مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الإسلام وكرامة الإنسان.. وقيمة المرأة

الإسلام وكرامة الإنسان.. وقيمة المرأة

السيد موسى الصدر

في مقدمة دراستنا حول كرامة الإنسان في الإسلام، وهو موضوع يشكل زاوية مهمة في رأي الإسلام ونظرته إلى الإنسان، لا بد أن نعرض عرضًا موجزًا نتائج هذا المبدأ، وتأثيره البالغ في تحقيق الهدف من الرسالة.
فالخطوة الأولى في طريق تربية الإنسان ورفع مستواه في جميع حقول التكامل، هي في جعله يشعر بكرامته، ويهتم بشؤون نفسه، وإلا فسوف لا يولي نفسه أي اهتمام، ولا يبذل لإصلاح وضعه أي نشاط، مهملًا حاضرًا ومستقبله وحتى ماضيه. فنفقد في هذه الحالة إمكانية إقناعه بالسعي والعمل، وإمكانية التأثير عليه في دعوته لتحسين أموره وأوضاعه، والتحرك نحو الأفضل، ويبقى خاملًا جامدًا لا مباليًا، مفضلًا استمراره في وضعه، على تحمل عناء الحركة وأعباء السعي والنشاط.
نحن لا ننكر أن حب الإنسان لنفسه غريزة ثابتة فيه تفرض عليه الدفاع عنها والسعي لجلب الخير لها. ولكن نقول أن هذه الغريزة تبقى نشيطة حسب مستوى الوعي البشري، فتعمل للخير الذي تجده متناسبًا معها وتصد ما تعتبره منافيًا لها.
فحب النفس هو القوة الدافعة للإنسان، ولكن الشعور بالكرامة فقط يحدد مقام الإنسان، ويرسم الخطوط العريضة لسيره، وتعيين أهدافه السامية، ويميز الخصوم وطريقة الدفاع.
ولا ننكر أيضًا، إمكان رفع مستوى الحياة الإنسانية بطريقة الضغط، وبفرض السعي والعمل، ولكننا نعتقد أن هذه الطريقة، ليست هي المفضلة لتكامل الإنسان، بل فيها من النتائج السلبية والعقد النفسية، والنقص في النتائج وبقاء المسؤوليات على عاتق الأفراد دون الجماعات، ما يفرض الإعراض عن هذا الأسلوب. فلنترك هذا البحث الذي هو من اختصاص علماء النفس التربويين، ولندخل في دراستنا عن: الإسلام وكرامة الإنسان.

الإنسان خليفة الله على الأرض:
إن الإنسان في رأي الإسلام خليفة الله على الأرض، عالم بالأسماء كلها، مسجود له من جميع ملائكة الله.
»وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ» [البقرة، 30 ـ 34].
ومفهوم الخليفة، يوضح تمام الوضوح، استقلال البشر وحريته في التصرف على الأرض، أما السبل المرسومة له والخطوط المكتوبة عليه، فهي النصائح التي قررها الله لخليفته الإنسان.
وتعليم الأسماء لآدم، الأسماء التي يعود إليها ضمير «هم» المختص بذوي العقول، وتأكيد الله لملائكته بعد اعترافهم بالعجز أنه يعلم غيب السماوات والأرض.
التعليم هذا والتأكيد، يعكسان في الذهن إمكانيات الإنسان الهائلة، وتمكنه من معرفة جميع الموجودات والقوى المتفاعلة في دائرة خلافته، والتي جُعِلت تحت تصرفه في حياته الرسالية.
وسجود الملائكة، وهم نخبة الموجودات، تأكيد صريح لخضوع كافة الموجودات للإنسان وإطاعتها له، وهذا المعنى سيبدو بوضوح أكثر فيما بعد. فالاستقلال بالتصرف، والإمكانات الكبيرة، وخضوع عامة الموجودات، صفات ثلاث نفهمها من الآيات المذكورة، في عبارات هي أقصى حدود التكريم.
الإنسان وحرية التصرف:
وأعتقد أن شعور الملائكة باستقلال البشر في التصرف على الأرض، معرفتهم أن هذا الاستقلال لا يتم، إلا إذا كان البشر يملكون الإحساس بالشرور ويتمكن منهم. هذا الشعور، هو الذي يجعل الملائكة يقولون أن الإنسان سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ومع ذلك نرى أن هذا الخطر لا يقلل من مقام الإنسان وكرامته بل يبرزه كشرط أساسي لاستقلال الإنسان وحريته في التصرف.
