عاشوراء: نصرة زينب في أهدافها
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك عليك مني سلام الله أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتك. السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
نحن اليوم في عصر يوم عاشوراء وفي آخر هذه الذكريات المباركة، هذه الذكريات التي نعلّق آمالًا كبيرة عليها، نرجو أن نخرج من هذه الذكريات بفوائد جمّة. نحن نريد من هذه الأيام أن نخرج حسينيين ومساندين لـ زينب(س) وهذه فرصتنا الأخيرة، ولكن الذي يؤكد لنا الأمل ويزيد لنا أملنا بالوصول إلى هذه الأماني، أننا في هذا اليوم يوم الجمعة وعصر يوم الجمعة ساعة استجابة الدعوات. فاطمة الزهراء(س) في هذه الساعة، التي هي الساعة الأخيرة من يوم الجمعة، كانت تصرف جميع وقتها بالدعاء، وكانت تنتظر أن تدرك الساعة الأخيرة من يوم الجمعة قبل غروب الشمس. فهذه الساعة، أولًا، ساعة استجابة الدعاء من يوم الجمعة، وثانيًا آخر ساعات ذكريات الحسين وزينب. ولا نحتاج إلى كثير من العناية، بل مجرد التفكر في وضع هذه الساعة من ساعات الحسين وساعات زينب يقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، ويثير مشاعرنا ويجعلنا نحاول إصلاح شأننا والسعي في نصرة الحسين وزينب(ع).
نحن نعرف أن بعد ظهر يوم الجمعة قُتِل الحسين(ع)، وبعد قتل الحسين قلنا أننا نتمكن من أن نتصور كيفية معاملة هؤلاء الجنود لعائلة الحسين. قبل أن يُقتل الإمام(ع) هجمت كتائب من جيش يزيد على حرم الإمام الحسين، فناداهم وهو على الأرض قال لهم: يا شيعة آل أبي سفيان، إني أقاتلكم وتقاتلونني وليس للنساء جناح... ثم أكد عليهم بأن يتركوا التهجم لحرم الإمام الحسين ما دام حيًا، فرجعوا وحاولوا الإسراع في قتل الحسين(ع).
وبعد أن قُتِل الحسين وصلوا إلى أهدافهم... عشرات الألوف من الناس، من عسلان الفلوات، من الأشخاص الذين ليس لهم ذمة ولا عهد ولا نُبل، حاولوا أن يتهجموا على هؤلاء وعلى هذه الخيام طمعًا في المال... يعني كانوا يفكرون أنهم يجدون في هذه الخيام قطعة من الذهب أو قطعة من الفراش أو قطعة من الملابس، لأنهم جاءوا لقتل الحسين وأخذوا كفًا من التمر.
هجموا على الخيام!! لا شك أن هجوم هؤلاء على الخيام أدّى إلى فرار أولاد الحسين(ع) والنساء، نساء أصحاب الحسين"...تفرقوا إلى الصحراء وتفرقوا في كل مكان، كيف تفرقوا وأين ذهبوا؟ قلت لكم في السنة الماضية قصة لا أستغني عن نقلها في هذه السنة، حتى نرى أين ذهب هؤلاء الأولاد وكيف تفرقوا فلنسمع هذه الحكاية.
أحد كتّاب المقاتل ينقل فيقول: عصر يوم عاشوراء، وجدت ابنة صغيرة من بنات الحسين تركض وذيلها محروق بالنار... والنار مشتعلة في ذيلها. (أرجو أن لا تبكوا بصوت عالٍ، الذي يريد أن يبكي يتمكن أن يبكي بصوت منخفض) بعد ذلك دنوت منها حتى أطفئ النار، فهربت مني فكَّرتْ أني أيضًا من الأشخاص الذين جاءوا لأجل السيطرة وأخذ الملابس أو شيء من هذا النوع؛ فركضتْ حتى أخذتها فبمجرد ما أخذتها قالت لي: يا فلان! هل قرأت القرآن؟ قلت: نعم. قالت: هل قرأت هذه الآية: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ» [الضحى، 9]. قلت: نعم. قالت: والله أنا يتيمة الحسين. عند ذلك أنا سكتت وقلت لها: يا سيدتي أنا لا أقصد بك السوء، وإنما أريد إطفاء هذا الحريق الذي يؤدي إلى إشعال النار في جسدك. بعدما ارتاحت من هذا الحريق سألتني وقالت لي: يا فلان، أنت لنا أو علينا؟ قلت لها: أنا لا لكم ولا عليكم، رجل ناظر، (مراقب، صحفي). قالت: أريد أن أسألك سؤالًا. قلت لها: قولي. قالت: أين النجف؟ أين الكوفة؟ قلت لها: وماذا تريدين من النجف أو الكوفة؟ قالت: إن عمتي زينب(ع) قالت لي أنّ لنا في النجف مقامًا، هذا المقام يلوذ به المشردون ويلجأ إليه اللاجئون، وأنا أريد أن ألجأ إليه وأشكو مما أعاني من مصائب وظلم هؤلاء. فقلت لها: يا ابنتي إن النجف أو الكوفة بعيدة عن كربلاء (70 أو 80 كيلومتر) لا يمكن لك أن تذهبي إلى هناك بسهولة.
