مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

 الأسرة والقوامة

الأسرة والقوامة: الاستخلاف هو الأساس الذي يقوم عليه توحيد المرأة والرجل في ظلّ علاقة الولاية


[إنّ] استخلاف الإنسان يشمل الرجال والنساء، إذ إنّ من الأمور الجديرة بالتأمل في اللغة العربية –لغة القرآن- أن لفظ (إنسان)، وهو الواحد من بني آدم، يذكّر ويؤنّث، فيقال هو إنسان، وهي إنسان والرجل إنسان والمرأة إنسان، ولا يقال إنسانة، كذلك فإنّ لفظ (بشر) يذكّر ويؤنّث، فيقال هو بشر وهي بشر.
ويدلّ على شمول الاستخلاف للرجال والنساء آيات عديدة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: «فاستجاب لهم ربهم أني لا أُضيع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعض» (آل عمران: 3/195).
  «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحييّنه حياةً طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»  (النحل:16/97).
 «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير»  (الحجرات:49/13).
فالاستخلاف هو الأساس الذي يقوم عليه توحيد المرأة والرجل في ظلّ علاقة الولاية التي عبرت عنها الآية الكريمة:  «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» (التوبة:9/71 ).
والحياة العامة تحكمها بين الرجال والنساء الرابطة الإيمانية في إطار الأمة، أي إنّ المساواة هي الأصل بين الاثنين في إطار الأخوة في الله، التي عبّر عنها الحديث الشريف: "النساء شقائق الرجال".
وتتمثّل المساواة بين الرجال والنساء في المساواة في القيمة الانسانية والمساواة في الحقوق الاجتماعية، والمساواة في المسؤولية والجزاء، وهي المساواة التي تتأسّس في جوانبها المختلفة على وحدة الأصل، ووحدة المآل، والحساب يوم القيامة.
وإذا كانت الشريعة قد خصّصت المرأة ببعض الأحكام، كإعفائها من الأعباء الاقتصادية للأسرة، أو اختلاف نصيبها في الميراث، فإنّ هذه تبقى استثناء تردّ على القاعدة التي هي المساواة، والتي عبّر عنها (ابن حزم) في قوله: "لما كان رسول الله (ص) مبعوثاً إلى الرجال والنساء بعثاً مستوياً، وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيّه (ص) للرجال والنساء خطاباً واحداً، لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء، إلاّ بنص جلي أو إجماع، لأنّ ذلك تخصيص للظاهر وهذا غير جائز".
فالمساواة بين الرجال والنساء إذن في الرؤية الإسلامية هي مساواة لها جوانبها المطلقة، كما أنّ جوانبها النسبية التي تتفق مع اختلاف الاثنين في بعض الخصائص التي تخدم تكاملهما في تحقيق الاستخلاف، والذي يظلّ هو الإطار الضابط لهذه المساواة والأمانة والمسؤولية التي يتحملها الاثنان في ظل علاقة الولاية الايمانية ورابطة العقيدة، هذه الخلفية لازمة ولا غنى عنها كإطار كلي لفهم (القوامة) في الرؤية الإسلامية.
وعلى الرغم من أن الأسرة الممتدة هي الإطار الأوسع للأسرة في الرؤية الإسلامية، لكن مفهوم (القوامة) لصيق بخصوصية الأسرة الزوجية الصغيرة وأهميتها، حيث تعدّ الأسرة الصغيرة نموذجاً مصغّراً للأمة وخصائصها، تنعكس فيه القيم الأساسية التي تحكم النظام الإسلامي، وتعدّ في الوقت ذاته الدعامة الأساسية واللبنة الجوهرية لهذا النظام.
 
القوامة في الاستخدام القرآني
وردت صيغة (القوامة) في الاستخدام القرآني في ثلاثة مواضع، وليس في موضع واحد كما تقتصر معظم الكتابات التي تتناول المفهوم في آية  «الرجال قوامون...»، بمعزل عن الآيتين الأخريين، حيث ورد اللفظ في قوله تعالى:  «الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم»  (النساء:4/34).
وقوله:   «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله» (النساء:4/135).
وقوله:  «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط» (المائدة:5/8).