وإبليس في رأي القرآن هو الوحيد الذي أبى السجود لآدم، واستكبر عليه، فكان نصيبه الطرد من مقام ملكوت الله، وجزاؤه العذاب يوم البعث.
»فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» [ص، 73 ـ 85]
وإبليس هذا، الذي أصبح شيطانًا رجيمًا بعد امتناعه عن السجود لآدم، يقود جنود الشر في حياة الإنسان، ويجعل الصراع محتدمًا في العالم كله، وفي نفس الإنسان. والمنتصرون في المعركة، المخلصون من عباد الله، هم ثمار الكون الذي من أجلهم خُلِق، وأصبح ميدانًا لخلافتهم.
والإنسان صنع على يد الله وفيه روح الله.
»إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» [ص، 71 ـ 72]، »قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» [ص، 75].
فخلق الإنسان من جنس الأرض على يد الله، والنفخ فيه من روح الله، صورة واضحة عن الجوانب الوجودية الشاملة في الإنسان، والتي تمتد من الأرض إلى السماء، وهذا تعبير قوي أيضًا للكرامة التي يتمتع بها الإنسان.
وقد اعتبر الله الإنسان ذروة في الخلق، وقمة في الصنع »لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» [التين، 4 ـ 6]، »وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»[المؤمنون، 12 ـ 14].

الإسلام ودعوة الإنسان إلى المعرفة:
جعل الله للإنسان بين الموجودات كلها، ميزة كبيرة تمكنه أن يتخلق بأخلاق الله، ولهذا خلقه حرًا يتمكن من العلم والمعرفة. ويحاول الإسلام في مواضيع عديدة في الكتاب والسنة التنبيه على هذه النقاط، ليرفع معنويات الإنسان ويشعره بمقامه المكرم، وبتفضيله على الكثير من الخلق،(سبق وذكر في رقم 2 بعض الآيات). "تخلّقوا بأخلاق الله" (حديث شريف). «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» [الإسراء، 70].
ثم يعلن القرآن الكريم، بأن ما في الأرض وما حولها خلق للإنسان ومسخر له:
«خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً» [البقرة، 29].
«وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» [النحل، 12].
التعاليم الإسلامية تؤكد أن الله قريب جدًا للإنسان. وهو أقرب إليه من أي شيء، فعلى الإنسان أن يشعر بهذا القرب ويُقبل على الله لكي يجد قوته واعتزازه.
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» [ق، 16].
«وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» [البقرة، 186].
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» [الأنفال، 24].
"قلب المؤمن عرش الرحمن" حديث شريف.
والتأكيد على قرب الله من الإنسان يرفع كثيرًا من معنوياته، ويسمو به عن الخوف والقلق والحزن. ويبعد عنه الكثير من الرذائل الخلقية، التي تنتج عن الضعف والخوف والطمع، كالكذب والنفاق والحرص.
ثم أن القرب لله يسهل الاكتساب منه والتخلق بأخلاقه. وقد جعل الإنسان في الآيات القرآنية عدل الكون بأجمعه، في الدلالة على خالق العالم وعظمته ومعرفته، فاعتُبِرَ وحده عديل الآفاق، الحديث الشريف يجعل منه العالم الأكبر.
«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» [فصلت، 53].
أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر
والأمانة التي عجز الكون كله عن حملها، تمكن الإنسان منها.
«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا» [الأحزاب، 72 ـ 73].
ومهما كان تفسير الأمانة، دينًا أو معرفة أو ولاية أو شرف مسؤولية، مهما كان ذلك، فاختصاص حملها بالإنسان تكريم له وإشادة بمقامه العظيم.
مقام النبوة:
وأخيرًا فمقام النبوة مقام الرسالة الإلهية، مقام الخلة، مقام التكلم مع الله، مقام الاصطفاء، مقام المحبة مع الله. مقام كلمة الله، مقامات خصصت بالعنصر البشري وهي أشرف ما يصل إليه مخلوق على الإطلاق.
«لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ» [آل عمران، 164]
«وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ»[الأنعام، 9].
