مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

  الأسس النظرية للبحث في حقوق المرأة

الأسس النظرية للبحث في حقوق المرأة


تمهيد
يرتبط البحث، في موضوع المرأة، بمجموعة معقَّدة من الأبحاث في مختلف العلوم، فلا يمكن النَّظر إلى أي نظام حقوقي يتم وضعه لمعالجة إشكالية حقوق المرأة بشكل مجرد عن الأعراف والعادات الاجتماعية، أو الأبحاث الإنسانية أو الفكر الديني. وبعبارة أخرى: يمكننا القول: إن الوصول إلى صياغة الأطر الحقوقية للمرأة لا بدّ من أن يتمّ عبر ملاحظة كل ما يعيشه المجتمع، ولا يمكن إغفال أي خصوصية من هذه الخصوصيات عند القيام بهذا التقديم.
إنَّ مشكلة البحث عن حقوق المرأة لا تزال مشكلة قائمة في الشرق والغرب، فهي لا تختصُّ بالشرق فقط، ولا يمكننا الحديث عن وصول الغرب إلى صيغة نهائية تضمن حقوق المرأة الغربية على الأقل حتى نتحدث عن عملية استيراد لأفكار غربية وتطبيقها في الشرق، لا سيما المسلم منه.
والبحث في موضوع المرأة قد يكون في تفاصيل الأحكام المتعلِّقة بها، أي في أن أي حكم هو الضامن لحقوقها والرَّاف للظلم عنها، وهذا لعله من أكثر الأبحاث الشائكة التي هي مدار جدل واختلاف بين الباحثين فيها.
كما أن البحث قد يتجه اتجاها آخر هو محل اهتمامنا هنا الآن، وهو البحث عن المناهج العامة التي يتم النظر منها إلى موضوع المرأة، وبعبارة أخرى: لنخرج من دائرة الأحكام التفصيلية ونبحث في المناهج التي تؤدي إلى ولادة مثل هذه الأحكام، ونحن بهذا نرجع في الاختلاف في شأن تحديد الأحكام التفصيلية إلى جذرها الأساسي، ولنقل: إننا سوف نبحث عن مجموعة من الأسس المعرفية أو الفرضيات المسبقة التي تبنى عليها هذه الأحكام، وهذا بحث يقع في رتبة أسبق من البحث في تفاصيل الأحكام، ولا بد من أن نشير هنا إلى أهمية مثل هذه البحث أولا وفائدته قبل أن ندخل في تفاصيله.
أهمية البحث
تعود أهمية البحث، في هذا الموضوع إلى أمور يمكن تركيزها في ما يأتي:
لا يعود أكثر ما يشغل الساحة الفكرية، اليوم، في عالمنا الإسلامي، إلى تفاصيل بعض الاحكام، كحكم الارتداد والمرأة وقانون العقوبات وغير ذلك من المفردات المبثوثة هنا وهناك، وإنما يعود إلى البحث في كيفية ولادة هذه الأحكام، وإلى المناهج المعتمدة لدى أصحاب الرأي عند إصدارهم إيَّاها، وبعبارة أخرى نقول: إن البحث سابقًا كان يتم على الشكل الآتي: يقوم الباحث، إسلاميا كان أم غير إسلامي بطرح إشكالياته عن بعض الموضوعات والأحكام، فيتساءل عن مسألة قتل المرتد، ليثير إشكالية الحرية الإنسانية في وجه الحكم الشرعي القاضي بقتل المرتد، ويطرح ما لديه نتيجة ما يعيشه في حياته من اضطهاد، أو نتيجة تأثُّر بالغرب وبالحرية المطلقة التي منحها لإنسانه. ويأتي الجواب من قبل أصحاب النظر. وهم في العادة من الحوزويِّين، مجتهدين كانوا أم فضلاء. لطرح أجوبتهم عن هذه المفردة بخصوصها طارحين حقيقة الحكم الإسلامي القاضي بمثل هذا الحكم.
يلاحظ على هذه الطريقة التي كانت سائدة ما يأتي
أوَّلًا: إنَّها لا نهاية لها، وبعبارة أخرى: إن لدينا دائما من المفردات ما يولِّد الكثير من الإشكاليات التي تنشأ في الأذهان وتثير الأسئلة والاستفهامات. وهذا الأمر، وإنَّ كان لا يعني الكثير لدى بعضهم، فإنَّ تراكم الإشكاليات والإثارات قد يولِّد لدى بعضهم الآخر تشكيكًا في المنهج كله إذا رأى فيه الكثير من نقاط الضعف وإن كانت متناثرة متفاوتة في القوة والمتانة.
ثانيًا: إنَّ هذه المنهج يعتمد بشكل عام على طرح المفردات بشكل تجزيئي، وبعبارة أخرى: يتم تناول المفردات بشكل مستقل منفضل، وهذا أمر خاطئ لا سيما إذا كان البحث عن نظام حقوقي متكامل، فهل يمكن النظر إلى مفردة من هذا النظام وطرح ما يثار عليها من إشكال، والجواب عن ذلك، أيضًا، من دون النَّظر إلى مجموع هذا النظام القانوني أو أنَّ هذا النظام القانوني لا يعني وجود ترابط بين أجزائه؟!
