مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الكذب بين الزوجين وعلى أفراد الأسرة

الكذب بين الزوجين وعلى أفراد الأسرة

الكذب بين الزوجين وعلى أفراد الأسرة

قراءةٌ فقهية شاملة
الشيخ مصطفى الهمداني(*)
ترجمة: حسن الهاشمي

المقدّمة
إن من بين الأبحاث الفقهية في ما يتعلّق بالكذب، وربما شكّل النواة الرئيسة لبحث الكذب في المسار الفقهي، هو البحث في مسوِّغات الكذب أو ما يجوز من أنواع الكذب. ومن بين أهم المباحث، وأكثرها تحدّياً في دائرة البحث الفقهي لأنواع الكذب الجائز، هو بحث الكذب على الزوجة، والأسرة، والأقارب، أو بعبارةٍ أخرى: الكذب على «المرأة»، و«الزوجة»، أو «الأهل». لقد تمّ طرح هذا البحث في الفقه؛ لما في الكذب على الزوجة من المصالح، وذلك في موارد خاصّة للغاية (وليس على نحوٍ منفلت). إن أهمّ مصلحة في نظام الأسرة هي قيام الأنس والألفة بين أعضاء الأسرة والزوجين، وإن هذا البحث يضمن هذه المصلحة واستمرارها، بَيْدَ أن الأبعاد الفقهية المترتبة على هذه المسألة الهامة لم يتمّ تحليلها وبيانها حتّى هذه اللحظة بالشكل المناسب واللائق، بل على الرغم من وجود الروايات المتعدّدة بشأنها لم تكن مطروحةً في الفقه إلى ما قبل عصر الشيخ الأنصاري. وللأسف الشديد فقد اكتفى الشيخ الأنصاري منها بسطرٍ واحد فقط، حيث قال: «ثم إنه قد ورد في أخبار كثيرة جواز الوعد الكاذب مع الزوجة، بل مطلق الأهل، والله العالم»([1]). ومن المتأخّرين مَنْ تبعه على ذلك، مكتفياً بكتابة سطرٍ أو سطرين حول هذا الموضوع([2])، أو أضاف له ضمن نقل بعض الروايات والقليل من الأدلّة بضعة أسطرٍ أخرى([3])، أو بحثه ـكحدٍّ أقصى- في صفحةٍ واحدة، لا أكثر([4]).


كما لا نرى موضعاً لبحث الكذب فقهياً في الكتب المفردة للمعاصرين.


وبطبيعة الحال فقد تمّت دراسة أبحاث الكذب بشكلٍ واسع في الكثير من التحقيقات، من قبيل: كتاب (دروغ مصلحت آميز)، لمؤلفه الدكتور حسن إسلامي، حيث خصّص فصلاً لهذا الموضوع. وكذلك تمّ تناول هذا البحث في مقالات من قبيل: «دروغ مصلحت آميز»([5])، و«افترا بستن بر خدا ورسول در نقل حديث»([6])، و«دروغ هاي حوزه ارتباط پزشك وبيمار»([7])، و«موارد جواز دروغ به طور كلي»([8]). وقد توصل كاتب هذه السطور من خلال بحثه إلى هذه الموارد. بَيْدَ أنه لا شيء من هذه الأبحاث والدراسات المعاصرة ينطوي على الاتجاه الفقهي الغالب، هذا أوّلاً. وثانياً: إن هذه التحقيقات لم تبحث جواز الكذب في العلاقات الأسرية، باستثناء كتاب الدكتور حسن إسلامي، حيث تعرَّفت على كتابه بعد إكمال هذه المقالة بتوجيهٍ من أحد الأساتذة المحترمين. وفي المقالات الثلاث للسيد قلي پور، التي أوردها في القسم الثاني من مقاله([9])، تمّ بحث وتحليل الكذب بين الأزواج في صبغةٍ فقهية نسبياً. بَيْدَ أن الدكتور حسن إسلامي، رغم تمحيصه الدقيق للروايات والأقوال، أوّلاً: قد اكتفى بمطالعة روايات أهل السنّة فقط. وإنه لممّا يدعو إلى العجب والتساؤل أنه لم يستند في هذا الموضوع حتّى على روايةٍ واحدة من مصادر الشيعة([10]). ثمّ إنه عالج هذا الموضوع من زاوية فلسفية ـ أخلاقية، ولم يتناوله من الناحية الفقهية([11])، فقد صرّح على سبيل المثال بأنه لا يبحث في أسانيد الروايات([12])؛ وفي البحث الدلالي كرّر أقوال الفقهاء من أن الروايات ضعيفة السند، وتشتمل على إجمال دلالي([13]). كما أنه حصر البحث ضمن دائرة العلاقات الزوجية، وليس ضمن الأبعاد الستّة لهذه المسألة، على ما سيأتي شرحه في هذه المقالة. ولم يقم السيد (قلي پور) بالتحقيق اللازم، كما أنه لم يبحث عن المباني الرجالية والتدقيقات الدلالية في الأخبار، بل اكتفى بنقل أقوال مشاهير الفقهاء، ولم يذكر مستنداً للكثير من دعاواه. كما ينطوي بحثه -على غرار كتاب الدكتور حسن إسلامي- على محدودية في البحث أيضاً.