وعلى هذا الأساس حاولت أن أنقل لكم هذه القصة حتى تعرفوا عقلية الطفل، [...] أنها تتمكن من اللجوء إلى النجف حينما يتهجم عليها الجيش تهرب، إلى أين تهرب؟ كيلومتر أكثر أقل بمقدار النَفَس، لأن العدد كان كبيرًا... عشرات الألوف من الناس كانوا يتهجمون على هذا المخيم، فالأطفال كانوا يهربون.
نقلتُ هذه النقطة حتى نصل إلى مسؤولية زينب(س)، وأنّه بعدما صار الليل هي الوحيدة المسؤولة التي عليها أن تجمع هؤلاء الأولاد وهؤلاء الأطفال وتعطيهم غذاءً أو تلبسهم أو تعطيهم الماء وأمثال ذلك. ولهذا بعدما تفرق الجيش، وبعدما استمرّ الأمر، زينب (س) حاولت أن تجمع هؤلاء، عشرات من النساء وعشرات من الأولاد، جمعتهم وقامت بواجبها تجاههم.
صباحًا بدأت الجماعة، جيش عمر بن سعد بدأ بدفن قتلاه... طبعًا كان له قتلى بكثرة لأن أصحاب الحسين ما قُتِلوا بلا تعويض و(بلاش) -حسب تعبيرنا- كل واحد منهم قام بقتل أكثر من نفس وبالانتقام وبالفعل أكثر من نفس، فكان عدد القتلى عندهم كثير، دفنوا قتلاهم بعد أن صلوا على أجسادهم ثم تركوا جسد الحسين(ع) وأجساد آل البيت وأصحاب الحسين(ع) في الصحراء، وحاولوا أن يرجعوا إلى الكوفة. الرؤوس الطاهرة أُرسلت في هذا الوقت يعني عصر يوم عاشوراء، حاولوا أن يأخذوا آل بيت الرسول وحملوهم بوسائل مختلفة حتى يأخذوهم سبايا ويقدموهم إلى ابن زياد.
في هذا الوقت طلبوا أن يأخذوا آل البيت؛ النساء والأولاد حتى يزوروا مصارع آبائهم. في الحقيقة أنا كلما أحاول أن أتصور السبب لأخذ هؤلاء النساء والأولاد إلى مقاتل أهلهم وآبائهم، لا أفهم إلا التشفي والحقد الموجود في نفوس عمر بن سعد وجماعته، لأنهم من يأخذون؟! أولاداً صغاراً أو نساءً إلى أجسادِ أولادهم، آبائهم، إخوتهم، والأجساد ليست عادية... أجساد مقطعة في الحرب: كثير من الأجساد ليس لها رؤوس، كثيرٌ من الأجساد ليس لها أيادٍ، كثيرٌ من الأجساد ممزّق، ومع ذلك أخذوا هؤلاء الأولاد حتى يتفرّجوا على أجساد أعزائهم، فجاءوا...
ماذا جرى؟ أذكر لكم محنة واحدة حتى تعرفوا ما المقصود من شهادة الحسين(ع) وكيف كان دور زينب(ع) في إنجاح هذه المهمة. لو كانت زينب(ع) امرأة عادية كانت تبكي وتنوح مثل الآخرين، ولكن زينب(ع) لا تريد أن تبكي، بالعكس تريد أن تكمل رسالة الحسين(ع).
رسالة الحسين(ع) كيف تُؤدّى؟ تُؤدّى بالعز وبالكرامة. الحسين(ع) لا يقبل أن أخته أو نساءه ينادون بالويل والثبور ويجزعون ويفزعون، بل بالعكس يريد منهم أن يكونوا أقوياء صامدين لا يشمت بهم عدوّهم. جاءت زينب(س) وجاء معها بقية النساء ولا شك أن بقية الأولاد كانوا وراء زينب(ع)، جاءوا... وصلوا إلى الأجساد الطاهرة، إلى المقتل، حينئذ زينب(س) دنت من الجسد الحسيني، الجسد الطاهر، ونحن نعلم أنّ عشرات بل مئات من الناس اشتركوا في قتل الحسين(ع)، فلا شك أن الجسد كان مقطعًا، وأن الجسد كان مغطى بكثير من السهام والسيوف والحجارة وأمثال ذلك... أخت الحسين(ع)، زينب(ع)، وصلت إلى هذا الجسد الطاهر وأمام أعين الشامتين والأعداء والأشخاص جميعًا رفعت جسد الحسين(س) إلى السماء وقالت: "اللهم تقبل منّا هذا القربان".