ثالثًا: إنَّ اعتماد هذا المنهج سوف يولِّد مشكلة تأتي في مرحلة إثارة الإشكال، وفي مرحلة الجواب: ففي مرحلة طرح الإشكال تتمثل المشكلة في أن من يقدِّم إشكالا ما أو إثارة ما كثيرًا ما ينشأ إشكاله هذا نتيجة نظرته التجزيئية لهذا النظام الحقوقي، أي أنَّه ينظر إلى مفردة مستقلة ويطرح ما يمكن أن يثار عليها، متناسيا ترابطها مع غيرها، وهذا الأمر سوف يولّد تناقضًا داخليًا لدى أصحاب هذه الإشكاليات، لأنَّ ما يُطرح في شأن مفردة ما من هذا النظام الحقوقي سوف يتجاوزه، أو ربما يطرح نقيضًا له في مفردة أخرى.
كما أنَّ هذه المشكلة تتمثَّل في من يتكفَّل بمهمة الإجابة عنها، إذ إنَّه عند قيامه بوظيفة حل إشكالية ما في مفردة ما قد يقوم بالالتزام بأمر لا يلتزم به في مفردة أخرى، وهو غير ملتفت إلى ما كان قد حكم به أو تبنَّاه في تلك المفردة، فيقع هو الآخر في مشكلة التناقض الداخلي. وهذا الأمر يظهر لدى الطرفين تارة بشكل واضح بيّن وأخرى بشكل خفي مستتر.
رابعًا: إن هذا المنهج لن يضع يده على الجرح كما يُقال، أي أنه لن يحل المشكلة بشكل جذري، وحلُّ المشكلة جذريًا إنما يكون بالبحث عمَّا أوصلنا إلى هذا الحكم قبل البحث عن فوائده ومضارِّه. إنَّ البحث في كيفية وصول هذا النظام الحقوقي المعيَّن إلى تبنِّي هذا الحكم سوف يؤدي إلى أن يكون صاحب الإشكالية أكثر دقَّة وعمقًا في تبيُّنه لأساس ما يلاحظ على هذه المفردة، كما أن هذا سوف يوفِّر للمدافع عن الحكم ولمتبنِّيه فرصة تبين كيفية توصُّله إلى هذا الحكم، وفرصة أن يقدِّم للآخر أفضل صورة ممكنة لأفضل حكم يمكن الوصول إليه.
ولكن لو طرحنا المشكلة بنحو آخر، وهو أن يطرح المتبني لنظام حقوقي منهجه المستخدم، في توصّله لهذا النظام أو في تقديمه له. كما هي الحال إسلاميا؛ حيث إن دور الباحث الإسلامي هو تقديم النظام الحقوقي الإسلامي. ويأتي الآخر ليسجل ملاحظاته على هذا المنهج بالاعتماد على ما لديه، فإن المتانة سوف تكون صفة لكلا العملين.
إن القيام بهذا البحث المنهجي يتم عبر نحوين:
النحو الأول: أن يتم النظر فيه بشكل أكثر عمومية وشمولية، كبعض الأبحاث التي طرحت لاستنباط مناهج علم كامل، مثل ما تمَّ طرحه من أبحاث في شأن الفقه وطريقة الاستنباط العامة المعتمدة في علم الفقه، وما طرح في شأن ذلك من إشكاليات، [...].
النحو الثاني: أن يتم النظر فيه إلى نظام حقوقي وإلى منهج البحث في باب ما من أبواب الفقه أو الحقوق، نطرح لذلك أنموذجين بارزين:
١- ما طرحه الشهيد السيد محمد باقر الصدر، في كتابه: "اقتصادنا"؛ حيث عمل على البحث في موضوع الاقتصاد الاسلامي بشكل متكامل وشامل، نعم لم يبحث في مناهج الاستنباط الفقهي، أو في طريقة عمل الفقهاء كما ذكرنا في النحو الأول، وإنما ارتكز بحثه على ملاحظة الاقتصاد الإسلامي بكل مفرداته، وحاول الوصول إلى تقديم نظام اقتصادي إسلامي متكامل يسدّ به كل الثغرات، ويرفع به جميع الإشكاليات المطروحة على بعض مفردات الأحكام الاقتصادية في الفقه الإسلامي.
٢- ما قدمه الشهيد الشيخ مرتضى مطهري في كتابه: "نظام حقوق المرأة في الإسلام" فقد عمد إلى طرح منهج البحث إسلاميا في مسألة حقوق المرأة. وبعد أن وضع إطارا عاما للبحث دخل في المفردات، ليقدمها جميعها على أساس ما بناه من فكرة قوامها: "النظام الطبيعي"، وهو بهذا تمكن من طرح موضوع المرأة بشكل مختلف خرج به عن النظرة التجزيئية للموضوع، ما أكسب بحثه هذا أهمية فائقة.
إنَّ ما سنسعى إليه، في هذه المقالة، هو ملاحظة المناهج العامة، أو فقل: الفرضيات المسبقة للبحث في موضوع حقوق المرأة، أي إنَّنا سوف نتجاوز البحث في المفردات إلّا إذا أوردناها أمثلة لنبحث في الاختلاف في الفرضيات المسبقة هذه التي بنى عليها من قام بتقديم منهج متكامل للنظام الحقوقي الإسلامي، ومن قام بنقد هذا المنهج وتسجيل ملاحظاته عليه.