دراسة المسألة من أبعادها المختلفة
نسعى في هذا المقال ـانطلاقاً من الضرورة والنقص المتقدّمين- إلى تحليل هذه المسألة فقهياً؛ للإجابة عن السؤال القائل: ما هو الحكم الفقهي للكذب في العلاقات الأسرية (الزوجة والأبناء) والأقارب في فقه الإمامية؟ إن لهذا السؤال ثلاثة أبعاد واضحة، وهي: (الكذب على الزوجة، والكذب على الزوج؛ والكذب على الأولاد، والكذب على سائر الأقارب)، وبالتالي فإنه يشتمل على أربعة أسئلة فرعية أيضاً. كما أن تحليل عنوان الزوجة إلى: دائمة؛ ومنقطعة، وكذلك الاعتقاد بضرورة التورية في موارد جواز الكذب، يُضيف إلى ما تقدَّم سؤالين فرعيين آخرين. ونتيجة لذلك فإنه طبقاً للتحليل المنطقي لمفاهيم السؤال الأصلي ينقسم هذا السؤال إلى ستّة أسئلة فرعية، يمكن بيانها على النحو التالي:
الأوّل: هل يجوز للزوج أن يكذب على زوجته؟
الثاني: هل يجوز للزوجة أن تكذب على زوجها؟
الثالث: هل يجوز للوالدين الكذب على أولادهما؟
الرابع: هل يجوز الكذب على سائر الأقارب (غير الزوج والأولاد)؟
الخامس: إذا جاز الكذب على الزوجة الدائمة فهل يمكن تسرية هذا الجواز إلى الزوجة في العقد المنقطع؟
السادس: إذا جاز الكذب في جميع الحالات المتقدّمة فهل تجب التورية فيه أم لا؟


1ـ أقوال الفقهاء في المسألة
كما أسلفنا في مقدّمة هذه المقالة فإن الجذور الفقهية لهذه المسألة تعود إلى مكاسب الشيخ الأنصاري، ولذلك عمد الفقهاء بعده إلى طرح الأفكار الفقهية المرتبطة بهذه المسألة إلى حدٍّ ما. ويمكن بيان الأفكار الفقهية الموجودة في هذه المسألة، والبيان الإجمالي لمستندات هذه الأقوال والأفكار، على النحو التالي:


أـ جواز الوعد الكاذب للزوجة
حيث توجد ثلاث روايات في المصادر الروائية الشيعية الجامعة، وتقوية سندها في إطار عمل الفقهاء بها، وجواز الوعد الكاذب للجميع، فإن هناك مَنْ ذهب إلى جواز الكذب على الزوجة([14]).


ب ـ الاعتقاد بحواز الوعد الكاذب على الزوجة والأهل
دليل هذا القول ثلاث روايات واردة في المصادر الروائية الشيعية الجامعة، بالإضافة إلى الإجماع، والتحليل العقلي([15]).


ج ـ عدم جواز الكذب على الزوجة
أما القول الآخر فهو عدم الجواز؛ وذلك لضعف بعض الروايات المجوِّزة من الناحية السندية، ونتيجة ذلك هي العجز عن تقييد إطلاقات حرمة الكذب([16]).