أرجو الانتباه إلى معنى هذه الكلمة: "اللهم تقبل منّا"، من هو "منّا" الذي يطلب من الله يتقبل منه هذا القربان؟ يعني آل البيت. زينب(س) تقصد أن تقول نحن قدمنا الحسين(ع) قربانًا على مذبح الحرية لكي نحافظ على الدين، ونحافظ على كرامة الناس. ليس أمرًا مفروضًا علينا قتل"الحسين(ع)، وليس مفروضًا علينا الاستشهاد. بل الاستشهاد كان أمرًا لا بدّ منه ونحن عرضنا ذلك. ولهذا حفظت زينب(ع) في هذا الموقف رسالة الحسين(ع) في هذه الواقعة، حتى أنّ جميع الناس، جميع الأعداء شعروا أن زينب(س) بكل قوة وبكل اعتزاز مستمرة في أداء الرسالة لا تريد أن تضعف، لا تريد أن تعترف بالعجز والاستسلام هي أيضًا مستمرة في الموقف الحسيني الذي يقول: "لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد".
وهكذا انتقل آل بيت الرسول إلى الكوفة. هذا الموقف الأول من مواقف زينب(ع) ولا شك أنّ في الطريق كان لها مواقف مشابهة لهذا. أنتقل إلى الموقف الثاني موقفها مع ابن زياد وفي الكوفة حينما دخلوا في الكوفة، لا شك أن أهل الكوفة احتفلوا وحاولوا أن يستقبلوهم بفرح وبسرور. ولكن سرعان ما عرفوهم لأن زينب(ع) كما تعرفون بنت علي(ع)، وعلي بن أبي طالب(ع) أمير المؤمنين كانت عاصمته الكوفة. حكم في الكوفة مدة خمس سنوات، علي بن أبي طالب(ع) كان يحكم العالم الإسلامي الواسع من الكوفة، وفي دار الإمارة في الكوفة، وزوجة أمير المؤمنين(س)، فاطمة الزهراء(ع) كانت متوفية؛ فإذًا، بإمكاننا أن نقول كانت تقوم بدور سيدة البيت زينب(س)، نساء الكوفة ما كنّ يعرفن غير زينب(س)، وهكذا جميع أهل الكوفة.
فزينب(س) تدخل في عاصمتها، في ملكها، في حكمها، في مقر خلافة والدها... طبعًا يعرف الناس زينب(ع) ولكن بأي حال تدخل بحالة السبي. ولكن الجماعة أعداء زينب(ع) أقل من أن يتمكنوا من أن يفرضوا الذل على زينب(ع). صحيح أن زينب(ع) أسيرة وجالسة على الجمل وفي حالة قتل واستشهاد إخوتها، ولكن قوة إيمانها تبعد زينب(ع) عن كل هذه المسائل وهي في حالة الأسر تشعر كأنها في حالة الغلبة، وكأنها في حالة القوة.
حينما تلتقي بأهل الكوفة تبدأ بالحديث، أهل الكوفة يسمعون صوت زينب(ع)، يعرفون صوت زينب(ع)، أو على حد تعبير بعض المؤرخين كانوا يسمعون صوت علي بن أبي طالب(ع) كأنها تُفرغ عن فم علي(س)، صوتها كان شبيهًا بصوت أمير المؤمنين، هذا الصوت الذي كان يدوي في مسامع الناس، لا يزال في الكوفة. عند ذلك بدأ الناس يبكون ويحزنون، فزينب(س) أنّبتهم وقالت لهم: فليبكوا كثيرًا وليضحكوا قليلًا، لماذا تبكون؟ ماذا ينفعكم البكاء؟ أتدرون أي دم لرسول لله أرقتم! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم! أنتم قتلتم ابن بنت رسول الله وتبكون بهذه السهولة؟! البكاء ليس علاجًا للمصيبة، لأنكم شاركتم في قتل الحسين(ع). الذين جاءوا إلى قتل الحسين كانوا رجالكم، أنتم شجعتموهم، أنتم أيها الرجال الذين اشتركتم في قتل الحسين(ع). فالبكاء لا ينفي الموجود. زينب(ع) بهذه الوسيلة تمهّد للثورة، تمهّد للحركة، تمهّد لتغيير الوضع، تحاول أن تؤنب هذه الضمائر النائمة، الضمائر المائعة وتحاول أن توقظ هذه الضمائر، لا تريد أن تستشفي منهم بل تريد أن تعلمهم المسؤولية.
في هذا الوقت انتقلوا إلى قصر ابن زياد، دخلت زينب(س) إلى قصر ابن زياد في الكوفة وما سلّمت طبعًا. حسب العادة ما سلّمت على قاتل أخيها وأولادها وجلست في زاوية من القصر. ابن زياد قال: من هذه المتكبرة؟
قالوا: هذه زينب بنت علي(ع).
قال لها: يا زينب(ع) كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ -يشمت بزينب- كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلًا، هؤلاء رجال كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم.
بعد ذلك قال: الحمد لله الذي فضحكم وكذّب أحدوثتكم.
قالت زينب(س): إنما يُفتضح الفاجر ويُكذَّب المنافق وهو غيرنا، إن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة.