الفرضيَّات المسبقة

١- النظام الطبيعي ودوره في النظام الحقوقي الإسلامي
لعلَّ فكرة بناء الحقوق، من أي نوع كانت، على أساس النظام الطبيعي، أو على نظام الخلقة التي خلق الله الناس عليها، قديمة جدًّا في الفكر الإسلامي، وليست جديدة، وإن كانت امتلكت اسلوبا جديدا في هذا التقديم، فما هي جذور هذه الفكرة؟
يعتمد السيد الطباطبائي، عند حديثه عن قواعد حقوق المرأة في الإسلام، على فكرة النظام الطبيعي، ويشرح ذلك بأنَّ المرأة، وإن كانت تشترك مع الرجل في بعض الجهات، تختلف عنه في جهات أخرى. ويقوم السيد الطباطبائي يشرح هذا الاختلاف الطبيعي، فيذكر أنموذجًا ينمثَّل في مسألة بناء المرأة على الأحاسيس والعواطف أو تأخر نمو المرأة في خصوصياتها الكمالية عن الرجل كالأعصاب والشرايين والقامة و... ولذا يقول السيد: "فرَّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة والاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين، أعني التعقُّل، والإحساس، فخصَّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقُّل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة، وخص مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسَّهمين في الإرث، ثم تمَّم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة"(٣).
ومن هنا بنى الشهيد المطهَّري، في كتابه: "نظام حقوق المرأة"، على هذا النظام الطبيعي، في التفسير الذي قدَّمه لجميع الأحكام المرتبطة بالمرأة، وذكر أنَّ الحقوق الطبيعية والفطرية ترجع الى الإستعدادات التي أوجدتها القوة الخالقة في الكائنات. ويبرز الشهيد المطهَّري الفوارق الطبيعية الموجودة بين الرجل والمرأة في جوانب كثيرة، سواء من الناحية الجسمية كالذي تقدم عن السيد الطباطبائي من ناحية إن جسم الرجل أضخم من جسم المرأة، ومن أنَّ الرجل أطول وأنَّ نمو المرأة أبطأ و... أو من الناحية النفسية التي تظهر في ميل الرجل إلى الأعمال التي تحتاج إلى القوة وميل المرأة إلى الأعمال التي لا تحمل عنفًا وخشونة(٤).
اذًا يعتمد أصحاب هذا الرأي على مقدِّمتين:
الأولى: إن التفاوت التكويني- الطبيعي بين الرجل والمرأة أمر مسلَّم به، ولا يمكن إنكاره.
الثانية: إن هذا التفاوت هو المنشأ في اختلاف الحقوق والأحكام المقرَّرة في النظام الإسلامي.
ولكن تمَّ تسجيل العديد من الملاحظات على هذه الفكرة، وهذه الملاحظات متفاوتة، بين رافض لأصل كون هذا التفاوت عاملًا في اختلاف القيم، وبين محدِّد له في دائرة أضيق من الدائرة التي تمَّ استخدامه فيها لتقديم تفسير له.
الملاحظة الأولى: إن هذا التفاوت التكويني بين الرجل والمرأة أمر مسلَّم به، ولكن هل من المقبول الحديث عن أنَّ هذا النوع من التفاوت يوجب تفاوتا في القيم الحقوقية والأخلاقية؟ إذًا لا بد من البحث عن الدائرة التي يكون للتفاوت التكويني تأثيره عليها. فمن جهة لا ينبغي الاعتماد على هذا التفاوت التكويني لحرمان المرأة من بعض الفرص وفتح الباب للرجل أمام تلك الفرص، بل لا بدّ من أن تكون الفرص متكافئة والتفاوت ينبغي أن يكون اختياريًا، أي أنَّ المرأة قد تختار فرصًا معيَّنة، مراعاةً منها لهذا الاختلاف التكويني بين الجنسين(٥).
الملاحظة الثانية: إن الحديث عن وجود نظام طبيعي ثابت أمر خاطئ، فسواء في ما يتعلق بموضوع المرأة وحقوقها والأسرة أم في ما يرجع إلى النظام السياسي والاجتماعي لا يمكن الحديث عن النظام الطبيعي الذي يعود إلى الخلقة، بل ما ينبغي هو النظر إلى أحكام المرأة وحقوقها بنظرة تاريخية. وبعبارة أخرى: فإنَّ الحديث عن أي نوع من الأشكال المتنوعة للحياة الاجتماعية والأسرية، لا بدّ من أن يتم في كل عصر، وأن يتمّ السعي إلى فهم أي نوع من النظام في عصر معين يمكن أن يكون هو أساس الحياة المشتركة، وما هي الحقوق، وأي نوع من توزيع العمل يكون قابلا للتبني، وبعبارة أخرى: يكون عادلا(٦).
ولكن هل ينكر أصحاب هذه الملاحظة التفاوت التكويني الموجود بين الجنسين؟ والجواب هو بالنفي، ولكن هل نظرة هؤلاء للتفاوت التكويني ترجع، أيضًا، إلى القراءة التاريخية إذ يرى هؤلاء أن التفاوت التكويني يعود الى التطور التدريجي للإنسان، أي يعتقد أصحاب نظرية التكامل التاريخي بأنَّ هذا التفاوت، سواء بلحاظ الحالة الجسمية أم الحالة النفسية، وقع نتيجة التطور التاريخي. وبعبارة أخرى: إن هؤلاء لا يتبنَّون نظرية ثبات الأنواع، وهي الأساس في الإيمان بمبدأ الاختلاف الطبيعي الذي يُعدُّ الأساس في اختلاف الحقوق. ومن هنا يسجِّل هؤلاء هذا الفرض المسبق الذي يتعامل معه الفقهاء، ويتحدَّثون بصراحة عن أنَّه لا يمكننا اعتبار النظام الطبيعي فرضية مسبقة/مسلّمة يعتمد عليها عند مطالعة الكتاب والسنة، وأنه لا بدّ من تغيير نظرتنا للأمور، ولا بد من قراءة الكتاب والسنَّة بنظرة تاريخية.
ويتعدَّى الأمر لدى هؤلاء إلى خصوصيات المرأة الخاصَّة، فمثلًا يدَّعي هؤلاء(٧) أنَّ خصوصية الحمل والولادة وعاطفة الأمومة خاضعة للثقافة الاجتماعية، وليست أمرا تكوينيا طبيعيا. إن ما يمكن الوصول إليه، لدى هؤلاء، هو أن وظيفة الأمومة، لو أردنا التجاوز عن كونها ظاهرة طبيعية، ذات معنى في الداخل الاجتماعي- الثقافي. إن ما نتصوره عن هذا الدور [بحسب هؤلاء]* هو أنه استعداد طبيعي غير منتزع من المجتمع. إنَّ إدراكنا لجسم الإنسان، ومن جملة ذلك "القدرة على الحمل" و"الاستعداد الطبيعي" يشكل دائما معرفة اجتماعية. تاريخية، إن الأمومة تجد معناها متى تجاوزنا النظر إليها على أنها استعداد للحمل والولادة فحسب إلى أن تكون، مجموعة من المقولات الثقافية والقيم الاجتماعية المتولدة من هذا الاستعداد الطبيعي، كحضانة الأطفال بما أنها مسؤولية تقع في أغلبها على عاتق المرأة(٨).
