جوهر الفكرة الإسلامية من قضية المرأة: تحديد الخطوط العامة الرئيسية لموقف الإسلام من قضية المرأة
على الرغم من ازدهار الدراسات الإسلامية وتوسع الاهتمام بها في مختلف مراكز البحث العلمي والأكاديمي في أنحاء متفرقة من العالم، إلا أنّ الملاحظ أنّ ذلك لم يشمل المرأة بكثير. فالمتاح من دراسات وبحوث ومحاضرات وتعليقات وما إلى ذلك في مجال دراسات النساء، لا يعدو أن يكون جزءاً من جهود تقليدية تميل إلى التماس أو تبني أحد طريقين: إما أن ينحى باللائمة على الإسلام ليحمله مسؤولية التخلف الاجتماعي والحضاري الذي تعاني منه النساء في عدد كبير من البلدان الإسلامية المعاصرة، وبضمنها البلدان العربية المسلمة. وإما أن يبالغ في تأكيد التوجهات التحررية بل وحتى الثورية لدرجة تجرد الإسلام بالمحصلة مما هو إسلامي. في كلتا الحالتين، تضيع الجدوى العلمية، والفكرية والأدبية في دراسات من هذا النوع. نستثني من ذلك عدداً محدوداً من الدراسات العلمية الجادة والموثقة في مجال علم الاجتماع.
في هذه الدراسة، سنبذل جهداً علمياً وفكرياً لتحديد الخطوط العامة الرئيسية لموقف الإسلام من قضية المرأة، منطلقين في ذلك من عدد من المبادئ العامة الرئيسية في مجال النظرية في علم الإجتماع المعاصر. الهدف من ذلك هو البحث عما هو أساسي وأولي وجوهري وكلي، على النقيض مما هو ثانوي وهامشي ومحدد ومعزول في الموقف الإسلامي من قضية المرأة. بكلمات أخرى، فإننا سنبحث عما هو عام وشامل ليقف ضد ما هو خاص ومحدد.
- مقدمات معرفية في المنهج:
قبل الشروع بعرض المخطط، يبدو أنّ من المفيد تثبيت عدد من المسلمات الفكرية التي تقودنا هنا:
أوّلاً: إننا لا نتناول الإسلام على اعتبار أنّه نظام ديني وعقائدي مجرد، وإنما على اعتباره نظاماً اجتماعياً وحضارياً متميزاً. أو على اعتبار أنّ الإسلام يمثل طريقاً متميزاً في الحياة. أو لنقل طرازاً مختلفاً في الحياة. وهذا يعني أنّ الحياة في المجتمع المسلم لا تستلزم بالضرورة أفراداً متدينين يؤمنون بعدد من المعتقدات الدينية ضمن منظومة دينية محددة، ويمارسون عدداً من الطقوس الدينية ذات العلاقة فحسب، وإنما، تستلزم الحياة في المجتمع المسلم أفراداً ومؤسسات تفهم وتتقبل النظام الذي يرتأيه الإسلام نصاً وروحاً. وقد يكون التدين في هذه الحالة عاملاً من عوامل تسهيل الأمر.