فالقوامة إحدى صفات المؤمنين –رجالاً ونساء- وترتبط بالشهادة على الناس، وتعني القيام على أمر هذا الدين وفق الشرع، والالتزام بالعدل والقسط وهي صفة من صفات الله سبحانه التي يجوز من عباده التخلّق بها إذ أنّه (القيوم).
وإذا كانت القوامة على مستوى الأمة هي سمة عامة فإنها مسؤولية تكليفية على الرجل في أسرته في إطار عقد الزواج، وهي في كلا المستويين قرينة التوحيد والعدل، وقد حدّد الإسلام طبيعة سلطة الرجل في الأسرة إذ جعل مفتاحها كلمة (قوّام) أي القائم على شؤون الأسرة، وتقتضي القسط في شؤون من أوكل إليه أمرهم، وذلك بخلاف ما إذا كان التعبير عنها بكلمة سلطة أو نحوها، والتي قد يفهم منها حرية التصرّف المطلقة، وهو ما يتعارض مع مفهوم الآية الكريمة.
وتنطوي كلمة (قوّام) على أمرين هامين:
1- أن يأخذ الرجل على عاتقه توفير حاجات المرأة المادية والمعنوية، بصورة تكفل لها الإشباع المناسب لرغباتها، وتشعرها بالطمأنينة والسكن.
2- أن يوفّر لها الحماية والرعاية ويسوس الأسرة بالعدل.
وتخضع سلطة رب الأسرة للعديد من الضوابط والقيود التي تفسح المجال لأهلية الزوجة والأبناء في التصرف في إطار ما هو مشروع ومسموح به إسلامياً، فربّ الأسرة ليس له سلطة على أبنائه الراشدين سوى التوجيه والنصح فقط، وكذلك له سلطة محددة في الإذن بزواج بناته البالغات؛ لأنّ شخصية أولاده الراشدين البالغين –ذكوراً وإناثاً- شخصية حقوقية كاملة سواء في التعامل الاقتصادي أم الحياة الاجتماعية، كاختيار نوع العمل أو اختيار الزوجة، وحقوق الأب أدبية تقتضيها الأخلاق الإسلامية، فإذا أساء الأب استعمال صلاحيات القوامة، أو تعسف فيها، أو تجاوز صلاحياتها المقررة شرعاً، فإنّ من حق ولي الأمر داخل المجتمع –ممثلاً في السلطة العامة أو القضاء- التدخّل للحد من تصرفاته غير المشروعة، ولحماية الزوجة والأبناء، ولكن تدخل ولي الأمر يأتي بعد أن تكون المؤسسات الوسيطة في المجتمع (عائلة ممتدة –مؤسسات أهلية...) قد استنفدت كلّ السبل لمعالجة هذا الانحراف.
وقد حاولت العديد من الكتابات التماس حكمة الشرع في قوامة الرجل في الأسرة ففسرها بعضهم تفسيرات اقتصادية، حيث إنّ الرجل هو العائل اقتصاديّاً للأسرة، وهي العلة الثانية الواردة في الآية: «وبما أنفقوا من أموالهم»  (النساء:4/34)، في حين ركّز آخرون على العلة الأولى وهي التفضيل، ولم يروا أنّ التفضيل يسري على الطرفين  «بما فضّل الله بعضهم على بعض»  (النساء:4/34)، أي إنّه يفهم في إطار تمايز كلّ منهما في خصائص الرجولة والأنوثة، وأنّ (الدرجة) الوارد ذكرها في موضعٍ آخر ليست قرينة الذكورة، بل هي قرينة (الرجولة) التي هي آداب وسلوكيات يتحمّل الرجل في ظلّها أمانة (القوامة)، وتظلّ التقوى في الميزان الإيماني هي معيار التفاضل، أمّا الإجهاد في إثبات قوة الرجل وضعف المرأة بيولوجياً وعاطفياً –بل وعقديّاً- فيربط الأمر بخصائص يتجاوزها الزمن في عالم المعلومات والتقنية الذي لم يعد للقوة البدنية فيه الدور المحوري السالف، كما يقلل من كرامة المرأة المسلمة بالطعن في أهليتها التي أقرتها الشريعة؛ لذا فإنّ الأمر يجب أن بفسّر في ضوء فلسفة الأسرة كبناء تراحمي تضامني تكاملي في الإسلام، وليس بإعطاء المرأة سلطة ندية صراعية كما يفعل أنصار النسوية الغربية، ولا وصمها بالنقص والسفه كما يحلو لبعض الذين يجتزئون الحديث في غير موضعه وخارجاً عن كلياته ومقاصده، بل وضع العلاقة كما نظمها الإسلام في إطار الإدارة الأمثل لعلاقة أصلها الشورى والعدل والاستقامة، والمودة والرحمة.