وكثير غيرها من الآيات القرآنية الدالة على اصطفاء الله لرسله وعلى ما ذكرنا من الوصف.
هذه نبذة موجزة عن تعريف الإنسان المشرف، وتفسيره التكريمي عند الإسلام، فلندخل الآن في بعض التفاصيل والتعاليم، الموضوعة لصيانة كرامة الإنسان في بعض جوانب وجوده أو جميعها.
ثم يدخل الإسلام في تفاصيل وجود الإنسان، ويعتمد في تشريع أحكامه وسن قوانينه، على قاعدة تكريم الإنسان، ويعتبر هذا المبدأ، هدفًا رئيسيًا من أهداف الدين ومن غايات الرسالة.
وهذه نبذة من تلك التعاليم:
أ ـ فطرة الله:
الدين بصورة موجزة، فطرة الله التي فطر الناس عليها. والدين تعبير صحيح عن هذه الفطرة وإبراز لها إبرازًا غير متأثر بالعوامل المختلفة الخارجة عن طبيعة الإنسان.
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» [الروم، 30].
والحديث الشريف الوارد في تفسير الآية الكريمة: "إن كل مولود يولد على الفطرة". فالدين بموجب هذه التعاليم، هو فطرة الإنسان. ولكن الإنسان نفسه لا يتمكن أن يعبر عنها، لأنه يتأثر بالعوامل التي تحيط به وينفعل بها، فشعوره بنفسه وتعبيره عن فطرته، يكسب لونًا خاصًا.
فالصحيح أن يعبر عن هذه الفطرة الإنسانية مقام آخر، لا يتأثر بالعوامل الخارجة عن الإنسان. مقام هو فوق كل عامل وخالق كل مؤثر. مقام الله، الذي شرع الدين واعتبر الفطرة الإنسانية المخلوقة شريعته ورسالته.
ب ـ حفظ النفس والآخرين:
احترم الإسلام حياة الإنسان، واعتبر «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» [المائدة، 32], ومن قتلها متعمدًا كأنه قتل الناس جميعًا وجزاؤه جهنم.
«مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» [المائدة، 32].
ويشمل قتل النفس حسب التعاليم الإسلامية، قتل الجنين; ولم يسمح الإسلام بأن يتصرف الإنسان بنفسه بالانتحار اعتبارًا منه بأن حياته ملك له، وحرم هذا تحريمًا قاطعًا فقال تعالى: «وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا»[النساء، 29].
وجعل في قتل الخطأ دية لولي الدم وقد أصبح اليوم قانونًا عامًا، مع العلم أنه من التشريعات الإسلامية. ويبالغ الإسلام في وجوب حفظ نفس الآخرين، ويهدد الذين يهملون شؤون فقرائهم وأيتامهم، بحيث يودي إلى موت أحدهم فقرًا وعجزًا. «وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» [البقرة، 195]، «وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ» [البقرة، 272]، «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا» [النساء، 9]، "لأن أعَولَ أهل بيت من المسلمين، فأُكسي عريهم وأُشبع جياعهم، أحبُّ عند الله من حجة وحجة إلى سبعين حجة"، الإمام "الصادق" (ع).
ج ـ التحرر الجوهري:
ونزّه الإسلام مقام الإنسان، فحرم عليه عبادة الأصنام، وعبادة البشر وعبادة كل شخص أو شيء، واعتبر الإنسان أرفع من أن يعبد غير الله، ويخضع أمام محدود مثله. وفي كثير من التعاليم، نجد تحذيرًا ومنعًا من طلب الحاجة من غير الله.
د ـ قدسية الكلمة:
ووردت تعاليم كثيرة تعتمد على تكريم ما يتلفظ به الإنسان باعتباره جزء منه، ولذا أوجب صيانة القول، وجعل تسديده مفتاحًا لجلب كل خير ولدفع كل شر. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» [الأحزاب، 70 ـ 71]. وقد فُسَّر تسديد القول في مواضع شتى من التعاليم أنها منع عن الكذب والاغتياب والتهمة والنميمة والبذاءة والفحش واللهو وحتى اللغو في القول.
أما الشهادة فقد أُعطيت عناية خاصة في الإسلام فقد وجب تحملها وأداؤها وبها تثبت الدعاوى وتستقر الحقوق وتتحقق العقوبات، ولكنها لا تقبل إلا من الإنسان العدل. واعتبرت شهادة الزور من المعاصي الكبيرة ويستحق مؤديها عقوبة كبرى في بعض الأمور الجزائية.
