنسانية وسيظللن كذلك؛ فإن المعرفة النسوية هي جزء من بنية المعرفة الإنسانية تتغذى منها وتغذيها.
النقد والتفكيك من المنظور النسوي الإسلامي يهدف إلى الإصلاح وليس الهدم.. إلى إزالة مواطن العلة في الجسد الكلي للمجتمع والعلم، وليس إلى قتل ذلك الجسد.
رابعًا: نحو ثقافة واحدة لا ثقافتين ومجتمع واحد لا مجتمعين:
إن الغاية التي تتوخاها النساء هي الاندماج في المجتمع، وأن يستوعبهنَّ ذلك المجتمع بلا استبعاد أو ازدراء أو إدراج في فئة أقل. من هذا المنطلق ومن المنظور الإصلاحي السابق الإشارة إليه فالمعرفة النسوية ليست نطاقًا مستقلا انعزاليًّا للمعرفة في واقع الأمر، بقدر ما هي -وبشكل أدق- "مدخل أو اقتراب إصلاحي ضمن مداخل أخرى عديدة"، وإذا كانت هذه المعرفة تستقل بذاتها فهي تستقل بشكل مؤقت، غير أنها لا تؤسس نظامًا معرفيًّا عنصريًّا خاصًّا بها، وإنما تهدف إلى نفي الاستبعاد والعنصرية عن أنظمة المعرفة القائمة.
وباختصار: فالمعرفة النسوية الإسلامية هي اقتراب مستقل للإصلاح الفكري والثقافي والاجتماعي، ولكنه يهدف في النهاية للتأكيد على وحدة واندماج المجتمع والثقافة لا انفصامهما على أسس عنصرية أو نوعية.
خامسًا: إن المعرفة النسوية الإسلامية محكومة بالضوابط الموضوعية والمنهجية الإسلامية:
وهذا هو العاصم لها من الشطط، والضامن لاستمرارها في قلب المنظومة الإسلامية. من بين تلك الضوابط على سبيل المثال: ذلك الطرح الوظيفي الأخلاقي للعلم الذي عُبّر عنه إسلاميًّا بمفهوم "العلم النافع".
أما مفهوم النفع فرغم قابليته للتفسيرات والاختلاف فإن الثابت كون الإسلام يلفظ التطرف وأحادية الطرح، ويرى الحق قوامًا بين المتقابلات، هكذا يكون النفع محققًا لصيغة تجمع بين الفرد والجماعة، وبين مصالح الدنيا والآخرة، وبين مسالك العقل والنقل... إلخ. ومن هنا يفترض أن ثمة صيغة عادلة لتحقيق التوازن بين مصلحة المرأة والرجل والأسرة والمجتمع.
السمة السابقة تنقلنا إلى ضابط آخر مهم وجوهري في المنظومة الإسلامية هو "العدل". فالعدل يتخذ مكانًا محوريًّا في المنظور الإسلامي للمعرفة النسوية؛ فكما يرفض هذا المفهوم تجاوز الرجل "الحدود" (أي تخطي العدل) من أجل الحفاظ على هيمنته ومصالحه على حساب الآخرين، كذلك يرفض -بالقدر نفسه- تجاوز النساء حدود الإنصاف. فالعدل قيمة ضابطة كلية وشاملة في تقويم المعرفة والنظام الاجتماعي والسلوكي والديني في المنظومة الإسلامية.
سادسًا: المعرفة النسوية الإسلامية هي بالضرورة معرفة تحررية ضد السلطة المطلقة لفرد أو جنس أو رأي أو نظام وحيد:
تنبع تحررية هذه المعرفة من جوهر المرجعية الإسلامية، ومن القراءة الإصلاحية التي تتبناها تلك المعرفة. فالإسلام قد عرف تنوعًا في التفسيرات والقراءات ما بين الرؤى الإصلاحية والمحافظة والرجعية التي لا يمكن قبول ادعاء إحداها باحتكار سلطة التحدث باسم الدين أو التعبير عن مرجعيته. والمعرفة النسوية هي إحدى القراءات التي تؤكد على الجوهر والطبيعة الإصلاحية للإسلام.
تحررية هذه المعرفة (وتحررية الإسلام) نابعة من جوهر دعوته في تركيز العبودية وحكرها على الخالق المطلق الكامل دون غيره من السلطات البشرية، وأن ما عداه من مصادر تدعي السلطان إنما هي مصادر ثانوية تنظيمية، وليست تأسيسية ترتهن طاعتها بقبول البشر وبمدى التزامها بتعاليم الخلق، وتقتضي المراجعة والرقابة الدائمة. هي معرفة ترفض النظام "البشري" الاحتكاري، والسلطة البشرية الواحدة المطلقة، والهيمنة الاجتماعية الواحدة والمطلقة؛ لأنها تطرح حقيقة مهمة هي تعدد وتنوع الجنس البشري والاعتراف بكرامة الآخر، وأهليته للتكليف، وحقه في المشاركة والتأثير من خلال الشورى لإدارة وإصلاح المجتمع.