إنّ (الدرجة) التي ذكرها القرآن للرجال (البقرة:2/228) وهي درجة القوامة، لم تقم على أساس نقص ذاتي في المرأة، وإنما على أساس التطبيق العملي والكسبي، فالمراد التفضيل زيادة نسبة الصلاح في الرجل من جهة الرئاسة للأسرة عن صلاح المرأة لها؛ فهي صالحة وهو أصلح والمصلحة تقتضي تقديم الأصلح، وهو ما لا يُعدّ طعناً في صلاحية المرأة وذاتيتها، بدليل أنها تتولى أمرها وأمر أبنائها عند غياب الزوج في طلب الرزق أو الجهاد ونحوه، أو عند وفاته حتى في ظلّ رعاية أفراد الأسرة الممتدة.
الشورى أساس القوامة
ولا يكتمل فهم أبعاد مفهوم القوامة في الرؤية الإسلامية إلاّ في ضوء إدراك أهمية الشورى كقيمة أساسية في العلاقات داخل الأسرة المسلمة.
فالشورى ليست خاصة بالمساحة السياسية فقط، ولا هي سمة من سمات الجماعة المؤمنة فحسب، بل هي أيضاً منهج التعامل داخل الأسرة.
وإذا كان الحديث عن الشورى في إطار الأسرة قد ورد في فطام الطفل مع انفصال الزوجين، وهو حق المطلقة في الشورى والتراضي والتفاهم على ما فيه مصلحة الطفل، حيث إنّ انفراد أحدهما بالأمر دون الآخر يعدّ باطلاً، فأولى أن يكون ذلك من حق الروجة القائمة في البيت على رعاية جميع شؤونه. فالقاعدة في نظام المنزل الاسلامي هي التزام كلّ من الزوجين بالعمل بإرشاد الشرع فيما هو منصوص عليه، والتشاور والتراضي في غير المنصوص عليه ومنع الضرر والضرار بينهما، وعدم تكليف أحدهما بما ليس في وسعه.
القوامة إذن لا تعني إدارة البيت، فالإدارة شركة بين الرجل والمرأة وحتى الأطفال –كلّ منهم يقوم بنصيبه في الإدارة- وتدخل الرغبات المعقولة لكلّ منهم في شأن الإدارة. والإدارة شورى داخل هذه البنية الاجتماعية الصغيرة، ولا ينبغي أن يستبد طرف بالأمر كلّه، بل تؤخذ آراء كلّ الأطراف في الاعتبار في حدود الشرع، وتكون القوامة هي الكلمة الفاصلة التي يحتاجها البيت عند نشوب خلاف لا ينهيه إلاّ كلمة فصل. فرئاسة الأسرة رئاسة شورية لا استبدادية. [...] ويتحمّل كل عضو في الأسرة مسؤوليته مصداقاً للحديث الشريف:
"كاكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".
ويضفي مفهوم الرعية والرعاية على المعاني الاجتماعية أبعاداً كلية سياسية، وهو بمستوياته المختلفة يقوم بدور هام في وظيفة الأمة العقيدية الاستخلافية، فالرعية مسؤولة عن تجسيد وضبط المسار الإيماني لأي وحدة من وحدات الحياة الاسلامية، ويصير من أهم واجباتها الدفاع عن حقوقها.