يرفض أصحاب هاتين الملاحظتين عدَّ التفاوت التكويني أساسًا لاختلاف الحقوق، ويبنون على اعتبار أنَّ هذا التفاوت التكويني ليس بذي أثر في اختلاف الأدوار، فالدور الذي يقوم بأدائه الرجل غير الدور الذي تقوم بأدائه المرأة(٩).
إنَّ المثال الذي يمكن لنا أن نذكره لبيان دور الاعتقاد بوجود هذا الاختلاف الطبيعي، في اختلاف الحقوق، هو مسألة الشهادة، فقد اشترط القرآن صراحة أن الشهادة، فقد اشترط القرآن صراحة أنَّ الشهادة لا بد من أن تكون من رجلين أو رجل وامرأتين ‹وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ›(١٠). ولكن قد يقال هنا: إنَّ من الواضح أن الاعتبار الوحيد الذي راعاه الشرع في ذلك هو احتمال أن تخطئ المرأة الواحدة أو تنسى، ‹أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا›(١١).
وهنا يختلف أصحاب هذا التصور عن الاتجاه الآخر، فيرى هؤلاء أنَّ الخطأ والنسيان لا يرجعان إلى كونهما جزءا من طبيعة المرأة وجوهرها، بل إلى الوضعية الاجتماعية والتعليمية التي كانت عليها. ومن هنا ينشأ السؤال: إنَّنا لو افترضنا تحسُّن تلك الوضعية فتصل المرأة إلى مستوى الرجل، فما هو الحكم؟(١٢).
ويمكن أن نوجِّه نقدنا إلى عملية الإنكار المطلق هذه لدور هذا التَّفاوت:
أما في ما يتعلق بالملاحظة الأولى، فنحن نسلِّم بأنَّ التفاوت التَّكويني لا يوجب اختلافنا في القيم. إنَّ ما يؤكدِّه أصحاب هذا الرأي، قبل أيِّ شيء، هو مقولة تساوي الرجل والمرأة في القيم لقوله تعالى: ‹يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ›(١٣)، ما يعني أنّ المعيار في القيم هو الإنسانية وفي المفاضلة هو التقوى، وهذا ما يطلق عليه أصل الكرامة الإنسانية.
إن الأساس الذي تُبنى عليه المنظومة الحقوقية في الإسلام هو التساوي في القيم بين الجنسين، ولكن السؤال هو: هل يستلزم هذا التساوي في القيم التساوي في الحقوق والتكاليف؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن لنا أن نصل من الاختلاف في الحقوق إلى اختلاف القيم؟ ألا تنبغي الموازنة بين الحقوق والتكاليف قبل الحديث عن كون مجرد هذا الاختلاف موجبا لاختلاف القيم؟
وإذا كان المنطق القرآني يتحدّث عن كون الرجل والمرأة من نفس واحدة ‹يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ›(١٤) فأين يكون هذا الاختلاف في القيم؟
إذًا، الاختلاف في النظام الحقوقي يعود إلى أن هذا هو الحكم العادل للفريقين، وإلى أن تحميل الفريقين: الرجل والمرأة أحكامًا متشابهة، على الرغم من وجود هذا الفارق التكويني، هو الذي يحمل ظلمًا لهما.
وإذا كان أصحاب هذا الاتجاه يسلِّمون باختلاف الأدوار الموكلة للجنسين، فلنا أن نسأل: ألا يوجب اختلاف الأدوار هذا اختلافًا في الحقوق الموضوعة؟ فهل من الصحيح الحديث عن أدوار مختلفة وحقوق متشابهة؟ فلنلحظ ذلك في نظام مصغَّر، فإذا أراد صاحب مؤسسة ما أن يقوم بتوزيع الأدوار داخل مؤسسته، فهل يستطيع أن يعطي حقوقًا متشابهة للعامل الذي يوكل إليه دورًا ثانويًا مع العامل الآخر الذي يوكل إليه دورًا رئيسيًا؟ وحذرًا من إشكال ما قد يرد هنا، نقول: هل إيكال أدوار رئيسية مختلفة يستلزم حقوقًا متشابهة؟ إن ما نصل إليه هو أن هذا الاختلاف في الادوار المسلَّم به، من قبل هؤلاء، سوف يستلزم، بنحو ما، اختلافا في الحقوق والأحكام.
أما الحديث عن أدوار موحَّدة فهو أمر غير ممكن مع التسليم بهذا الاختلاف التكويني.
أما في ما يتعلَّق بالملاحظة الثانية، فهي إنكار لأمر واقعي معيش في الخارج، فإنَّ الكثير من التكاليف، حتى في الدول الغربية التي تعدُّ نفسها قد أحرزت تقدما في القيام بإلغاء جميع أشكال التمييز، لا تزال ترتبط بهذا التفاوت الطبيعي ولا يمكن الحديث عن طبيعة واحدة لدى الجنسين إطلاقا. فمثلًا، هل يمكن لأحد إنكار دور الحمل والولادة، وهي من أهم الفوارق التكوينية بين الجنسين، في إقرار نوع خاص من القانون، يضمن للمرأة نوعًا من الحقوق التي ترفع عنها أعباء مثل هذا الدور التكويني؟
وفي مثل آخر، هل يمكن تغيير أمر طبيعي في المرأة يتمثَّل في أنَّها أكثر عاطفة من الرجل؟ وهل نستطيع أن نلتزم بأن البناء العاطفي للمرأة يعود إلى التطوُّر التدريجي للإنسان؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يحدث أي تغيير في هذا العنصر لدى المرأة الغربية؟
ولعلَّ الأغرب من ذلك اعتبار مسألة الحمل والولادة أمرًا خاضعًا للمنظومة الثقافية التاريخية، ولو فرض أن الأمر كذلك، فهل يمكن أن نصل إلى وقت ننكر فيه أي دور لمسألة الحمل والولادة والأمومة في اختلاف النُّظم والحقوق؟ أي هل يمكن أن نصل إلى اليوم الذي ينبغي فيه أن ينظر المقنِّن إلى عدم تقديم أي امتياز للمرأة لخصوصية الحمل والولادة؟
بل لنذهب أبعد من ذلك، ونسأل: هل تمكَّن تطوُّر النظرة الغربية للمرأة والتصوُّر الموجود لدى الرجل عنها من إعفاء المرأة من بعض المهام التي كانت توكل إليها مسبقا؟ وهل أصبح العمل المنزلي وظيفة خاصة بالرجل؟ أو وظيفة مشتركة بين الجنسين؟ ألم تبقَ الصورة الموجودة في الغرب تتمثَّل في أن وظيفة المرأة الغربية، إضافةً إلى ما تحمله أعباء في العمل خارج المنزل، هي العمل في المنزل أيضا. فإذا كانت مسألة العمل المنزلي التي هي من أوضح ما يمكن أن يكون قابلا للتغيير لم يحدث فيه أي تأثر بالتبدل الثقافي. التاريخي فكيف بمسألة الحمل والولادة التي هي محض أمر تكويني؟