والعهد وهو الالتزام اللفظي، محترم في الإسلام. «إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً» [الإسراء، 34].
والالتزامات اللفظية المتبادلة التي يعبر عنها بالعقود، أوجب الوفاء بها، ونهى عن التخلف عنها. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» [المائدة، 1]، «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا» [النساء، 21].
وحتى الوعد اللفظي، يعتبر محترمًا، وقد عبر عنه الحديث الشريف «عدة المؤمن دينه». والالتزامات اللفظية التي تدخل ضمن العقود، تصبح واجبة الوفاء، ويعبر عنها بالشروط "المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحلَّ حرامًا" (حديث شريف).
والشروط هذه تعتبر وسيلة كافية لجعل العقود والمعاملات تنطبق على الحاجات المختلفة، وتؤدي المتطلبات المتزايدة من الالتزامات.
واللفظ يحترم في الإسلام إلى حد جُعِل سبيلًا للدخول في الدين، فيكفي الإدلاء بالشهادة لله بالوحدانية، ولـ «محمد» بالرسالة، ليتحقق الانتماء إلى الإسلام، وقد نهى عن التنكر لمثل هذا الاعتراف. «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»[النساء، 94].
وقد جعل للكتابة ما للفظ في أكثر الأحيان، واعتقد أن التأكيد الشديد الصادر عن الإسلام حول محاسبة الإنسان على كل كلمة يتلفظ بها، وأن الله يسجلها بواسطة كرام كاتبين. هذا التأكيد أيضًا من نوع الصيانة والتكريم. فالألفاظ الصادرة عن المكرمين، هي التي يعتنى بها دون سواها. فالاهتمام بتسجيل كلمات الإنسان معناه الاهتمام بأمره والاعتراف بتكريمه. «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» [ق، 18]، «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ» [الإنفطار، 10 ـ 12].
هـ ـ السعادة والعمل:
أما عمل الإنسان، فقد أُعطي له في تعاليم الإسلام بصورة صريحة، جوانب بالغة من الاهتمام والتكريم. ففي حقل السعادة والشقاء الحقيقيين الشخصيين، يتنكر الإسلام لكل عامل خارجي، ويجعل السبيل الوحيد إليهما العمل فقط. «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» [الشمس7 ـ 10]، «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» [المدثر، 38].
وقد صرح القرآن الكريم بأن الفكرة التي كانت موجودة عند بعض الأمم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وكانت السبب الرئيسي في تقسيم المجتمعات، صرح بخطأ هذه الفكرة وأنها تتنافى مع التوحيد الحقيقي، ولا تغني عن عمل الإنسان. «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» [الجمعة، 6 ـ 7].
وقد بلغ النبي "محمد" (ص) جدية المبدأ هذا نهايته، حينما قال مخاطبًا ابنته "فاطمة": "يا فاطمة اعملي لنفسك فإني لا أغني عنك من الله شيئًا".
وفي حقل تكوين المجتمعات وصورها وتنظيماتها ومستوياتها ومشاكلها، يحمل الإسلام جميع هذه المسؤوليات على عاتق الإنسان فقط. فهو الذي يخلق المجتمعات، وعمله هو الذي يرسم الخطط، ويحدد المسؤوليات، ويسبب المشاكل والصعوبات. «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» [الرعد، 11 ]، «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» [الروم، 41].
"كيفما تكونوا يولَّ عليكم". (حديث شريف)
فعمل الإنسان هو القوة الوحيدة لتكوين التاريخ ولتحريكه وتطويره دون سواه، فلا دخل للعوامل الخارجة عن سعي الإنسان، في تكوين المجتمعات، وتحديد معالمها، كائنًا ما كان، بل الإنسان بعمله عن معرفة، أو عن جهل، أو عن إهمال، يختار طريقًا، ويفضل خطًا، ويكون الأمر كما اختار هو لمجتمعه.
وتطور التاريخ أيضًا أو بالاصطلاح جبر التاريخ، ليس إلا تفاعلًا بين الإنسان والكون، فالإنسان يحاول حسب رغبته وحاجته، أن يطلع على العالم الذي يعيش فيه، فيقرأ منه سطرًا، فتؤثر هذه القراءة على حياته، وترفع وعيه، وتطور معيشته، وتغير معالم بيئته، ثم يقرأ سطرًا ثانيًا وهكذا...