بعد ذلك جرت أحاديث كثيرة بين زينب(ع) وبين ابن زياد، وغضب ابن زياد وحاول قتل علي بن الحسين(ع) فمنعته زينب(س)، حاول قتل زينب(ع) وما توفق في ذلك نتيجة لوجود الرأي العام. فزينب(س) أدت دورها في الكوفة يعني حينما خرج آل بيت الرسول والأسرى والسبايا من الكوفة تعبّأ جو الكوفة. هذه الكوفة التي كانت عاصمة لقتل الحسين(س) تحولت إلى مكان آخر. هذه الكوفة بعد فترة وجيزة يخرج منها جماعة باسم التوابين، أربعة آلاف شخص فيستميتون في سبيل الأخذ بثأر الحسين ويُقتلون كلهم. هذه الكوفة بعد فترة وجيزة يخرج منها المختار ابن أبي عبيدة الثقفي فيشترك في قتل أكثر من اشترك في قتل الإمام الحسين (س). كل هذا كان نتيجة لمواقف زينب(ع) ولتصرفات زينب(ع).
انتقل هذا الموقف من الكوفة إلى الشام، كما قلت لكم هذا الموقف انتقال وتحرُّك الموقف كان من الكوفة إلى الموصل، ومن الموصل إلى نسيبين، ومن نسيبين إلى حمص وحماه وحلب وبعلبك ثم وصلوا إلى الشام. سبب اختيار هذا الطريق أنه في السابق ما كانوا يتمكنون من المرور في الصحراء، كما تعلمون بين العراق وبين الشام صحراء واسعة... الوسائل الموجودة سابقًا ما كانت تمكِّنهم أن يعبروا الصحراء لأنه ليس هناك وسائل العيش في داخل الصحراء، فكانوا يضطرون أن يطوفوا حول الصحراء: الموصل بشمال العراق، نسيبين بتركيا في هذا الوقت، حماه وحمص بشمال سوريا حتى وصلوا إلى الشام في هذه المنطقة.
هذا جانب، والجانب الآخر أن يزيد وجهاز يزيد كانوا يريدون أن يطوفوا بآل البيت إلى أقطار العالم الإسلامي، حتى يرعبوا ويخوِّفوا الناس ويبيّنوا لهم أن الخليفة يقتل ويفتك حتى يستسلموا ولا يستعلموا حركات الثورة. وهذا أدى إلى العكس تمامًا، لأنه في كل بلد كانوا يصلون كانوا يستقبلوهم بمظاهر الزينة والفرح والاستقبال والسرور، ولكن بعدما يسألون عن السبب وعن النسب وعن الأوضاع، وكانوا يطلعون على الموضوع كانوا يبكون ويندبون ويتوبون. وفي كثير من هذه المدن أقاموا مساجد باسم مساجد رأس الحسين(ع) في المكان الذي وضع فيه رأس الحسين(س)، وإلا هو رأس الحسين(ع) ما كان موجودًا في هذه المناطق. لكن ترون بحلب مثلًا أو بحماه أو بنسيبين أو بالموصل مساجد باسم مساجد رأس الحسين(ع) هذه أماكن وضع فيها رأس الحسين(ع). في الشام أيضًا، الذي يزور الجامع الأموي الكبير يصل إلى مكان في شرقي المسجد هناك مكان باسم مكان رأس الحسين(ع)، رأس الحسين ليس مدفونًا هناك، وإنما رأس الحسين(س) وُضِع هناك لأنه كان قريبًا من قصر الخلافة.
وصلوا إلى الشام، وتحدثوا في السوق بنفس الطريقة، والناس بدأت تتحرك [...] بعد مدة بنفس الطريقة حتى دخلت زينب(س) على يزيد. حينما دخلت على يزيد، يزيد طبعًا معلن للتعبئة العامة والاستقبال العام، يحتفل بهذا اليوم، يعتبره يوم النصر الكبير المبين له، يستقبل الناس... هناك ممثلين أجانب، وهناك ممثلين من مختلف المناطق. يزيد جالس ورأس الحسين(ع) أمامه، دخل آل البيت، ودخلت زينب(س)، ودخل علي بن الحسين، ودخلت هؤلاء النساء. طبعًا نحن نتصور أن الأمر صعب جدًا، ولكن سلام الله على الحسين(ع)، إنّ أولاده ونساءه مثله في القوة والعزم والجِد، لا يبالون بما يحصل معهم من المشاكل والصعوبات.
زينب(س) تنتبه وتنظر أو تُلفت نظرها بعض بنات الحسين(ع) أن يزيد، بقضيب من الخيزران، يضرب ثنايا الحسين(ع) الموجود أمامه، ويستشهد ببعض الأبيات التي صدرت من بعض الشعراء الملحدين، فبدأ يزيد يكشف عن واقع عنصريته عند انتصاره فيقرأ هذه الأبيات:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسلْ
لأهلّوا واستهلّوا فرحًـا ولقـالوا يا يزيد لا تشـــلْ
وهكذا إلى آخر الأبيات، يقول في آخر البيت:
لعبت هاشم بالمـلك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
يقول كل ما جرى في سابق الأيام منذ خرج رسول الله ومن مجيء محمد(ص) كلها لعبة، المقصود من هذه اللعبة أن يحكموا ويسيطروا على الناس، وتمكنوا من ذلك. ثم نحن جئنا ولعبنا وأخذنا الحكم منهم وانتقمنا منهم. هؤلاء الذين قتلناهم أخذنا بثارات بدر حيث قُتل جدُّ يزيد وعمُّ يزيد وابن عم يزيد في الحرب، أخذنا بالثأر وهذا نتيجة الثأر. يعني الإسلام ليس له حساب في منطق يزيد، طبعًا لو كان للإسلام أقل حساب في منطق يزيد ما كان يتصرف هذه التصرفات.