٢- ثبات مقولة الحقوق وتغيُّرها

من الفرضيَّات المسبقة التي يعتمد عليها الباحثون، في حقوق المرأة، اعتبار مقولة الحقوق من المقولات الثابتة التي لا يمكن أن تتغيَّر. وعلى هذا الأساس، ينظر الفقهاء إلى الأحكام التي وردت في شأن المرأة، ويرون أنها أحكام مؤبَّدة تنطبق مع العدالة.
وقد سُجِّل على هذه الفرضيَّة الكثير من الملاحظات، ومنها:
الملاحظة الأولى: لا يمكننا اعتبار هذه القوانين والأحكام ثابتة لا تقبل التغيير، لأن مقولة الحقوق هي مقولة سيَّالة متغيرة، وهذا أمر بديهي الآن في علم الحقوق، ولا يمكننا أن نفصل الحقوق الدينية عن مقولات الحقوق الأخرى؛ ذلك أنَّ جميع الأحكام المترتبة على الحقوق غير الدينية تترتب على الحقوق الدينية. وهذا الأمر شبيه بالفلسفة، فإننا إذا جعلنا للفلسفة خصوصيات هي ماهية الفلسفة، فلن يكون في ذلك فرق بين الفلسفة الدينية وغيرها، فلا بد للفلسفة الدينية من أن تكون مشتملة على هذه الخصوصيَّات(١٥).
أمَّا لماذا كانت مقولة الحقوق سيَّالة قابلة للتغيير، فهذا ما يمكن بيانه في ما يأتي:
إنَّ القوانين الموضوعة، في النظام الحقوقي للرجل والمرأة، ينبغي ألا تخرج عن خصوصية كلا الجنسين، أي أننا لا بدّ لنا من لحاظ كلتي الخصوصيتين وعدم الخروج عنهما. ومن هنا يرتبط هذا النظام الحقوقي بالتعريف الذي نقدمه للرجل والتعريف الذي نقدمه للمرأة. ومن هنا، أيضًا، كان البحث عن التعريف الدقيق للرجل والمرأة يقع في رتبة أسبق من البحث عن النظام الحقوقي لهما، وحيث كان هذا التعريف أمرًا خاضعًا للتغيُّر والتحوُّل ولا تعريف ثابتًا لدينا للرجل والمرأة على مر العصور، لأنَّه يخضع للعلوم التي نعيشها وللأسس الثقافية التي نمتلكها، وحيث إنَّه لا يمكننا أن نمتلك تعريفًا مستقلًّا عن ثقافة الزمان الذي نعيش فيه، ولمَا كانت هذه العلوم وهذه الثقافة متغيِّرة ومتحوِّلة، كانت الأحكام والقوانين متغيِّرة غير ثابتة.
من هنا القول: إنَّ النظام الحقوقي القائم لا يتناسب إطلاقا مع التصوُّر الجديد الموجود عن المرأة، والمثال المطروح لبيان ذلك هو مسألة تزويج البنت عند بلوغها تسعًا، أو نحو ذلك، وأنه قد ورد في الروايات أن من سعادة الرجل أن لا تطمث ابنته في بيته، ولكن هل يقبل العرف الاجتماعي الموجود الآن حتى المتشدِّد منه هذا الأمر؟ ولماذا يرفض مثل هذه السعادة؟ إن الحدَّ المقبول الآن لزواج البنت هو ثماني عشرة سنة، والسبَّب في ذلك يعود الى اختلاف التصوُّر الموجود عن المرأة، فإذا كان تصوُّرنا لدور المرأة يتمثَّل في ولادة الأطفال بمجرد أنَّ يملك جسمها القدرة على ذلك، وفي الاهتمام بزوجها فقط، فهذا يوصلنا إلى القول بأنها من الأفضل لها أن تسرع في الانتقال إلى بيت زوجها وأن تؤدي وظيفة إنجاب الأطفال ما دامت تملك القدرة على ذلك. أمَّا إذا كنا نرى للمرأة دورًا آخر في المجتمع يتمثَّل في الوقوف إلى جنب الرجل. فلا بدّ من أن تكون متعلِّمة وتملك تجربة وتعيش في المجتمع، ويُعْتَرف بقدرتها على إدراك الكلِّيات، إضافةً إلى إدراكها الجزئيات، فعندئذ لا بدّ من أن نحدِّد سنّ الزواج بنحو مختلف، وبهذا يظهر لنا إلى أي حد كانت الرواية الواردة تدلُّ على ما يتناسب مع عرف ذلك الزمان، وليست ذات دلالة دائمة(١٦).
ولكن الملاحظة المسجَّلة على هذا الكلام هي أنَّ الحديث عن دور التصوُّر الجديد للمرأة في تغيير الحقوق أمر صحيح في ما يرتبط بالنُّظم الوضعية، أي البشرية، لأنّ هذه النُّظم ترتبط ارتباطا وثيقا بالرؤية الكونية لهذا النظام الوضعي، وحيث كانت هذه الرؤية الكونية قابلة للتبدُّل والتحوُّل، وكان هذا التحوُّل يطال حتى مثل التصوُّر الموجود عن المرأة كان مثل هذا الكلام صحيحا. أمَّا في الرؤية الكونية الدينية، فإننا نملك ثباتا لا يقبل التحوُّل فهل يمكن لنا الحديث عن وجود تصوُّر ديني للمرأة مغاير للتصوُّر الديني الموجود في عصر النَّص؟ إنَّنا إذا أجبنا بالإيجاب عن هذا السؤال، نخرج عن هذه الرؤية الكونية ونؤمن برؤية كونية مختلفة. إن التغيير قد يطال بعض أطراف هذا التصوُّر، أي الأطراف التي تشكل عنصرًا متغيِّرًا في الرؤية الكونية أو ما تحيله الرؤية الكونية إلى الاجتماع البشري، ولا يمكن لهذا التَّغيير أن يطال الثوابت.