فالبطل الوحيد على مسرح التاريخ هو الإنسان، يكوّنه ويطوره ويحركه، فيتطور هو ويتحرك ويتفاعل هكذا باستمرار. فعمل الإنسان هو صانع هذه الأحداث كلها، ليس إلا، فهل تجدون فوق هذا المقام تكريمًا. في حقل الإقتصاد، يعتبر الإسلام لأول مرة في التاريخ أن عمل الإنسان هو أمر أساسي ذو قيمة يحرم اغتصابه ويضمن المتعدي للمعتدى عليه مثل المغتصب للأموال، ويعتبر المانع للأجير أجرته من المرتكبين لأكبر المعاصي، وأنه لا يشم رائحة الجنة.
ثم إذا لاحظنا مجموعة التعاليم الإسلامية في أبواب المعاملات في الفقه، نصل إلى نتائج مهمة، تثبت أن العمل هو العنصر الأول بين عناصر الإنتاج الثلاثة (العمل والآلة ورأس المال). وهذه النتائج قد تبدو غريبة إلا أنها حقيقة. ونحاول في هذه المحاضرة، أن نعرض هذه التعاليم وتلك النتائج عرضًا موجزًا:
1 ـ حرم الربا في الإسلام تحريمًا قاطعًا، والربا هو وضع ربح ثابت لرأس المال مصون من خطر الخسائر المحتملة.
2 ـ إذا استعمل المال بواسطة غير مالكه في عقد يسمى في الفقه بالمضاربة، فالأرباح تنقسم بالنسبة المحدودة بين العامل ورأس المال، والعمل، أي سعي العامل المضارب، مصون من الخسائر، وتقتصر الخسائر على رأس المال.
3 ـ لا يجوز اعتبار حصة من الأرباح للآلة كما هو صريح عبارات الفقهاء في باب المزارعة والمساقاة بل يمكن احتساب أجرة للآلة فقط.
4 ـ تقويم العمل قد يكون بصورة أجرة عامل، وقد يتحقق بإشراك العامل في الأرباح مثل المضاربة.
من هذه الأحكام نستخرج أن عنصر العمل له في الفقه الإسلامي ثلاثة امتيازات: الأجر الثابت، والمشاركة في الأرباح، والصيانة من الخسائر.
أما عنصر رأس المال وعنصر الآلة، فلكل منها امتياز واحد، فرأس المال يشترك بالأرباح دون الصيانة ودون الأجر الثابت، والآلة لها الأجر الثابت دون المشاركة في الأرباح، وأعتقد أن هذا الموجز من العرض يقنع القارئ الكريم بوجهة نظر الإسلام إلى عمل الإنسان، وبمقدار تكريمه له منذ البدء، وقبل التطورات الحديثة.

الإسلام والعمل:
والإسلام في حقل آثار العمل ونتائجه المتنوعة، يعتبر أن العمل هو صيانة للعقيدة بعد أن كان من آثار العقيدة وبهذا يؤكد اهتمامه البالغ بالعمل. «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون» [الروم، 10].
وأخيرًا، فالمسؤولية عن العمل صغيرة وكبيرة تؤكد مقام الإنسان العظيم في عمله، وتثبت تأثير أعماله، حتى الصغيرة منها في العالم، شعر بهذه التأثيرات أم لم يشعر. «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» [الزلزلة، 7 ـ 8]، «وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» [يونس، 61].
وهذه المسؤولية، هي ضمانة كبرى لصيانة عمل الإنسان، والمحافظة عليه، وعدم هدره في الباطل، وعدم انحرافه عن الخط الإيجابي المفيد.
ويوحي إلى هذه الصيانة التعبير بالطيبات والخبائث عن الحلال والحرام، ويؤكد أن هذه المحاولة إنما هي لأجل تكريم الإنسان وتطهيره من الدنس والانحطاط، وفي الآيات القرآنية والسيرة المطهرة، نجد التعبير عن المحرمات بصورة توضح هذا التفسير. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» [المائدة، 90].