والشورى ليست مبدأً أساسياً من مبادئ التعامل داخل وحدة الأسرة فحسب، بل هي قرينة هذه الوحدة الاجتماعية نشأةً وكياناًُ –بل وانتهاءً- إذ يُبنى الزواج على الرضا والقبول والتعاقد، ويقوم على الشورى والتفهم، ويتم حلّ النزاعات داخل الأسرة بالتشاور مع الأسرة الممتدة من خلال مفهومي: (الصلح)، فإذا استمرّ الخلاف يتمّ اللجوء إلى (التحكيم) في سياق الأسرة الممتدة أيضاً. فإذا ما استحالت العشرة بين الزوجين يتمّ إنهاؤها بالطلاق وفق أحكام الشرع مع التزام الطرفين بالعفو والفضل وعدم الضرر بالآخر.
وختاماً فإنّ الشورى هي أيضاً قيمة تربوية داخل الأسرة تنتقل بالتنشئة الاجتماعية للأبناء، ويتعلمونها كسلوك قرين بالعيش في المجتمع المسلم.
القوامة ليست (أبوية)
وقد أدى غياب إدراك هذه الأبعاد في الرؤية الإسلامية للأسرة إلى تحليل بعض الكتابات للأسرة في المجتمعات الإسلامية في ضوء مفهوم الأبوية (patriarchy)، والذي يختلف في ميزان الرؤية الإسلامية كليةً عن مفهوم القوامة.
فالأبوية تعني في أصلها اللغوي (حكم الأب)، وتعود في جذورها كمفهوم إلى الحضارة الرومانية، حيث كان ربّ الأسرة يملك السلطة المطلقة على كل من تحت ولايته من البنين والبنات والزوجات وزوجات الأبناء، وكانت هذه السلطة حكراً على الرجال فقط، وكانت تشمل البيع والنفي والتعذيب، وكان ربّ الأسرة هو مالك أموال الأسرة وهو المتصرف فيها، وهو الذي يتولى تزويج الأبناء والبنات دون إذنهم أو مشورتهم.
ويمكن إدراك هذا التصور الاستبدادي لسلطة الأب داخل الأسرة من اشتقاق كلمة الأسرة (familia) ذاته، حيث كان يعني عند الرومان الحقل والبيت والأموال والعبيد، أو التركة التي يتركها الأب والزوج للورثة، وبذلك كانت المرأة جزءاً من ثروة الرجل.
وقد استخدم مفهوم (الأبوية) في الكتابات الحديثة لنقد سيطرة الأب داخل الأسرة، وكان الإنكليزي (روبرت فيلمر) في القرن السابع عشر أول من استخدم نموذج الأسرة الأبوية في تحليله لنظم الحكم، حيث رأى أن الحكومات المستبدة هي التي يعامل فيها الحاكم رعاياه كما يعامل الرجل زوجته وأولاده، وهو الطرح الذي انتقده (لوك) كاقتراب لتحليل الظاهرة السياسية، وإن لم يعاض سلطة الأب داخل الأسرة. ثمّ شاع بعد ذلك استخدام المفهوم خاصة في الكتابات الماركسية عند ماركس وإنجلز، كما أنه يُعدّ مفهوماً محوريّاً في نقد النسوية لسلطة الرجل وبنية الأسرة والمجتمع.
ويرتبط استخدام مفهوم الأبوية بالغرب بتيارين رئيسين:
تيار العلمانية؛ الذي رأى في الدين الدعامة الأساسية؛ لتبرير الممارسة الأبوية للرجل وإضفاء الشرعية عليها، حيث إن الرب ذاته سلطوي وأبوي (God the Father) - كما تعتبر المسيحية(*)-، كما استخدمه التيار الماركسي في نقد هيراركية المجتمع والدولة، ورأى أنها كلها أبنية أبوية، الدولة والاقتصاد والأسرة، متخذاً من الشيوعية نموذجاً مثالياً لكل هذه المستويات، أي إن الأبوية كمفهوم يقترن في الاستخدام المعاصر برفض الدين ونقض الدولة، ويتعارض بذلك مع الرؤية الإسلامية التي تحكم بالشريعة، وتؤمن بوجوب ترتيب للإدارة السياسية، واضعةً لهذا الأمر ضوابط ومعايير تختلف تماماً عن فهم الرؤية الغربية للدين والدولة على حدٍّ سواء.
كتاب المرأة والأخلاق والدين، بقلم هبة رؤوف عزت.

التعليقات (0)

اترك تعليق