ثانياً: عند تناول الموقف الإسلامي من قضية المرأة لا بدّ من الاهتمام بالموقف المبدئي الكلي للإسلام من كثير من القضايا الأخرى. فالإسلام بتناوله لقضية المرأة أو أي قضية أخرى إنما يؤكد على فكرة رئيسية مركزية لا بدّ من استحضارها، وهي فكرة الإيمان بالله وبوحدانيته والتسليم بإرادته والخضوع لمشيئته، والإلتزام بتعاليمه. فالموقف الإسلامي تجاه أي قضية إنما يبدأ وينتهي بهذه الفكرة. وهنا أيضاً، يحتاج الفرد لكي يكون مؤمناً بهذه الفكرة أن يكون مطلعاً عليها، عارفاً بها، مستوعباً لها وإلا يصعب عليه أن يكون متفهماً لروحية المجتمع الإسلامي وهذا أمر مهم. نأخذ على سبيل المثال، مفهوم العلم في الإسلام الذي يبدأ أوّلاً من العلم بالله ونقرأ بهذا الشأن ما كتبه عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالرحمن بن نعيم "إنّ العمل والعلم قريبان فكن عالماً بالله عاملاً له فإن أقواماً علموا ولم يعملوا فكان علمهم عليهم وبالاً". وقال أيضاً "من عمل على غير علم كان يفسد أكثر مما يصلح"، أي من عمل بغير علم بالله. ويقع هذا التحديد لمفهوم العلم في الإسلام على النقيض من التحديد الغربي لمفهوم العلم، والذي يقوم على فكرة العقلانية التجريبية المستندة إلى مبادئ الافتراض والاختبار والتحقق والقياس والتعميم وما إلى ذلك. كذلك الحال في الموقف من قضية المرأة الذي يرتبط بهذه الفكرة ويتحدد بها، أي فكرة الإيمان بالله وإرادته ومشيئته وتعاليمه.
ثالثاً: مع أنّه لا يُحبذ التعبير عن مواقف وآراء تنطوي على نوع معين من إطلاق الأحكام والتقييمات وبخاصة في عمل أكاديمي علمي من هذا النوع، إلا أننا لا نجد ضيراً في وصف الموقف الكلي للإسلام باعتباره إيجابياً تجاه المرأة في المجتمع. فالإسلام لم يعلن الحرب ضد المرأة كما يُظن أو يُشاع أحياناً. بل على العكس من ذلك، خصَّ الإسلام المرأة بكل ما يمكن أن يساهم بتنظيم مكانتها ودورها في الجماعة، على نحوٍ يحفظ حقوقها ويصونها.
ويمكن التحقق من إيجابية الموقف المبدئي للإسلام من خلال إلقاء نظرة كلية شاملة لعدد من المصادر الرئيسية في الإسلام كالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ومجموعة مختارة من كتب الإسلاميين المعروفين كالإمام أبو حامد الغزالي. خذ على سبيل المثال ما جاء في سورة "المؤمنون" «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» (المؤمنون/ 12). وما جاء في سورة "الزمر" «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (الزمر/ 6)، وفي سورة "النساء" «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً» (النساء/ 1). جاء في (إحياء علوم الدين) إن آخر ما وصى به الرسول (ص) حتى تلجلج لسانه وخفي كلامه "الله، الله في النساء". وعن أنس بن مالك أنّه قال "كان رسول الله أرحم الناس بالنساء والصبيان". قال الرسول (ص) "خيركم، خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي".
رابعاً: يبدو من المفيد الإشارة إلى أنّ الاهتمام الواسع الذي تحظى به موضوعات من هذا النوع يفرض ضرورات التوجه إلى جمهور عريض ومتنوع من المريدين، والراغبين، والمتعلمين، والمهتمين، والمتابعين إضافة إلى الأوساط العربية المسلمة.
خامساً: هناك ملاحظة حول طريقة القيام بالدراسة. على النقيض مما هو متعارف عليه بمراجعة مصادر التراث الإسلامي في ضوء عدد من المفاهيم الاجتماعية شائعة الاستخدام كما هو الحال في المساواة والحرية والتحرر وما إلى ذلك. فقد قمنا هنا بشيء مختلف حيث سبقت المراجعة عملية استخدام وتطبيق المفاهيم. أي أنّ الإستعانة بالمفاهيم تلت المراجعة فكان أن استمدت المفاهيم من مصادر التراث الإسلامي لتكون الوسيلة لإلتقاط أو بلورة الفحوى ومضمون الفكرة الإسلامية في محاولة لعرضها بطريقة تسهل أمر فهمها واستيعابها، ومن ثمّ استخدامها وتطبيقها في الحياة العملية.