الحرية وفق هذا المنظور هي التحرر من الخلق لا من الخالق؛ حيث يرى الإسلام أن العلاقة المباشرة بلا وسيط أو مهيمن بين الإنسان المسئول وخالق كامل القدرة والعلم والاطلاع على الكون وعلى نفس الإنسان، خالق واسع الرحمة مطلق العدل.. هي جوهر المنظور الإسلامي لحرية الإنسان الوجودية وأساس نضاله ضد مصادر الهيمنة والقوة البشرية.
أما الطرح الحداثي الغربي لمفهوم الحرية الذي ينزع من الكون وجود مرجعيته المطلقة الصفات ويستبدلها بالإنسان ذاته؛ فإنها وفق المنظور الإسلامي نزعة وهيمنة فوضوية تضر بالإنسان، وتفكك روابطه بالمجتمع، وتجعله فريسة للاغتراب، فضلا عن أنها لا تحرر الإنسان، بل تجعله خاضعًا لمنظومات وسلطات إنسانية قاصرة دون مخرج.
والمعرفة النسوية تسعى للتحرر من خلال طرح مصادر السلطة المعرفية والاجتماعية على المرجعية الإلهية والاحتكام إليها، من خلال استكمال جسور المعرفة بين النساء وإرادة خالقهنَّ فيهنَّ دون وسيط متحيز أو ذي هوى لتعرف النساء بأنفسهنَّ حقوقهنَّ وهويتهنَّ وأدوارهنَّ.
يكمل ذلك شروط مهمة؛ فالمعرفة النسوية - بل كل أنماط المعرفة الاجتهادية الدافعة نحو التطور - لا تتعيش إلا من خلال استقرار مبادئ التعددية الفكرية والاجتماعية والسياسية، سواء داخل المجتمع أم بين الرؤى النسوية ذاتها.
المعرفة النسوية لا تتنفس الحياة إلا في إطار من حرية التعبير التي تدور في فلك "الحدود الدينية الثابتة التي لا خلاف عليها"، وليس في ظل غابات القيود والأغلال التي نمت وتراكمت في ظل عصور القمع السياسي والاجتماعي تحت دعاوى سد الذرائع ودرء الفتن... إلخ.
سابعًا: نمو المعرفة النسوية رهين بنمو تيار ثقافي اجتهادي في نسيج المعرفة والثقافة الإسلامية عمومًا:
بعبارة أخرى: فإن المعرفة النسوية الإسلامية ليست كيانًا لقيطًا ينمو وحده، وإنما هي جزء لا يتجزأ من ثقافة الاجتهاد والتجديد في الفكر والثقافة الإسلامية بفروعها المختلفة. هذا السياق الثقافي الذي يسعى إلى إعادة اكتشاف معنى الأشياء في الإسلام بدلا من المعاني والأهداف القاتمة والانهزامية التي وصلت إلينا من عصور الاضمحلال في تاريخ المسلمين حول علاقة الإنسان بالسلطة والكون وغيره، وبالحياة... إلخ.
بغير هذا السياق تبقى المعرفة النسوية الإسلامية يتيمة ضعيفة أمام الأعاصير التي تريد أن تفتك بها. وهذا يفرض بدوره التزامًا ومسئولية على النساء في الإسهام النشط والحقيقي في إحياء ثقافة الاجتهاد في مختلف مجالات المعرفة الإسلامية حتى ما لا يمس منها بشكل مباشر قضايا المرأة، هو التزام ومسئولية تؤكد اندماج المرأة العضوية في أمتها وفاعليتها في دعم هذه الأمة.
كانت العناصر السابقة مجرد طرح أولي نحو مجال متسع وأفق رحب من المعرفة التي تمهد الطريق لنظم اجتماعية وقيمية أكثر عدالة للنساء، ذلك الجنس البشري الذي كرمه الله وظلمه الإنسان. فكان الرجوع إلى الخالق وليس الابتعاد عنه - كما نعتقد - هو السبيل الأرشد لاكتشاف العدل المفقود الذي وعد الله به من يرثون الأرض.
د.أماني صالح: دكتوراه في العلوم السياسية، نائب رئيس جمعية "دراسات المرأة والحضارة".
* ملاحظة: استخدام مصطلح "النظام الأبوي" أو "الذكوري" راجع إلى أدبيات الحركة النسوية الغربية [ إدارة الموقع].
المصدر: دورية المرأة والحضارة عدد1
اترك تعليق