والأفضل أن نؤكد بهذه المناسبة، أن الاعتماد على مبدأ الحلال والحرام الذي يتبعه الدين، إنما هو لأجل المحافظة على عدم ذوبان الإنسان وضياعه في العالم المادي المحيط به، فضلًا عن المصالح الثابتة في الواجبات والمحللات والمفاسد التي توجد في المحرمات.
فالإنسان إذا حاول أن يلبي حاجات جسده، أو ينجرف مع عواطفه دون تردد، فسوف يكون متأثرًا بالعالم لا مؤثرًا فيه، ولا يتمكن أن يكون قائدًا للكون ولا خليفة لله في الأرض، إذ يصبح منقادًا ذائبًا فيها..
أما رعاية الحلال والحرام، فتحتفظ باستقلال الإنسان، وتجعله مترفعًا عن الذوبان مصونًا من الضياع، حيث لا يكفي لتلبية الحاجة مجرد الحاجة، بل كونها حلالاً أيضًا.
وهذا المبدأ لا يتجاهل واقع الإنسان وحاجاته، ولا يعتبر مجرد التخلف عن تلبية الرغبات كمالاً. ولا يرى في محاربة النفس وإضعاف الجسد تقوية للروح ورياضة روحية، ولا يجد تناقضًا بين الجسم والروح. تلك المبادئ التي تعتمدها فرق التصوف، وبعض المبادئ الأخرى.
ونضيف هنا اهتمام الإسلام بأمر النظافة وجعلها من الإيمان. وهنالك مئات الأحاديث واردة في هذا الشأن ومستقاة من التعاليم الإسلامية; والنظافة ركن من كرامة الإنسان.
الرأي والعقيدة:
أ ـ أما الرأي والعقيدة، فهما ثمرة تفكير الإنسان، ونتيجة الجانب الأشرف من وجوده. فقد أكرمها الإسلام وحاول أن يحافظ على حريتها. فترك أمر التفكير والاجتهاد لمعرفة العقيدة الصحيحة. تركه للإنسان وأعلن أن العقيدة التي لا ترتكز على مبادئ التفكير لا اعتبار لها، ولا يعذر الإنسان إلا إذا لم يتمكن من الوصول إلى العقيدة الصحيحة بالرغم من التفكير والسعي «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» [البقرة، 256].
ب ـ والنية الحسنة اعتبرت روح العبادة «وإن لكل امرئ ما نوى» (حديث شريف)، ولكن الإنسان لا يؤاخذ بالنيات والأفكار مهما كانت ما لم يتبعها عمل أو قول. ففي الحديث النبوي الشريف أن الله رفع عن أمته تسعة أشياء... منها الوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم ينطق الإنسان بشفتيه.
ج ـ ومن أجمل ما يثيره الإسلام ويحافظ عليه تكريمًا للإنسان ونشاطاته المتنوعة، هو دراسة الجهد الضائع. فما أكثر الطاقات التي يبذلها الإنسان في سبيل الخير. فيجاهد باذلاً ماله ووقته وخدماته ونفسه ولكنه لا يتوصل إلى النتائج المطلوبة لعوارض بدت أو موانع حالت دون وصوله فيسقط في الطريق فينساه التاريخ لسبب ليس هو مسؤولاً عنه.
وما أكثر الطاقات التي تصرف وتحول الأخطاء دون إنتاجها ونجاحها. هذه الجهود الضائعة وغيرها من الإحساسات الداخلية التي تصرف لأجل أداء الرسالة المقدسة دون أن تظهر، كل هذه الجهود مدروسة في الإسلام، محفوظة حسب رأيه غير مهدورة ولا متنكر لها. «وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ» [النساء، 100].
«للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد»، قاعدة فقهية معروفة.
يتابع الإسلام مساعيه لتكريم الإنسان وصيانته أمام الانحطاط والانحراف. فيقترح إيجاد مجتمع إنساني يتناسب مع واقع الإنسان ويعترف بجميع جوانب وجوده ويهيئ الجو الملائم لنمو مواهبه وتربية كفاءاته.
هذه الملاحظة تبدو ضرورية إذا لاحظنا تأثر الإنسان بمجتمعه وانفعالاته الواضحة في أعماله وأخلاقه وإيمانه بالبيئة التي يعيش فيها.