- نقد دراسات نسائية معاصرة حول المرأة:
من المؤكد أنّ المرأة لم تحظ بنصيب وافر في التعبير عن وجهة نظرها العلمية والمتخصصة في فهم وتفسير وعرض التراث الإسلامي وتأثيره على مختلف جوانب الحياة الحياة في المجتمع. ففي هذا الجانب من جوانب النشاط العلمي والثقافي والأكاديمي غلب الجهد الذي بذله الرجال على الجهد الذي بذلته النساء. وينعكس ذلك في مجالات عدة منها مجال حفظ القرآن وتفسيره وتأويله والإجتهاد فيه. ولكن، بسبب تأثير النشاط المتزايد للحركة النسائية الدولية والذي اتضح على نحو أكثر حضوراً مؤخراً، برزت بعض المحاولات الثقافية والفكرية التي سرعان ما أعقبتها محاولات علمية متخصصة في مختلف حقول المعرفة العلمية ومنها علم الاجتماع المعاصر. بما أنّ الدراسة الحالية امتداد لهذا الجهد، أي أنها خطوة أخرى على طريق تأكيد الحضور النسائي في مجال الدراسات الإسلامية الخاصة بالمرأة، فإنّ من المفيد التوقف عند عدد مختار من هذه المحاولات على نحو سريع.
عَزَتْ نادية يوسف حجاج أسباب انخفاض معدلات تعليم وعمل النساء، في عدد من البلدان العربية المسلمة -بالمقارنة إلى الإرتفاع النسبي لمعدلات تعليم وعمل النساء في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية-، إلى الموقف الأخلاقي والقيمي المتشدد للإسلام تجاه المرأة. في هذه الدراسة، فإنّ الموقف الإسلامي برمته يُسند إلى فكرة شرف العائلة Family Honor وعذرية الأنثى Female Virginity. بسبب الحرص على المحافظة على شرف العائلة وسلامة سلوك المرأة من خلال منع اختلاطها بالغرباء من الرجال خارج حدود العائلة، انخفضت معدلات تعليم وعمل النساء في المجتمعات العربية المسلمة. بالمقابل، لم يحدث شيء من هذا النوع في مجتمعات أمريكا اللاتينية. رغم أنّ مجتمعات أمريكا اللاتينية تتصف بتراث ديني كاثوليكي متشدد، إلا أنّ التعارض بين القيم المثالية الدينية للكنيسة الكاثوليكية والقيم المدنية الواقعية السائدة في هذه المجتمعات أدى إلى إعطاء النساء مجالاً للتصرف على نحو مختلف، مما ساهم بالمحصلة في الإرتفاع النسبي لمعدلات التعليم والعمل بالمقارنة مع هذه المعدلات في المجتمعات العربية المسلمة.
وفي دراسة أخرى اعتمدت على مراجعة وعرض وتحليل آراء الإمام أبو حامد الغزالي عزت فاطمة الميرنيسي أسباب تدهور المكانة الاجتماعية والقانونية للمرأة في المجتمع العربي المغربي على سبيل المثال إلى مفهوم جنيسية الأنثى Female Sexuality. طبقاً لما جاء في هذه الدراسة، فإنّه بسبب اعتقاد الإسلام بامتلاك المرأة لطاقة جنسية هائلة، توفرت القناعة لمحاولة السيطرة عليها، من خلال ثلاث وسائل اجتماعية ذات طبيعة مؤسساتية:
1- إعطاء الرجل حق إيقاع الطلاق من جانب واحد.
2- فرض نظام تعدد الزوجات.
3- فرض نظام العزل أو الفصل الجنسي.
أما الأنثروبولوجية المعروفة أمل رسام فقد شاركت في عدد من المؤتمرات ونشرت عدداً من المقالات التي خلصت من خلالها إلى أنّ الفصل بين الجنسين لا يمثل مشكلة قائمة بحد ذاتها. إنما تكمن المشكلة في ميل المجتمع العربي الأبوي المسلم إلى ترجيح وجهة النظر الذكورية أو الرجالية Male Point of View باعتبار عالم الرجال أكثر أهمية ومركزية وحيوية من عالم النساء الهامشي والثانوي والراكد.