إذًا، نعم هناك فرق بين مقولة الحقوق الوضعية ومقولة الحقوق الدينية، وإذا كانت مقولة الحقوق مقولة متغيِّرة، فإنَّ ذلك يتم في الحقوق الوضعية وليس في الدينية، لارتباط ذلك بقابلية الرؤية الكونية الوضعية للتبدُّل وعدم قابليَّة الرؤية الدينية لذلك.
الملاحظة الثانية: إنَّ الأحكام والقوانين الراجعة إلى الاجتماع البشري لا بدّ من أن تكون متغيِّرة؛ وذلك لأنَّ عنصر الاجتماع هو عنصر متغيِّر غير ثابت، والمنشأ في ذلك هو تغيُّر معرفة الانسان بالانسان، وتغيُّر معرفته بالطبيعة وبالواقع الخارجي، والاجتماع مرتبط بهذه المعرفة، ومن هنا كان لا بد للأحكام والقوانين من أن تكون متغيّرة تبعا لذلك(١٧).  
وما يمكن أن يذكر، مثالا، لإيضاح هذه الفكرة قضية إعطاء حق الطَّلاق للرَّجل، فإنَّ الاجتماع البشري كان يرى أنَّ البيت مؤسَّسة تقع المسؤولية فيه على عاتق الرجل من الناحيتين الاقتصادية والادارية، والمرأة لا تحمل إلزامًا مشابهًا. وإذا كان الأمر كذلك، فللرجل الحق في إنهاء هذا العلاقة والخروج من عهدة المسؤولية. ولكن لو فرضنا أن الاجتماع البشري تبدّل وأصبحت المسؤولية تقع على عاتق الطرفين، فهل يبقى حق الطلاق بيد الرجل، وهل يبقى من حق الرجل الخروج من عهدة المسؤولية وتبقى المرأة ملزمة بذلك؟
ولكن هذه الملاحظة تحمل نوعا من الغموض؛ إذ هل تُعدّ مقولة: إن الاجتماع البشري متغيِّر مقولة مطلقة، أي هل نستطيع إذا قمنا بعملية قياس بين المجتمع العربي الموجود الآن وذاك الذي كان في عصر النَّص، أي قبل ألف وأربعمائة عام أن نجد اختلافا كاملا؟ أو أن هناك عناصر ثابتة في المجتمع البشري لا تقبل التبدُّل؟ فالمشكلة إذا في إطلاق مثل هذه القاعدة، إذ لا ننكر وجود تغيُّر اجتماعي، ولكنه لا يصل إلى حد يطال تلك العناصر الثابتة في التشريع(١٨).
أمَّا بالنسبة للمثال المذكور، فإنَّ المشكلة فيه تكمن في حصر مسألة الطَّلاق بخصوصية المسؤولية والخروج منها، وهي خصوصية كانت تقع على عاتق الرجل فقط، وهذا يمثِّل نظرة تجزيئية للمشكلة، لأنَّ مسألة الطلاق لم تنحصر بهذا الأمر، بل إنَّ الخروج من حصر عملية حق الطلاق بالرجل يتوقَّف على الخروج من مجموعة من الالتزامات، ومنها النَّفقة الواجبة على الرجل للمرأة وللأولاد، وثبوت الولاية للأب فقط وغير ذلك.
الملاحظة الثالثة: إنَّ فرضيَّة كون هذا النظام الحقوقي ثابتًا وأبديًا تعود إلى التمسُّك به، بوصفه وسيلة تحقِّق العدالة، من حيث كونه الأنموذج الوحيد الذي يمكنه تحقيق العدالة المنشودة للبشرية. ولكن ما يسجَّل هنا هو أن العدالة ليست أمرًا ثابتًا، بل هي أمر متغيِّر، فإنَّ أقصى ما يمكن أن يقال في تعريف العدالة في كل عصر: إننا لا نملك تعريفًا ثابتًا للعدالة ليس في ما يرجع أحكام الرجل والمرأة بل للنظام السياسي والاقتصادي أيضًا. إن تعريف العدالة، في كل عصر، موكول إلى الإنسان، ولا بد له من تحديد تعريف لها. أقصى ما يمكن أن يقال هو: إنَّ العدالة هي إعطاء كل ذي حقَّ حقّه، ولكنّ هذا التعريف عام. فلا بد في كل عصر من النظر إلى أ، أي نوع من النظام الاقتصادي، الأُسري، السياسي، يمكنه أن يقدم لأفراد المجتمع حقوقهم. وبعبارة أخرى: أن يضع الفرص أمام الجميع بشكلٍ متساوٍ، وفي نظام الأسرة الأمر أيضًا كذلك. ووظيفة أصحاب الرأي الآن البحث لمعرفة مواطن عدم المساواة. فلا بدّ لهم، وعبر التوسل بالأدلَّة، من تحديد موارد عدم المساواة. وبهذا يتمكَّن أصحاب الرأي، في المجتمع، من الاقتراب من تعريف العدالة. وما أراه هو أننا بدل الاعتماد على النظام الطبيعي للتخلُّص من عدم المساواة الموجود بين الرجل والمرأة، لا بدّ لنا من العمل على تحليل مفهوم العدالة المرتبط بنظام الأسرة(١٩).   
إنَّ الملاحظ، هنا، هو أن الحديث عن كون مقولة العدالة متغيِّرة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمقولة الحقوق،وهذا يعني أن كون العدالة أمرًا متغيِّرًا يعود للالتزام بأن مقولة الحقوق أيضًا هي مقولة متغيِّرة. وقد تقدَّم أنَّ الحقوق الدينية لا تقبل التَّغيير التام، وإن كانت تقبله في المساحة الموكولة إلى العناصر غير الثابتة. ومن هنا لا يمكننا الحديث عن تغيُّر تام في مقولة العدالة ما دامت مقولة الحقوق ثابتة كما تقدم بيانه.