وحيث إن الهدف من تكون هذا المجتمع هو الإنسان والعنصر الأساس لإيجاده هو الإنسان أيضًا. فلهذا يجب النظر إلى واقع الإنسان والتخطيط على ضوء هذا الواقع.
إن هذا المجتمع لا يكون شخصانيًا «انديفيدوياليست/ Individualiste» حيث إن هذا النوع من المجتمعات يتنكر لجانب أساسي من وجود الإنسان وهو الجانب الاجتماعي من حياته. ولهذا سرعان ما ينمو الجانب السلبي النابع من النزعات الشريرة المعبر عنه في الاصطلاح بالأنانية والتي يعبر عنها القرآن الكريم بالنفس الأمارة بالسوء. ينمو هذا الجانب في الأفراد حيث لا صيانة ولا تنسيق، فتصطدم الأنانيات وتضطرب الحياة الاجتماعية، ويتغلب القوي ويستغل الضعيف ثم يتحول الضعيف إلى آلة فيفقد المجتمع البشري قسمًا من طاقاته. وبعد ذلك يتحول القوي أيضًا إلى آلة لمصالحه الأنانية.
والقوانين التي توضع في هذه الحالة تعكس الحالة القائمة ولا تخدم الحقيقة التي يجب رعايتها صونًا للإنسان، فيأخذ المجتمع الذي يتكون في هذا الوقت طابع الصراع الظالم وسيطرة القوي على الضعيف وسيطرة المصالح الخاصة على الجميع.
وهذا المجتمع لا يمكن أيضًا أن يكون اجتماعيا «سوسياليست/ Socialiste» إذ إن المجتمع الذي يتكون على هذا الأساس يتجاهل الجانب الآخر من وجود الإنسان، أي الحرية والاستقلال، ويعتبر الفرد جزءًا للمجموعة نظير الأجزاء الطبيعية، وفي مثل هذه الحالة يقتصر الأمر على رعاية مصالح المجموعة ويخطط لها فقط.
والطابع الذي يأخذه المجتمع في هذا التنظيم ينعكس على الأفراد بصورة عفوية فيفقد الإنسان صورته الأصلية.
ولا تنمو مواهبه الطبيعية المتنوعة فيحرم المجتمع من كثير من طاقاته وكفاءات أفراده. ثم تنعكس صورة الأفراد على المجتمع أيضًا طبقًا لقانون تفاعل الأفراد مع المجتمع من كلا الطرفين، فيحصل تناقض دائم في سير المجتمع وتقلب مستمر غير إيجابي في حياة الإنسان.
الإنسان وتكوين المجتمع:
والحقيقة أن المجتمع الذي يقترحه الإسلام هو المجتمع الذي يعترف بوجود الفرد بجميع جوانبه الشخصية والاجتماعية.
ولتوضيح هذا البحث نلفت نظر القارئ الكريم إلى ما ورد في أوائل هذه المحاضرة من وجود فطرة الخير في الإنسان ونزعة الشر فيه والصراع النفسي الذي يشكل الحرية والاستقلال في الإنسان. ثم نقول أن ما يصدر عن الإنسان من الأعمال الإيجابية الخيرة هي التي لا تتعارض مع حقوق الآخرين وتنسجم مع مصالح المجتمع والمعبر عنها في الإسلام بأوامر القلب السليم أو النفس المطمئنة. أما الأعمال التي تتعارض مع حقوق الآخرين فهي رغبات النفس الأمارة بالسوء، حسب التعبير الديني.
ولا شك أن تحديد هذين النوعين من الأعمال يحتاج إلى تحديد مفهوم الحق، والحق جزء من التنظيم العام المقترح للمجتمع، وأثر ثابت ينبع من الأحكام العامة اللازم مراعاتها من صلات الأفراد بعضها مع بعض. وبهذا التفسير الموجز نتمكن من تصور حرية الفرد في خط مواز لحرية الآخرين ومن تصور مصالح الأفراد منسجمة مع المصالح الاجتماعية.
ومن ناحية ثانية نتمكن من الاحتفاظ بجميع طاقات الفرد الإيجابية دون طغيان أو تعدٍ أو حتى صراع بين الأفراد والطبقات بل أن الأمر يتحول إلى سباق بين أفراد المجتمع مع قدسية حقوق الآخرين. «وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ» [آل عمران، 133]، «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ»[المائدة، 48].
