آداب الدخول إلى المكان الخاص بالوالدين
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(النور:58-59)
تناولت الآيات إحدى المسائل التي ترتبط بمسألة العفاف العام، وشرحت خصائصها، وهي استئذان الأطفال البالغين وغير البالغين للدخول إلى الغرفة المخصصة للزوجين.
فتقول أولا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ»:
يجب على عبيدكم وأطفالكم الاستئذان في ثلاث أوقات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة(1) ومن بعد صلاة العشاء. حيث ينزع الناس عادة الملابس الإضافية، وقد يختلي الزوج بزوجته. ثلاث عورات(2) لكم؛ أي هذه ثلاث أوقات للخلوة خاصة بكم. وطبيعي أن المخاطب هنا هم أولياء الأطفال ليعلموهم هذه الأصول، لأن الأطفال لم يبلغوا بعد سن التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية. كما أن عمومية الآية تعني شمولها الأطفال البنين والبنات، وكلمة "الذين" التي هي لجمع المذكر السالم، لا تمنع أن يكون مفهوم الآية عاما، لأن هذه العبارة استعملت في كثير من الموارد وقصد بها المجموع، كما في آية وجوب الصوم، فلفظ "الذين" هناك يعم المسلمين كافة (سورة البقرة الآية 83). ولابد من القول بأن هذه الآية تتحدث عن أطفال مميزين يعرفون القضايا الجنسية، ويعلمون ماذا تعني العورة. لهذا أمرتهم بالإستئذان عند الدخول إلى غرفة الوالدين، وهم يدركون سبب هذا الاستئذان، وجاءت عبارة "ثلاث عورات" شاهدا آخرا على هذا المعنى.
ولكن هل أن الحكم المتعلق بمن ملكت أيديكم يختص بالعبيد الذكور منهم أو يشمل الإماء والجواري؟
هناك أحاديث مختلفة في هذا المجال، ويمكن ترجيح الأحاديث التي تؤيد ظاهر الآية، أي شمولها الغلمان والجواري. وتختتم الآية بالقول: ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض فلا حرج ولا إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، أجل: كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم. كلمة طوافون مشتقة من "الطواف" بمعنى الدوران حول شيء ما، وقد جاءت بصيغة مبالغة لتأكيد تعدد الطواف. وبما أن عبارة بعضكم على بعض جاءت بعد كلمة طوافون فإن مفهوم الجملة يكون: إنه مسموح لكم بالطواف حول بعضكم في غير هذه الأوقات الثلاثة، ولكم أن تتزاوروا فيما بينكم ويخدم بعضكم بعضا. وكما قال "الفاضل المقداد" في كنز العرفان، فإن هذه العبارة بمنزلة دليل على عدم ضرورة الاستئذان في غير هذه الأوقات، لأن المسألة تتعقد إن رغبتم في الاستئذان كل مرة (3)
وبينت الآية التالية الحكم بالنسبة للبالغين، حيث تقول: وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم. وكلمة "الحلم" على وزن "كتب" بمعنى العقل والكناية عن البلوغ، الذي يعتبر توأما لطفرة عقلية وفكرية، ومرحلة جديدة في حياة الإنسان. وقيل أن الحلم بمعنى الرؤيا، فهي كناية عن احتلام الشباب حين البلوغ. وعلى كل حال يستفاد من الآية السابقة، أن الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة للأطفال غير البالغين، لأن أولئك يجب عليهم استئذان الوالدين في الأوقات الثلاثة فقط، لأن حياتهم قد امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيل بها الاستئذان كل مرة وكما أنهم لم يعرفوا المشاعر الجنسية بعد. أما الشباب البالغ، فهم مكلفون في جميع الأوقات بالاستئذان حين الدخول على الوالدين. ويخص هذا الحكم المكان المخصص لاستراحة الوالدين. أما إذا كان في غرفة عامة يجلس فيها آخرون أيضا، فلا حاجة للاستئذان منهما بالدخول. والجدير بالذكر إن عبارة كما استأذن الذين من قبلهم إشارة إلى الكبار الذين يستأذنون من الوالدين حين الدخول إلى غرفتهما. وقد أردفت الآية الشباب الذين بلغوا الرشد بهؤلاء، الكبار. وتقول الآية في الختام للتأكيد والاهتمام الفائق: كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم. وهذا هو نفس التعبير الذي جاء في آخر الآية السابقة دون تغيير، باستثناء استعمال الآية السابقة كلمة "الآيات" وهذه استعملت كلمة "آياته" ولا فرق في معناهما.