هذا المنظر كان ثقيلًا جدًا على زينب(س) وعلى الآخرين، الجو مهيّأ والجماعات الكثيرة مستعدة وكلهم يريدون من الأشخاص الخواص الموجودين في قصر يزيد أن يعرفوا حقيقة هذا الأمر؛ أبناء الشارع سمعوا حينما مرت زينب(ع) عليهم أو مرّ علي بن الحسين عليهم سمعوا بعض الشيء، لكن هؤلاء في قصر الخليفة -خليفة المسلمين الذي يحكم نصف الكرة الأرضية في وقتها- أمثال كثير من السفراء والممثلين الموجودين عنده وكلهم مستعدين أن يعرفوا حقيقة هذا الموضوع، في هذا الوقت زينب (س) تتحدث. حديث زينب(ع)، حينما ننتبه إلى أنه حديث شخص أسير ومتعب لأنه تحرّك من كربلاء إلى الشام هذه المنازل الطويلة والرحلة الطويلة بحاجة إلى جَلد وبحاجة إلى صبر، لأن وسائل السفر في سابق الزمن ما كانت ميسورة مثل اليوم... فإذًا علينا أن نتصور أن زينب(ع) مرهقة أياماً وأشهر ما نامت نوماً جيداً، ولا ارتاحت، ثم فهي مصابة بمصائب كثيرة، ثم أمامها مسؤوليات؛ فلا تزال مسؤولة عن سلامة حياة علي بن الحسين زين العابدين وأولاد الحسين (س) وزائدًا على ذلك كله، يقابلها ملك مغرور منتصر تقف زينب(ع)، مع هذا تتحدث.
أقرأ لكم بعض فقرات من خطبة زينب(س) في هذا الوقت حتى نفهم مقدار عظمة زينب أولًا، وأداء زينب(ع) للرسالة ثانيًا وثالثًا حتى نعرف ما هو واجبنا تجاه هذه التضحية الكبرى.
في أول الأمر تقول: الحمد لله رب العالمين، زينب تقول(س) في هذا الوقت: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله كذلك يقول: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون» [الروم، 10] هذه الآية واردة عند الأشخاص الذين يحاولون أن يرتكبوا المعاصي ويقولون نحن علينا أن يكون قلبُنا مؤمن بالله، أما المعصية فلا أثَرَ لها، هذا المنطق منطق شايع مع الأسف بيننا في هذا اليوم. يقولون الإيمان بالقلب، أما العمل فالإنسان حر في التصرف، كيفما يريد يتكلم، كيفما يريد يعمل، كيفما يريد يلبس، كيفما يريد يتحدث، هذا الإنسان حر في هذا الشيء أما الإيمان يكون في قلب الإنسان. هذا هو المنطق الخطأ، لأن القرآن يؤكد أن الشخص الذي يرتكب المعاصي... ارتكاب المعصية بالتدريج يؤدي إلى إنكار الله والكفر بالله والاستهزاء بالله «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله» [الروم، 10]. الذي يرتكب المعصية ويعمل أعمالاً غير صالحة أخيرًا يصل إلى التكذيب بآيات الله. طريق الفساد وطريق الانحراف لا حد لهما أيتها الأخوات! لا تفكرْنَ أنه في اليوم الأول، الإنسان ينحرف انحرافاً صغيرًا وغدًا يرجع. كلما استمرّ الإنسان في الانحراف تزداد خطورة الأمر والصعوبة في التوقف. الإنسان في المعصية تمامًا مثل السيارة التي تنزل من المكان العالي، في أول ساعة بسهولة يمكن للإنسان أن يوقف السيارة، لكن إذا السيارة بدأت تدور وتتحرك، كلما استمرت السيارة في الحركة يصبح إيقاف السيارة أصعب. إذا تراجعنا عن المعصية اليوم وتوجهنا إلى الله فذلك أسهل مما إذا رجعنا إلى الله غدًا؛ إذا كنت في حالة الشباب بإمكانك أن ترجع بسهولة أكثر مما إذا كنت كهلًا، الرجوع إلى الله في حالة الشباب أسهل. زينب (س) تبين ليزيد بأنه أنت الذي وصلت إلى هذه الدرجة وتقول:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
هذا نتيجة طبيعية للفسق والفجور لأن يزيد ما كان ملتزمًا بالمبادئ الشرعية في عمله؛ كان يشرب الخمور، كان يلعب، كان -كما ذكرت لكم- لا يحترم أعراض الناس، وعلى هذا الأساس يزيد كان فاسقًا ونتيجة فسقه أدّى به إلى هذه النتائج. وكل من كان منحرفًا إذا استمر في انحرافه لا بد وأن يصل يومًا ما إلى هذا المكان. فنحن، كل واحد منا، ولا يخلو أحدنا من النقص، من المعاصي، من الأخطاء، كلما تداركنا هذه الأخطاء في وقت مبكر يكون أفضل. ثم تقول -أي زينب- (س) تقول: "أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء"، أنت أخذت علينا أقطار الأرض يعني أخذتنا من كل جانب يعني ما تمكنا أن نذهب إلى مكان ما، "أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسرى"، قالت زينب(ع): يا يزيد تفكر أنه أنت انتصرت علينا وأخذتنا بهذا الشكل، وأصبحنا نحن أسرى، تفكر "أن بنا هوانًا على الله وبك عليه كرامة"! تفكر أن هذا مقام لك! يعني نحن صرنا أسرى، أسرنا ليس ذلًا ولا نقصًا وانتصارك ليس كرامة من الله عليك، "وأن ذلك لعظم خطرك عند الله، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسرورًا".