والنشاطات المتنوعة الصادرة عن الأفراد تلتقي بإيجابية فيحصل التعاون والتكافل على مختلف الألوان والأشكال.
ومن التعاليم الإسلامية المعتمدة على بدء تكريم الإنسان، أصل قداسة حاجات الإنسان كلها. فالإسلام يعترف بجميع هذه الحاجات ويعتبرها نعم الله ويضع أحكامًا لتوجيه هذه الرغبات ويعترف أن السعي لتلبية هذه الرغبات بالصورة المشروعة عبادة. فالتجارة والزراعة والبناء عبادات، والكد في طلب الرزق الحلال جهاد، والإتقان في العمل عبادة، والزواج عبادة، ومن رغب عنه اعتبره نبي الإسلام أنه ليس منه. وقد جعل النبي في وصاياه لـ "أبي ذر الغفاري" قاعدة تدل على أن المسلم يتمكن من أن يكون في عبادة دائمة حتى في حال النوم والأكل، ولا يرحب الإسلام بترك تلبية الحاجات ويتجاهلها. وفي الحديث الشريف اعتبر الذين يتفرغون للصلاة ويتركون السعي لطلب الرزق ممن لا يستجاب دعاؤهم، وفضل عليهم الذين ينفقون عليهم.
الإسلام والمجتمع:
وفي عداد هذه التعاليم نجد محاولات واسعة للمحافظة على تنسيق جميع جوانب وجود الإنسان، وعدم طغيان ناحية على سائر النواحي.
وأبرز أنواع هذه التعاليم ما ورد في الإسلام بشأن المرأة من السعي لعدم طغيان جانب الأنوثة على سائر جوانب وجودها. ولهذه الغاية منعها من العمل للإثارة والإغراء، لكي لا تذوب إنسانية المرأة في أنوثتها، وعليه يجب ألا ينظر إليها ولا تنظر هي لنفسها من هذا الجانب فقط، حتى لا ينخفض مستواها وتفقد جوانب أساسية من وجودها.
ومن الحلقات البارزة في سلسلة التعاليم هذه الدعوة إلى تكريم الآخرين. فالواجب على كل مسلم احترام الآخرين في أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم، ويحرم عليه التعدي العملي والقولي بالنسبة إليهم.
ويبدأ الإسلام بمحاولة صيانة الإنسان قبل ولادته فيأمر الراغب في الزواج باختيار الأم الصالحة لأولاده «اختاروا لنطفكم» (حديث شريف). ثم يتابع هذه الرعاية طوال مدة الحمل وحالة الوضع والرضاعة وأيام الصغر وأدوار التربية. ونجد مئات من الأحكام في هذه الحقول معتمدة على مبدأ تكريم الإنسان.
ويبدو للبعض أن الإسلام في قرآنه وحديثه في بعض الأحيان يحاول التخفيف من قيمة الإنسان فنجد في القرآن مثلًا آيات كثيرة تؤكد أن أصل الإنسان من تراب أو طين أو ماء مهين، أو من نطفة أو«مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ» [الطارق، 6 ـ 7] ونقرأ في الحديث أن مبدأ الإنسان أمر حقير ونهاية الإنسان وما بعد موته لا يشرفه وأمثال ذلك من التعابير.
ولكن الحقيقة أن الإسلام يحاول أن يصون الإنسان من الغرور والانحراف وخاصة في حالات الانتصار «كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى» [العلق، 6 ـ 7]. يفتتن كثيرًا بأمواله وأولاده ومجده فيقع في خطر نفساني مهلك.
ولعلاج هذا المرض يحاول الإسلام إعطاءه نصائح بألفاظ وتعابير مختلفة يبين له فيها أن تكريم الله للإنسان وجعله موجودًا سويًا فاضلًا ليس إلا من إرادة الله، في خلق هذا الموجود من أشياء لا تختلف عن بقية الخلق. فالكرامة أمانة من الله وإعارة منه للإنسان، فلا يحق له أن يغتر بها، فجميع ما يملكه الإنسان هو أمانة الله بيده وعليه أن يؤدي الأمانة بصدق وإخلاص «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» [الحديد، 7].


المصدر: مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات

* أُلقيت في الجامعة الأميركية بتاريخ 8/2/1967.
الأربعاء, 08 شباط  1967

التعليقات (0)

اترك تعليق