د ـ عدم جواز الكذب على الزوجة إلاّ عند الضرورة والاضطرار
أدلة هذا القول هي ضعف سند الروايات الواردة في هذا الباب([17])، أو عدم وجود الإطلاق في دلالتها؛ بسبب عدم وجود القرينة العقلية([18]). وبطبيعة الحال فإن المجموعة السابقة تقبل هذا الاستثناء بحَسَب القاعدة، رغم أنها لم تصرِّح به؛ إذ لا ينكر أحدٌ اقتضاء أدلة الإكراه والاضطرار العامة، والتي هي من العناوين الثانوية.


هـ ـ احتمال جواز الكذب على مطلق الأهل
دليلُ هذا الرأي وجود لفظ «الأهل» في إحدى روايات هذا الباب([19]).


و ـ لزوم التورية عند تجويز الكذب
يذهب مشهور الفقهاء إلى الاعتقاد بوجوب التورية قَدْر الإمكان عند جواز الكذب([20]). وطبقاً لهذا التقرير يجب على القاعدة أداء جميع أنواع الكذب الجائز في موارد موضوع بحث هذه المقالة على نحو التورية.


ز ـ عدم لزوم التورية عند تجويز الكذب
يذهب الشيخ الأنصاري في البحث عن المسوِّغين الرئيسين للكذب، وهما: الضرورة؛ والإصلاح، إلى الاعتقاد بعدم لزوم التورية في الكذب؛ إذ لا وجود لقيد التورية في الروايات. كما أن إطلاق جواز الكذب في هذه الموارد بحيث يصعب معه على الفقيه تقييده بوجوهٍ عقلية، من قبيل: إمكان التورية، وتقدير الضرورات بمقدار الضرورة، وما إلى ذلك([21]). وطبقاً لهذا المبنى يمكن نسبة هذا الرأي إليه في بحث الكذب على الأهل والأسرة.


المسألة الأولى: كذب الزوج على الزوجة، وأدلته
إن هذا البحث الذي يمثِّل الأسّ لأكثر أبحاث هذه المقالة يتولى الإجابة عن السؤال الأول في هذا التحقيق. ونخوض بدايةً في أدلة جواز كذب الزوج على الزوجة.
ليس هناك في القرآن دليلٌ على هذه المسألة. كما أنها في الأساس لم تطرح من قِبَل الكثير من الفقهاء السابقين؛ كي يمكن لنا ننقل أو نحصّل الإجماع المحصّل أو المنقول بشأنها. وإذا نقل عن السبزواري دعوى الإجماع على جواز الوعد الكاذب للزوجة فهو ليس من جهة طرح هذه المسألة الخاصة، بل من جهة أنه أدرج هذا الكذب ضمن عنوان الكذب المصلحي، وادّعى الإجماع على عنوان الكذب المصلحي. وعليه فإن الذي يمكن عرضه بوصفه دليلاً في هذه المسألة هو: الدليل العقلي؛ والروايات.


الدليل الأول: الدليل العقلي
لقد جوّز الشيخ الأنصاري موردين من موارد الكذب فقط، وهما: الكذب الاضطراري والإكراهي؛ والكذب الإصلاحي. لقد ذكر سماحته دليلاً عقلياً على جواز الكذب في موارد الضرورة، ولو انطبق كلّ واحد من الأقسام الأربعة مورد البحث في الأسئلة الأربعة الأولى المذكورة في بداية هذا التحقيق على عنوان الضرورة فإن ذلك الدليل يمكن الاستناد إليه في هذا القسم أيضاً. قال الأنصاري: إن الموارد التي يضطرّ فيها الشخص إلى ارتكاب أحد أمرين قبيحين فإن العقل يحكم مباشرةً بأن على هذا الشخص أن يختار ارتكاب أقلّ الأمرين قبحاً([22]). ويمكن اعتبار هذا التحليل من قِبَل الشيخ من سنخ تقديم الأهمّ على المهمّ([23])، أو بعبارةٍ أخرى: من سنخ تقديم الفاسد على الأفسد([24]).
وبطبيعة الحال فإن السؤال عن سنخ الكذب (على الزوجة أو الولد أو الأقارب)؟ وهل هو نوعٌ مستقل في مقابل ذينك النوعين الجائزين من الكذب، أو أنه ينطبق على أحدهما أو كلَيْهما؟ وإذا كان منطبقاً عليهما فما هو الوجه في تجويزه المستقلّ في بعض الروايات، وكذلك في البحث المنحاز عن حكمه الفقهي؟ كلامٌ آخر، سنأتي على ذكره عند استخلاص النتائج النهائية في ختام البحث عن الأدلّة الروائية.