- الإسلام والمرأة:
من خلال قراءتنا للنص الديني ولعدد من مصادر التراث الإسلامي بهدف تعقيب الموقف الإسلامي من قضية المرأة وبقدر ما يتعلق الأمر بالمكانة الاجتماعية والدور الاجتماعي للمرأة يتضح أنّ الإسلام يأخذ بعين الاعتبار الفروقات بين النساء والرجال. ولنا في هذا المجال أنّ نستشهد بالآية القرآنية الكريمة من سورة البقرة «وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» (البقرة/ 228)، ومن سورة النساء «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ» (النساء/ 34). إلا أنّ الإسلام لا يسمح بالعنف والتعسف والاستغلال لذلك فإنّه يستدرك قائلاً: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» (النساء/ 135). أي إنّ القوة والتسلط محكومان بعامل العدل والإنصاف في المعاملة.
في البحث عن مفهوم نظير لمفهوم المساواة شائع الاستعمال لتوصيف العلاقة بين الرجال والنساء في المجتمع المسلم وعلى نحو يجسد روحية الموقف الإسلامي نجد أنّ شيئاً من هذا النوع إنما يوجد في مفهوم التباين أو الاختلاف Differentiation. وتظهر النظرة الإسلامية التي تستند إلى مفهوم التباين أو الاختلاف واضحة وثابتة ومتسقة مع مفاهيم أخرى لاحقة في أوّل مصدرين رئيسيين من مصادر التراث الإسلامي: القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. في مجال علم الاجتماع يحدد مفهوم التباين أو الاختلاف على أنّه السمات العضوية والجنسية وبالتالي النفسية والاجتماعية والحضارية المميزة للرجال والنساء. وفي العودة إلى مصادر التراث الإسلامي نجد أنّه لا تكاد تخلو إشارة إلى النساء دون التأكيد ضمناً أو علناً على حقيقة أنهنّ يختلفن عن الرجال. وأنّ هذا التباين أو الاختلاف إنما هو تعبير عن الإرادة الإلهية التي لا سبيل إلى تغييرها أو تعديلها أو مقاومتها أو التأثير عليها. خذ على سبيل المثال ما جاء في سورة البقرة «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ» (البقرة/ 49). ومن سورة البقرة أيضاً «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى» (البقرة/ 178). ومن سورة آل عمران «فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى» (آل عمران/ 36). ومن سورة النساء «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا» (النساء/ 7)، وفي سورة الحجرات نقرأ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى» (الحجرات/ 13). ومن سورة النحل «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل/ 97). ومن سورة النبأ «وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا» (النبأ/ 8).
وفي استكمال القراءة في النص الديني ومصادر التراث الإسلامي نفهم أنّ الإسلام يرى أنّ المكانة الاجتماعية والدور الاجتماعي للمرأة إنما يعتبر مكملاً للمكانة الاجتماعية والدور الاجتماعي للرجل. فالتباين أو الاختلاف لا يفترض أن يكون قطعياً أو فاصلاً، وإنما مدعماً بعامل آخر هو التكامل Complementarity. يلاحظ أنّ المصادر الاجتماعية المعروفة تخلو من تعريف محدد لهذا المفهوم. كما تخلو القواميس المتخصصة من ذلك. لذا نكتفي هنا بمراجعة معنى المفهوم في قواميس عامة تحدد التكامل على أنّه تتمة الشيء بالشيء. ومن هنا يدخل مفهوم تقسيم العمل Division of Labor. يستند مفهوم تقسيم العمل إلى فكرة قيام الرجل والمرأة على سبيل المثال بأعمال مختلفة ومميزة ولكنها متممة لبعضها البعض. كأن يقوم الرجل بالعمل خارج المنزل لتأمين قوت العائلة فيما تقوم المرأة بتحمل أعباء المنزل ورعاية شؤون الزوج والأطفال. في هذا المجال نذكر، أنّه لا خلاف على المغزى الكبير لدور المؤسسة العائلية باعتبارها المؤسسة الأكثر أهمية وأساسية في المجتمع. هناك الكثير من النتائج الموثقة التي يزخُر بها عدد كبير من الدراسات النفسية والاجتماعية المحدثة في هذا المجال. خلصت هذه الدراسة إلى أنّ السنوات الخمس الأولى من حياة الإنسان إنما هي من المراحل التكوينية الهامة في شخصيته. وإن