زينب (س) تصف حالة يزيد المنتصر المتكبر... الإنسان المتكبر ينظر بعنقه هنا وهنا ويصفي نفسه ويصفي صدره ويحرك رقبته، له حركات. الإنسان المغرور تصفه زينب(س) وتقول: أنت فرح أنك انتصرت علينا حيث "رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا"، في هذا الوقت تشعر أنت بالقوة والفخر والغلبة، "مهلًا مهلًا أنسيت قول الله تعالى: «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ * إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ» [آل عمران، 178]، تقول: ما رأيت من الله ابتلاء من الله، لأن الله سبحانه وتعالى ما جعل الانتصار للخيّرين فحسب، كل من اشتغل، وكل من حارب وكل من سعى واستلم وسلك الأسباب المعينة يصل للنتائج. الله سبحانه وتعالى ما تعهد، يجب أن ننتبه لهذه النقطة لأن الله سبحانه وتعالى ما التزم بأن ينصر فورًا كل إنسان يكون في سبيل الخير، لا تفكري يا أختي أنك بمجرد أن تصلي لله سبحانه وتعالى يحلّ مشاكلك، أو بمجرد أن تكوني جيدة في حياتك أو في صيامك فورًا فإنّ مشاكلك تُحل والله سبحانه وتعالى يساعدك، أو إذا عملت بشيء من الدين فإنّ الله سبحانه وتعالى يؤدي قروضك أو يعطيك مالًا، لا هذه المسألة غير واردة.
الخير الحقيقي ليس بالمال، الخير الحقيقي ليس في هذه الدنيا. ربما يكون الإنسان في هذه الدنيا غير متمكن وغير مرتاح، المرأة بإمكانها أن لا تكون مرتاحة في هذه الدنيا ولكن يكون لها أجرٌ عظيم في الآخرة، فمن الذي يقول أن الإنسان إذا سلك سبيل الخير فورًا يأخذ مالًا وتعويضًا؟! لو كان الأمر هكذا ما كان للدين قيمة، أليس كذلك؟ لو افترضنا أن كل من صلى لله يعطيه مالًا، وكل من ترك الصلاة الله لا يعطيه مالًا، كلُّ الناس كانوا ليصلّون... بدليل أن الصلاة ما لها قيمة. لو كان كل من يكذب وينافق يضربه الله فورًا، الناس ما كانوا ليتجرأون أن يعملوا شرًا، كل الناس كانوا جيدين حينئذ، ولكن «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» [الأنفال، 42]. الإنسان الخيِّر لا يجب أن ينتظر المال والاحترام والجاه، ربما الإنسان، في سبيل الخير، يعاني صعوبات يعاني مشاكل، لكن كل الدنيا... ما قيمة الدنيا إذا أعطونا كل الدنيا وأخذوا منا ثواب الآخرة، وأخذوا منا الكمال النفسي والراحة الروحية ما قيمتها؟!
زينب(س) كم لها من مقام عند الله والحسين له مقام عند الله، ومع ذلك كله عانوا ما عانوا من المشاكل لماذا؟ لأنه ليس تأسيس العالم... ليس أساس هذا العالم أن الإنسان الذي يعمل الخير فورًا يعطيه الله الأجر، لا... الإنسان الذي يعمل الخير يشعر براحة الضمير، يشعر بالراحة في المستقبل ربما في المستقبل البعيد في الدنيا يرتاح وله الجزاء الأوفى عند الله. أما إذا تنتظر... أنت مديون، أنت تعِب، أنت عندك مشاكل دعنا نصلي قليلًا وفورًا... لا ليس معقولًا! لا تنتظر أنه إذا صليت فورًا يكون لك أجر وتملّك المال وتؤدّى ديونك ومُجمل مشاكلك تحل. لا. نعم! لا شك أنّ الدعاء مستجاب في حالات معينة، وفي شروط معينة، وفي ظروف معينة. زينب(س) تذكر يزيد بهذه القاعدة وتقول لجميع العالم، للذين كانوا في زمانها وللذين جاءوا بعد ذلك إلى آخر الزمن تقول لهم بصوت عالٍ: أيها الناس «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ» [آل عمران، 178]، إذا نحن ندفع أموال وجاه وانتصارات للذين كفروا هذا ليس خير لهم «إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ» [آل عمران، 178]، اختبار وامتحان لهم.