الدليل الثاني: الروايات
إن الروايات الواردة في المصادر الروائية الشيعية الجامعة بشأن هذا النوع من الكذب الخاصّ بفقه الأسرة، والتي تجيز هذا الكذب، ثلاث روايات فقط، وهي:
1ـ عن عليّ بن جعفر، عن أبيه، عن صفوان، عن أبي مخلدٍ السرّاج، عن عيسى بن حسّان، قال: سمعتُ أبا عبد الله× يقول: «كلُّ كذبٍ مسؤولٌ عنه صاحبه يوماً، إلاّ كذباً في ثلاثةٍ: رجلٌ كائدٌ في حربه فهو موضوعٌ عنه، أو رجلٌ أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجلٌ وَعَد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتمّ لهم»([25]).
2ـ عن الصدوق، بطريقه إلى أبي سعيد الخدري وحمّاد بن عمرو وأنس بن محمد، عن النبي الأكرم|، في وصيته للإمام عليّ(ع): «يا عليّ، ثلاثٌ يحسن فيهنّ الكذب: المكيدة في الحرب، وعِدَتك زوجتك، والإصلاح بين الناس»([26]).
3ـ (الجعفريات) عن ابن الأشعث، بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن عليّ بن أبي طالب(ع) قال: قال رسول الله|: «لا يصلح الكذب إلاّ في ثلاثة مواطن: كذب الرجل لامرأته، وكذب الرجل يمشي بين الرجلين؛ ليصلح بينهما، وكذب الإمام عدوّه؛ فإن [أو فإنما] الحرب خدعة»([27]).


تقييم الأدلة الروائية المجوّزة
هناك من الفقهاء مَنْ يرى ضعف سند جميع هذه الروايات الثلاث([28]). وأما التحليل السندي لهذه الروايات فهو:
 
1ـ سند الرواية الأولى
إن الشخص الأول في سند الرواية الأولى هو عليّ بن إبراهيم، وهو موثّق، ومن كبار الشيعة([29]).
وأما أبوه فهو رغم عدم استعمال لفظ «الثقة» في حقّه، وإنما ورد بشأنه مجرّد المدح، إلاّ أن هذا المدح، ومنزلته بوصفه مصدراً للكثير من الروايات، وكونه مؤتمناً من قِبَل الكثير من الرواة الثقات، يثبت علوّ منزلته، بل هو سند الأسانيد، وشيخ المشايخ، وعلى أعلى درجات الوثاقة([30]).
وأما الشيخ الثالث في سلسلة سند هذه الرواية فهو صفوان. وهو رغم إطلاقه يجب أن لا يشتبه بأنه مشتركٌ بين الثقة وغير الموثّق([31])؛ لأن الموارد التي يكون فيها الراوي مشهوراً، وله الكثير من الروايات، فإن الأسماء المطلقة تنصرف إليه([32])، بَيْدَ أن بعض الفقهاء قد غفلوا ـ للأسف الشديد ـ عن هذه النقطة بشأن الأسماء المشتركة بين الثقة والضعيف، وحكموا بضعف هذا الشخص([33]).
وهكذا أبو مخلد لم يَرِدْ ذكره في بعض الكتب الرجالية الرئيسة، من قبيل: رجال الكشّي، ورجال الطوسي. وفي بعض الكتب الرجالية الأخرى، من قبيل: رجال النجاشي، وفهرست الشيخ، تمّ الاكتفاء بنسبة كتابٍ إليه، دون توثيق أو تضعيف([34]). وقال عبد الله المامقاني: «إن

التعليقات (0)

اترك تعليق