فترة المراهقة بين سن 12-16 سنة أشبه ما تكون بولادة جديدة في حياة الإنسان مما يتيح المجال لإعادة بناء أو تعديل شخصيته. من خلال نتائج من هذا النوع، لنا أن نقدر الأمانة العظيمة التي يضعها الإسلام بيد وضمير وقلب المرأة المسلمة. فالجهد الذي تبذله الأُم في رعاية الطفل ابتداءً من إطعامه وإيوائه وحمايته والمزاح معه وممارسة مختلف أنواع التفاعلات الاجتماعية معه، إنما يعتبر جهداً عظيماً يوجب لها نصيباً متوازناً في الأهمية. وهذا ما فعله الإسلام مما يرتبط إرتباطاً مباشراً بسلامة الموقف الفكري للإسلام من مكانة ودور المرأة في العائلة والمجتمع. نقرأ في هذا المجال من سورة لقمان «وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» (لقمان/ 14). وفي الحديث النبوي الشريف قال عبدالله بن عمر: "سمعتُ رسول الله (ص يقول كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته. الرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته. والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها". وأخيراً وليس آخراً جاء في الحديث النبوي الشريف: "من صبر على سوء خلق امرأته أعطاه الله من الأجر مثل ما أعطى أيّوب على بلائه، ومن صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله مثل ثواب آسية امرأة فرعون".
ويأتي مفهوم التعاون Cooperation ليأخذ مكانه في المنظومة الفكرية للإسلام مؤكداً ضرورة أن تخلو العلاقة الإنسانية بين المرأة والرجل من عناصر التناحر والتنافر والمنافسة الهدامة. وينعكس الموقف الإسلامي في هذا المجال من خلال التأكيد على ضرورة الاعتدال وإلتزام الأدب في التعامل مع مختلف جوانب الحياة الزوجية بما في ذلك الطلاق. نقرأ في هذا المجال من سورة النساء «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا» (النساء/ 35). ومن سورة الأحزاب «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا» (الأحزاب/ 49). ومن الحديث النبوي الشريف جاء عن الأسود بن يزيد قال سألتُ عائشة (رض): ما كان النبي (ص) يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الآذان خرج. أي كان (ص) متعاوناً مع أهل بيته خدوماً لهم.
- عالم المرأة وعالم الرجل:
إنّ رؤية شمولية وعظيمة كالرؤية الإسلامية لا يمكن أن تقف عند حدوث اكتشاف أو رصد الجوانب الإيجابية في الحياة الاجتماعية والحضارية فحسب. وقد حاولنا عرض هذه الجوانب من خلال المفاهيم التي مرّ ذكرها أعلاه، التباين أو الاختلاف، التكامل، والتعاون. فالإسلام استطاع ولا شك أن يضع عدداً من التوقعات في إطار ما هو سلبي وغير صحي وغير طبيعي إذا صح التعبير. وتتمثل مثل هذه الخصائص كالسلبية وانعدام الصحة وانعدام النزعة الطبيعية في أنّ الحياة الاجتماعية تنطوي على الصراع والتغير والتناحر والنفرة والمنافسة بمثل ما تنطوي على السلام والألفة والنظام والتعاون والموادعة. لذلك، وبقدر ما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الرجال والنساء ارتأى الإسلام الفصل فيما بينهما انسجاماً مع روحية المفاهيم المار ذكرها أعلاه. ويمكن الاستدلال على الفصل أو العزل الجنسي في الإسلام من خلال فيض كبير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. نقرأ على سبيل المثال من سورة الحجرات «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ» (الحجرات/ 11). ومن سورة الممتحنة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ» (الممتحنة/ 10). ومن سورة الممتحنة أيضاً «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (الممتحنة/ 12). وفي الحديث النبوي الشريف جاء عن ابن عباس قوله: "إنّ رسول الله (ص) خرج ومع بلالٍ فظن أنّه لم يُسمع النساء فوعظهنّ وأمرهنّ بالصدقة". وعن ابن سعيد (رض): "إنّ النساء قلن للنبي (ص) اجعل لنا يوماً فوعظهنّ". وفي الدخول على النساء جاء عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله (ص) قال: "إياكم والدخول على النساء".