ثم تقول زينب(ع): "أمن العدل يا ابن الطلقاء"، يا ابن الطلقاء يعني ابن طليق، طليق من هو الطليق؟ الذي أعتقه شخص. سابقًا كما تعلمون كان هناك عبيد وإماء، فالذي يشتري هذا العبد ويطلقه ويعتقه يصير له فضل على هذا الشخص. زينب(س) تقول ليزيد: أيها الخليفة، أيها الملك المنتصر، أيها الذي تغلبت علينا وصارت الأمور لك متسقة ومستوسقة، نحن إذا أردنا الحقيقة أنت ابن الطلقاء. ماذا يعني ابن الطلقاء، حينما دخل النبي (ص) إلى مكة انتصر، حينما انتصر في مكة، في النظام العربي القديم كان يحق له أن يأخذ الناس عبيد وإماء، ودخل عليهم في مكة وقال لهم في اجتماع عام: ماذا رأيتموني أعمل بكم؟ قالوا: يا رسول الله أنت أخ كريم وابن أخ كريم. قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. زينب(ع) تشير إلى هذه القصة لأنه أنت لو كان جدي أراد لكان يسترقّ جدك وأباك وكنت أنت عبدًا صغيرًا، أنا أنظر إليك بهذا المنظار وإن كنت على كرسي الملك والخلافة.
ثم تقول: "أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرُك حرائرك وإماءك"، حرائرك يعني نساءك وأخواتك وإماءك حتى إماءك حتى عبيدك خدّرتهم ووضعتهم في الحرم "وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورَهن وأبدَيت وجوهَهُنّ تَحْدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ويتصفح وجوهَهن القريب والبعيد والدني والشريف ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي، وكيف ترتجى؟" ثم ترجع زينب (س) تزيد على هذا الموقف، تقول: "وكيف يرتجى؟" أنا لا أنتظر منك هذا العدل لأنك لست موضع الرجاء "وكيف ترتجى مراقبةَ من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء"، تشير زينب(ع) إلى واقعة أحد حينما قتلت هند الملقبة بآكالة الأكباد حمزة وأخرجت من بطن حمزة كبده وبعض عروقه ووضعتها في فمها –وهي أم معاوية والد يزيد-. تقول زينب(ع): أنت إبن فلانة التي "لفظ فوهها أكباد الأزكياء ونبت لحمها من دماء الشهداء وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحًا ثم قالوا يا يزيد لا تُشل".
ثم بعد ذلك كله، تقول: "فوالله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك"، أنت تحفر قبرك وقبر بني أمية بيدك بهذه الوسيلة، لأن قتل الحسين(ع) سوف يكون غاليًا عليك وعلى جماعتك كما كان بالفعل. "فوالله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك ولتردنّ على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم ويأخذ بحقهم «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» [آل عمران، 169] وحسبك بالله حاكمًا وبمحمد خصيمًا وبجبريل ظهيرًا وسيعلم من سوّل لك ومكنك من رقاب المسلمين بئسَ للظالمين بدلًا «فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً» [مريم، 75].
ثم تقول هذه الكلمة الغريبة، تقول زينب(ع) ليزيد: "ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتَك"، الداهية يعني المصيبة، تقول أن المصائب الكبرى هي التي جرّتني إلى التكلم معك، "إني لأستصغرُ قدرَك"، أنا زينب(ع) الأسيرة تقول للملك المنتصر "أستصغرُ قدرَك"، يعني أعتبر قدرك صغيرًا "وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك"، إذا أريد أن أوبخك أعتبر أن هذا الشيء كثيرًا أن أوبخك أنت، ليس من شأني أن أوبخك وأن أقرّعك "لكن العيون عبرى والصدور حرّى ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء"، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفّرها أمهات الفراعل". يا يزيد أنت تعرف أن الأجساد التي تركتموها في كربلاء، هذه الأجساد الطاهرة أجساد آل بيت الرسول تركتموها في الصحراء هناك، العواصف والرياح تمر عليها كل يوم، "ولئن اتخذتنا مغنمًا لتجد بنا وشيكًا مغرمًا"، أنت تفكر أنك أخذتنا غنيمة، ولكن هذا صعب عليك وكثير عليك سوف تخسر في كل هذه الأعمال حين لا تجد إلا ما قدمت يداك «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ» [فصلت، 46] فإلى الله المشتكى وعليه المعول، فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا يرحض عنك عارها، وهل شأنك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين".
ثم تختم خطبتها بهذه الكلمة فتقول: "والحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحكم علينا الخلافة إنه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل".