٣- الجمود على الظَّاهر، أو استنباط ما وراء المعنى وملاحظة المقاصد

يمثِّل النَّص -المعتمد في الأغلب على الظهور- المستند الذي يعتمد عليه الفقهاء في استنباطهم للنظام الحقوقي المتعلِّق بالمرأة، وهذا الظهور نستطيع اعتباره المنشأ في ولادة هذا النظام الحقوقي القائم.
ولكن ثمة اتجاه آخر يرى أنَّه لا بدَّ من الخروج من هذا الجمود على الظاهر، لاستنطاق ما وراء اللفظ، أو لمعرفة فكرة المقاصد التي كان يسعى الشارع إلى تحقيقها في مسألة المرأة.
يتمُّ التمسُّك بإثبات هذه الدَّعوة بملاحظة الأسلوب الذي اعتمده النبي(ص) في إقراره للنظام الحقوقي واعتماده بدل اعتماد أسلوب الجمود على الظاهر، وإنَّنا لو أردنا ملاحظة ما قام به النبي(ص)، خلال مرحلة البعثة سوف نجد أنَّه اعتمد على تغيير ظروف المرأة تدريجيًا بنحو يتناسب مع الظروف المحيطة، إنَّ النبي(ص)، وسعيًا منه إلى تحسين ظروف المرأة، اعتمد اسلوبًا استمر به لثلاث وعشرين سنة من حياته، وكان يتقدَّم في كل عام خطوة نحو الهدف المنشود، ألا وهو تحسين ظروف المرأة. ولكن بعض الفقهاء غفلوا عن الأسلوب الذي كان معتمدًا لدى النبي(ص)، واعتمدوا على آخر ما أقرّه للمرأة وتوقَّفوا عنده. إنَّ توضيح ذلك ممكن عبر المثال الآتي:
فلنتصور أنَّ صاحب عمل قام بتوظيف عامل عنده، وقام بإعطائه أجره الشهري بمقدار ألف. وفي السنة الثالثة رفعه إلى عشرة آلاف وهكذا إلى السنة العاشرة. وفي السنة العاشرة، مات ربّ العمل، وكان العامل يتقاضى شهريًا مبلغ عشرة آلاف. وهنا اجتمع ورثة ربّ العمل لتحديد ما ينبغي القيام به لتحديد أجر العامل، وانقسموا إلى فريقين، فجماعة تبنَّت الالتزام بأنه حيث أن زيادة اجر العامل في السنوات السابقة كانت هي الطريقة المعتمدة من قبل ربّ العمل فلا بدّ من اتِّباعها، أي زيادة ألف في كل عام على أجر العامل الشَّهري. وجماعة أخرى من الورثة ذهبت إلى أجر العامل لا بدّ من أن يبقى على ما كان عليه عند موت ربّ العمل. ويعتمد هؤلاء على آخر عقد جرى بين العامل وربّ العمل، ويرون لما قام به مورّثهم قداسة لا ينبغي تجاوزها حتى لو بقي ذلك العامل في العمل لأربعين سنة تالية. فلا ينبغي زيادة الأجر له.
إننا، إذا أردنا ملاحظة صنيع الجماعتين، نجد أنَّ الجماعة الأولى تعتمد في الواقع على الأسلوب الذي كان يسير عليه ربّ العمل، وأما الجماعة الثانية فرأت أنّ ما فعله والدهم يتَّصف بالقداسة، واعتمدت على ظاهر ما كان. فأي الرأيين هو أقرب لما كان يسير عليه المورِّث؟ إنَّ الرأي الأول هو الأقرب لما كان عليه الأب(٢٠).
إذًا، لا بدّ من ملاحظة الرسالة النبوية، والعمل على اتِّباع المنهج المستخدم نبويًا، للخروج بالمرأة إلى حالة العدالة التي تتناسب مع الظروف المحيطة، وإن تلك التغييرات هي التي كانت ممكنة وقد تمت. والرسالة الأساسية التي تؤدِّيها تلك التغييرات هي أنَّه لا بدّ من السعي إلى إزالة أنواع عدم المساواة الأخرى التي فرضت على المرأة طوال التاريخ.
فما هو الموقف الصحيح من هذا الاتجاه؟
لا يمكن لأحد أن ينكر مدى أهمية معرفتنا بحقيقة ما أراده الشارع، وأنَّه مع امتلاكنا قدرة الوصول لتحديد ما يريده الشارع تحديدًا، وما يسعى إليه، فلا بدّ من اتِّباعه، وبعبارة أخرى: إننا إن امتلكنا القدرة على معرفة ملاكات الأحكام الشرعية، لا بدّ لنا من إتباعها ولكن أين نحن من الوصول إلى ذلك وليس أمامنا سوى النّص الذي لا نتمكَّن من خلاله من الوصول إلى حقيقة الملاكات الشرعية؟
ولعل المثال، المذكور آنفًا، المتقدم هو أوضح ما يمكن أن يقدِّم صورة لهذا الاتجاه، غير أننا نقول: إننا لو فرضنا مثل هذا الفرض، فإنه لا بدّ من اجتماع مجموعة من الخصوصيات التي تسمح باستنباط منهج متَّبع شرعًا. وما يمنع من الوصول إلى استنباط مثل هذا المنهج هو الجمود على ظاهر النُّصوص القائلة: إنَّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، أو النصوص القائلة: إنَّ كل شيء يحتاج إليه الناس قد تمّ بيانه أو نحو ذلك. إننا لو عدنا إلى المثال المذكور، وأضفنا إليه أمرًا آخر، وهو أن يقول صاحب العمل لأولاده: عليكم باتّباع ما قمت به، وإن كل ما قمت به صالح لكم إلى آخر حياتكم، فهل يمكن، في هذه الحالة، افتراض أن الرأي الأول أقرب من الرأي الثاني لما يريده الآن؟
ومن هنا نرى أننا أمام فرضين هما:
الفرض الأوَّل: الجمود على الظاهر والإفراط في ذلك، فلا يتم الخروج عن ظاهر النَّص حتى في الموارد التي تملك وضوحًا بأن الشارع لم يكن مراده الحقيقي هو هذا الظاهر بقدر ما كان يرمي إلى معنى آخر وراء هذه الألفاظ.
الفرض الثاني: الخروج عن الظاهر، والنَّظر إلى جميع الأحكام بنظرة مؤقتة، واعتبار القانون الإسلامي معبرًا للوصول إلى مقاصد معيَّنة، والعمل على فتح باب تغيير جميع القوانين بحجَّة الوصول إلى غرض الشارع وقصده الأساسي.
إنَّ كلاًّ من الفرضين خاطئ، والصحيح أنّ ما ينبغي هو اتِّباع طريق مشترك يتكوَّن من الفرضين؛ وذلك لتنوُّع القانون الإسلامي واشتماله على عنصرين:
الأول: عنصر ثابت لا يقبل التبدُّل والتحوُّل كالإرث.
أمَّا لماذا كان حال هذه الأمور كذلك، فذلك يرجع إلى ملاحظة خطاب الشارع نفسه، فلا يمكننا اعتبار توزيع الإرث الذي اهتم به القرآن وفصله بما لم يفصل به غيره من الأحكام، أمرًا متغيِّرًا إضافةً إلى أن نظام الإرث هذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمجموع النظام الإسلامي، فهو يرتبط بالنَّفقة والمهر وغيرهما.
الثاني: عنصر متحوِّل يمكن أن يكون خاضعا لملاحظة المقاصد الشرعية وما وراء الأحكام، والقيام بعملية تغيير تحفظ لنا هذه المقاصد. ويمكن أن يتمثل بأمرين:
أحدهما: الأحكام التي أوكل الشارع فيها الأمر إلى العرف المتبدِّل والمتحوِّل، ولم يقصره على عرف ذلك الزمان. لنأخذ مثالًا على ذلك مسألة الشروط العرفية للحياة الزوجية، إذ يرى الفقهاء أن بعض الشروط التي يقرِّها عرف كل زمان تكون من الشروط الضمنية، أو مثل نوع النفقة الراجعة الى مراعاة حال المرأة بحسب ما لها من الشأن. وهذا الأمر يرجع الى عرف المجتمع الذي تعيش فيه المرأة.
ثانيهما: الأحكام التي يصل فيها الفقيه، وعبر استظهاره النّصي، الى أنّها أحكام متغيرة، ولا بد من إرجاع التحديد الشرعي في شأنها الى ما وراءها من مقاصد أو علل، ومن الأمثلة على ذلك مسألة كيفية حجاب المرأة، أو قضية الاختلاط بالرجال وعمل المرأة، فإن ما كان سائداً في عصر النص لا يصح أن يكون حاكماً على أي شكل آخر من الأشكال التي قد تتغيّر باختلاف الأزمنة.
ولكن لنا أن نعترف، هنا، بأنّنا لا نتمكن من تحديد قاعدة عامة يمكن، من خلالها، تحديد ما هي العناصر الثابتة وما هي العناصر المتغيرة. وبعبارة أخرى: إنّنا نملك وضوحاً في موارد على أنها من هذا النّوع أو ذاك، ولكننا نملك غموضاً في موارد أخرى، وسنذكر أمثلة لهذه الموارد الملتبسة، ولعل أشهرها ما أفتى به بعض الفقهاء من تساوي دية الرجل مع دية المرأة، محاولا بذلك الخروج عن ظاهر اللفظ لاستنباط ما وراء هذا الحكم من معنى، وموارد الالتباس هذه قد تتسع لتشمل الزواج المتعدد والطلاق، وغير ذلك.