فلسفة الاستئذان والمفاسد المترتبة على عدم الالتزام به:
لا يكفي اللجوء إلى القوة لاقتلاع جذور المفاسد الاجتماعية كالأعمال المخلة بالشرف، ولا يرجى نتيجة مرضية من العقاب فقط في القضايا الاجتماعية. وإنما يستوجب اتباع عدة أمور كالتثقيف الإسلامي، وتعليم آدابه الخلقية، واتباع السبل الصحيحة في القضايا العاطفية. وإلى جانب هذه الأمور يكون العقاب كعامل لردع المنحرفين عن الطريق السوي. ولهذا السبب بدأت سورة النور -وهي في الواقع سورة العفاف والشرف- بالحديث عن جلد الرجال الزناة والنساء الزانيات، كما تحدثت في نفس الوقت عن تسهيل الزواج ورعاية الحجاب الإسلامي، والنهي عن النظر بلذة وتحريم اتهام الآخرين بشرفهم وناموسهم، وأخيرا استئذان الأبناء حين الدخول إلى غرفة الوالدين. وهذا يدل على عدم إغفال الإسلام أي من هذه التفاصيل التي لها علاقة بمسألة العفاف والشرف. وعلى الخدم أن يستأذنوا حين الدخول إلى غرفة الزوجين الخاصة اللذين يخدمانهما، كذلك يستوجب على الأطفال البالغين عدم الدخول إلى الغرفة المذكورة دون استئذان، وتعليم الأطفال غير البالغين الذين يرتبطون ارتباطا وثيقا بالوالدين، أن لا يدخلوا غرفة الوالدين دون استئذان وعلى الأقل في الأوقات الثلاثة التي أشارت إليها الآية "قبل صلاة الفجر وحين الظهر ومن بعد صلاة العشاء". وهذا نوع من الأدب الإسلامي، رغم قلة الالتزام به مع كل الأسف. ورغم بيان القرآن ذلك بصراحة في الآيات السابقة. فإنه من النادر أن يتناوله الخطباء والكتاب، ولا يعرف سبب إهمال هذا الحكم القرآني الحاسم؟! ورغم أن ظاهر الآية يوجب هذا الحكم، وحتى لو اعتبرناه مستحبا فإنه ينبغي الحديث عنه، وبحث جزئياته. ورغم تصور بعض السذج بأن الأطفال لا يدركون شيئا عن هذه الأمور، وأن خدم البيت لا يهتمون بها، فإن الثابت هو حساسية الأطفال بالنسبة لهذه القضية (فكيف بالنسبة للكبار). وقد يؤدي إهمال الوالدين ورؤية الأطفال لمشاهد ممنوعة إلى انحرافهم خلقيا وأحيانا إلى إصابتهم بأمراض نفسية. وقد واجهنا أشخاصا اعترفوا بأنهم أثيروا جنسيا، أو أصيبوا بعقد نفسية لمشاهد جنسية من هذا القبيل وقد شبت في قلوب البعض منهم نار الحقد على الوالدين، إلى درجة الرغبة في قتلهما، أو الانتحار. كل ذلك بسبب الأثر الذي زرعه في نفوسهم إهمال الوالدين، وعدم حيطتهم حين الممارسة الجنسية أو مقدماتها. هنا تتضح لنا قيمة وأهمية هذا الحكم الإسلامي الذي بلغه العلماء المعاصرون، بينما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرنا.
وهنا نجد لزاما علينا توصية الآباء والأمهات بالجدية في الحياة الزوجية، وتعليم أولادهم الاستئذان حين الدخول إلى غرفتهما، واجتناب كل عمل قد يثير الأولاد ويحركهم. ومن هذه الأعمال مبيت الزوجين بغرفة فيها أولاد بالغون، فيجب اجتناب ذلك بالقدر الممكن. وأن يعلما بأن هذه الأمور تؤثر بشكل كبير في مستقبل أولادهما. ومما يلفت النظر حديث للرسول(ص) يقول فيه "إياكم وأن يجامع الرجل امرأته والصبي في المهد ينظر إليهما"(4)
الهوامش:
1- "الظهيرة" تعني كما يقول "الراغب الأصفهاني" في مفرداته "والفيروزآبادي" في القاموس المحيط: منتصف النهار وقريب الظهر.
2- "العورة" مشتقة من "العار"، أي: العيب. كما تعني العورة الشق الذي في الجدار أو الثوب، وأحيانا تعني العيب بشكل عام. وعلى كل فإن إطلاق كلمة (العورة) على هذه الأوقات الثلاثة بسبب كون الناس في حالة خاصة خلال هذه الأوقات الثلاثة، حيث لا يرتدون الملابس التي يرتدونها في الأوقات الأخرى.
3- كنز العرفان، المجلد الثاني.
4- بحار الأنوار، المجلد 103، صفحة 295.
المصدر: الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج11.
اترك تعليق