من خلال هذا يمكننا ملاحظة أنّه بغية توفير الأرضية المناسبة لاستخدام المغزى الذي يمكن الحصول عليه من مفاهيم التباين، التكامل، والتعاون، رسم الإسلام طريقاً آمنة من خلال الفصل بين الجنسين. وبذلك حاول الإسلام أن يوفر ظروفاً عادلة ومنصفة لتفاعل الطرفين، الرجال والنساء. وبالتأكيد، فإنّ الهدف من الفصل بين الجنسين لم يكن لإذلال المرأة وترويضها والحط من شأنها وإنما لتوفير ظروف عادلة ومتكافئة بينهما. عموماً، فإنّ التصور الإسلامي لقضية المرأة كما اجتهدنا في قراءته فهمه وتفسيره وعرضه ينطوي على عدد من المزايا الهامة:
أوّلاً: إنّ تأكيد الإسلام على مسألة التباين أو الاختلاف بين النساء والرجال لم يكن ليراد منه الإساءة إلى المرأة بقدر ما أريد منه تأكيد الشخصية المستقلة والمتميزة لكليهما. وفي هذا مصدر قوة بدلاً من أن يكون مصدر ضعف. إذ أنّ التباين في المفهوم الإسلامي يمنع أن يذوب أي من الطرفين في بوتقة الآخر.
ثانياً: يضع الفصل أو العزل الجنسي أسس حياة اجتماعية وحضارية سليمة تقف دون الاستغلال والتمييز والتفاوت والإضطهاد الناجم عن الخلط في تقدير مزايا وإمكانات وقدرات الطرفين المتباينة حتماً. في خضم ما وصلت إليه الحياة الاجتماعية في المجتمع المعاصر، فإنّ الإسلام يوفر حلولاً لقضايا لم يتم الإنتهاء منها بعد. فالفصل الجنسي كفكرة أو ممارسة تلهم بآراء وأفكار يمكن أن تساعد على وضع حلول لسلسلة طويلة وعريضة من مشاكل الإنسان المعاصر. من ذلك أن تقييم عمل النساء على سبيل المثال في مؤسسات العمل الرسمية أو المؤسسات الاجتماعية المحدثة الأخرى ينبغي أن يستند إلى معايير تأخذ بنظر الإعتبار تباين إمكانات وكفاءات ومواهب النساء عن الرجال، وبذلك تغني كليهما مِن أن يُحكم أو يُقيم في ضوء المعايير أو المقاييس المناسبة للثاني. وفي حالات الصراع والمنافسة والتي تشكل الحالة الطبيعية في الحياة الإنسانية، فإنّ الفصل بين الجنسين يضمن توفير أجواء أكثر إنصافاً للأطراف المتصارعة أو المتنافسة. فإذا ما نظرنا إلى واقع الحال، وفي ضوء ما آلت إليه الأمور حيث يدخل الرجال في منافسة مباشرة مع النساء في كثير من المؤسسات المشار إليها نجد الكثير من حالات الغبن والإضطهاد والشعور بخيبة الأمل. يحدث هذا بسبب اضطرار العديد من النساء والرجال في منافسات غير عادلة إطلاقاً نتيجة تطور الوضع إلى ما تطور إليه.
المصدر: موقع البلاغ نقلاً عن مجلة الكلمة- د. لاهاي عبد الحسين الدعمي
اترك تعليق