4- دور ثقافة الزَّمان أو النزعة الذكوريّة:
يعتمد الفقهاء على اعتبار النُظم الحقوقيّة والأحكام دائمة وصالحة لكل زمان ومكان وأنَّها لم تكن خاضعة لتأثير ثقافة زمان عصر النَّص، أو أنَّ هذه الثقافة لها دور جزئي في موارد معيّنة، وليس في جميع هذا النظام الحقوقي.
وثمّة اتجاه آخر يرى أنّ هذه الأحكام كانت واقعة تحت تأثير ثقافة ذلك الزمان، ولذا لا بدّ من العمل على فهم الأحكام فهماً يجرّدها من تأثير ثقافة ذلك الزمان عليها. لذا يطلق هؤلاء على تلك الثقافة اسم عرضيّات الدِّين، ويرون أنّه لا بدّ من العمل على فصل هذه العرضيّات عن أساس الدين، ويتحدّثون عن النزعة الذكوريّة، بوصفها ثقافةً كانت سائدةً في ذلك الزمان، وألقت بثقلها على تلك الأحكام. ويعود تأثير النزعة الذكوريّة، لدى أتباع الأديان المختلفة، وأتباع الدين الإسلامي أيضاً، إلى أن مؤسسي هذه الأديان والمذاهب. سواء في حالة تلقيهم للوحي من عالم الواقع أم في مقام إبلاغهم ما تلقوه لمخاطبيهم. كانوا خاضعين لتأثير ثقافة زمانهم(21).
يظهر تأثير ثقافة ذلك الزمان على تلك الأحكام في ما تقدّم ذكره من رجوع الأحكام الاجتماعيّة إلى التصور الموجود عن المجتمع، وهو تصوّر يخضع للتغيّر والتبدّل.
إذاً، يرى أصحاب هذا الرأي أن ثقافة ذلك الزمان أدّت دورها في مرحلتين: مرحلة حالة تلقّي الوحي من عالم الواقع ومرحلة إبلاغ ما تمّ تلقّيه للمخاطبين.
والملاحظة التي تسجّل على الإيمان بهذا الرأي في كلا المرحلتين، تردّ من ناحيتين:
الأولى: إن هذا يتم بفرض عدم إيماننا بعصمة مؤسسي الأديان، فإذا كنّا، بوصفنا مسلمين، نؤمن بعصمة النبي الأكرم(ص). في تبليغ الأحكام كحد أقل. فإنّ ذلك يعني أن لا يتأثر في تلقّيه للوحي بأي عنصر خارجي، أي أنه لا بدّ من أن يتلقى من عالم الواقع الواقع نفسه لا شيئاً خارجاً عنه. وبهذا يظهر لنا أنّ التأثّر لا يمكن أن يتم حتى في حالة الخطاب للأتباع.
الثانيّة: إنّ عنصر الخاتميّة، في الرسالة الإسلاميّة، يمنع الالتزام بهذا الرأي، لأنّ الرسالة التي جاءت لتكون قانوناً وتشريعاً للنّاس إلى يوم القيامة، لا يمكن أن تخضع لتأثير ثقافة ذلك الزمان لا في مرحلة تلقي الوحي ولا في مرحلة إبلاغه للناس، وإلّا لتنافى ذلك مع خاتميّة الرسالة.
إنّ أهم نص ديني، لدينا الآن، هو القرآن الكريم، وهو معجزة خالدة، وهو نص يُقرأ على مدى الأجيال ولا يمكننا أن نعدّه نصاً خاضعاً لتأثير ثقافة ذلك الزمان.
نعم لا بدّ لمتلقّي الوحي عند قيامه بعمليّة التبليغ، من قولبة خطابه بألفاظ، وهذه الألفاظ تخضع لتحوّل الفهم بحسب الثقافة التي يملكها المخاطب، ولكن ذلك يبقى في دائرة ضيقة لا نستطيع أن نعدّها قاعدة عامة.

 السيد علي الموسوي: كاتب لبناني وأستاذ في الحوزة العلمية.

* محرر الموقع
____________________________

(2)سروش، عبد الكريم، قبض وبسط تنوريك شريعت، نشر صراط، ١٣٧٤ﻫ.ش. وقد تمت ترجمته إلى العربية ونشر من قبل دار الجديد.

(3)الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج٢، ص٢٧٥، ط جماعة المدرسين، قم.
(4)المطهري، الشهيد مرتضى، نظام حقوق المرأة، ص١٤٩، مؤسسة الإعلام الإسلامي، ١٩٨٥، طهران.
(5)ملكيان، دزمصطفى، حوار في مجلة "زنان" العدد٦٤، ص٣٢ (فارسي).
(6)شبستري، محمد مجتهد، نقدي بر قرائت رسمي أزدين، ص٥٠٤.
(7)شهيديان، د.حامد، مقالة تحت عنوان (فمينيسم در إيران در جست جوي: جيست)، بولتن مرجع الرقم٤، ص ١٤٣ (فارسي).
(8)المصدر نفسه، ص١٤٠ (فارسي).
(9)ملكيان، مصطفى، م.س.
(10)سورة البقرة، الآية:٢٨٢.
(11)سورة البقرة، الآية:٢٨٢.
(١٢)محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، ص١٨٠.
(١٣)سورة الحجرات، الآية:١٣.
(١٤)سورة النساء، الآية:١.
(١٥)سروش، عبد الكريم، حوار في مجلة زنان، العدد ٥٩، ص٣٣ (فارسي).
(١٦)المصدر نفسه.
(١٧)المصدر نفسه (فارسي)
(١٨)المطهري، الشهيد مرتضى، مصدر سابق، ص٧٦.
(١٩)شبستري، محمد مجتهد، مصدر سابق، ص٥٠٢ (فارسي).
(٢٠)ملكيان، مصطفى، مصدر سابق.
(21) أبو زيد، نصر حامد، دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة، المركز ثقافي العربي، ص 287.


المصدر: المرأة وقضاياها (دراسات مقارنة بين النزعة النسوية والرؤية الاسلامية)؛ مجموعة من المؤلفين. ط١، مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي، بيروت، لبنان، ٢٠٠٨.

التعليقات (0)

اترك تعليق