وهكذا تنهي زينب(ع) خطبتها في هذا الموقف وتؤكد وتطلب من الله أن يحصّن لها الخلافة يعني زينب (س) ترى نفسها خليفة واستمرارًا لحياة الحسين (س). هذه زينب(ع)، وما قلنا عن زينب(ع) هو بعض حقيقة زينب(ع). زينب(ع) حينما كانت في المدينة، كل مدة كان أهل المدينة يثورون حتى اضطر بني أمية أن يبعدوا زينبًا(ع) إلى مصر أو إلى الشام حتى لا تكون موجودة في المدينة لأن وجودها كان يشكل ثورة دائمة وحركة دائمة لبني أمية وضدّ بني أمية. فإذًا، هذه المرأة أدت هذا الواجب وبلَّغت العالم ما جرى على الحسين(ع) وأتمّت رسالة الحسين(ع)، وبالفعل بعد حادثة مقتل الحسين(ع)، أول من ثار امرأةٌ من بني بكر بن وائل في جيش عمر بن سعد، ثارت وهكذا انتقلت الثورات في كل مكان في العالم حتى قضت على بني أمية. راحوا، أين قبورهم؟ أين آثارهم؟ أين أسمائهم؟ والحسين(ع) وآل بيت الحسين(ع) كل يوم في تقدم وكل يوم في مزيد.
نصرة الحسين (ع) وزينب (ع) في نصرة أهدافهما:
فإذًا، نحن في هذا الوقت في هذه الساعة المتأخرة من يوم عاشوراء ننظر ونتفرج على أحداث كربلاء؛ كيف جرت وكيف انتقلت ونرى أنفسنا أمام هذا المسرح، ما هو موقفنا نحن؟ ماذا نعمل نحن؟ نحن مكلفين أن نتفرج فقط أو لا، أرجو أن تجيبوني على هذا السؤال بأفكاركم، ما هو واجبنا؟ نحن نتفرج على واقعة كربلاء فقط نتفرج أو أكثر من التفرج علينا واجب؟! الحسين(ع) (س) يقول لعبيد الله بن الحر الجعفي: فوالله لا يسمع واعيتنا أحد فلم ينصرنا كبَّه الله في نار جهنم. كل شخص يسمع واعية الحسين(ع) ماذا يعني واعية الحسين(ع)؟ يعني صراخ الحسين(ع) ونداء الحسين(ع) حينما يقول: هل من ناصر ينصرني هل من ذاب يذب عن حرم الرسول؟!
فإذًا، الحسين(ع) يقول: الذي يسمع هل من ناصر ينصرني ولا ينصر هذا موقفه الدخول في النار. حسنًا، نحن نسمع صوت الحسين (ع) طبعًا لا تقولوا أنّ الحسين(ع) قتل وانتهى، الحسين(ع) قُتِل. لأجل أي شيء قُتِل؟ قُتِل لأجل الدين، قُتِل لأجل الحق ولأجل أهداف الحق. فإذًا، أهداف الحسين(ع) قائمة بيننا موجودة عندنا؛ الحسين(ع) لا يرضى أبدًا هذا الموقف العام منا في هذه المنطقة وفي هذه البلاد؛ الحسين(ع) يقبل أننا نقف أمام اليهود موقف الذل والهوان؟! الحسين(ع) يقبل أنّ أرض فلسطين والقدس تصبح ملعباً ومسرحاً ومركز التآمر والفساد لليهود؟! طبعًا لا يقبل. فإذًا، الحسين(ع) بشخص أهدافه يستصرخنا ويطلب منا النصرة، ما هو موقفنا؟
أحب أن أقول لكم أيتها النساء، أيتها السيدات واجبنا في المستقبل وواجبنا في الحال لا يقتصر على الرجال كما سمعتم زينب(ع) كانت مع الحسين(ع) في الصعوبات والمشاكل. أنتن عليكن أن تكن مع الرجال في الصعوبات والمشاكل. جرّبن حالكن إذا وجدتنّ أنفسكنّ أمام جرح أو أمام خطر أو أمام مشكلة... إذا وجدتن أنفسكن أمام هجوم أو أمام هدم أو أمام عدوان ما موقفكن وكيف سوف يكون؟ هل هو موقف الجبن والفرار والجزع والفزع أو موقف البطولة والصمود!
الحسين (س) يقول لزينب(ع): أنا لا أريد أن أسمع صوت البكاء في حياتي، أنا لا أريد حينما أحارب أعدائي أن أسمع نسائي يبكين ويندبن عليَّ... لا أريد ذلك لأن هذا نقص وضعف في مخيمي. كيف يرضى منا أن نكتفي بالبكاء ولا نقدم أي تضحية وأي جهاد في هذا الوقت؟! علينا أن نستعد أيتها الأخوات ربما تكنّ مقبلات على أحداث مثيرة وصعبة في المستقبل، ربما تتعرض بلادكن للعدوان، ربما نصبح في خطر... عليكن أن تستعدّين، عليكن أن تشعرن بالقوة، عليكن أن تعرفن أن الحياة في الذل لا قيمة لها على الإطلاق. الإنسان يموت أفضل من أن يعيش حياةً ذليلة، وإذا كان الإنسان لا يبالي بالموت يصبح أقوى الأقوياء ويصبح لا مثيل له في القوة. كلُّ عجزنا نحن يحصل نتيجةً لخوفنا من الموت. حينما نخاف من الموت نستسلم، نرضى بالذلّ، ولكن إذا كنا لا نخاف من الموت حينئذ من يتمكن أن يعمل معك شيئًا؟! تحدث كلامك، واحكِ قصتك، وطالب بحقك، وقف موقفك من دون خوف أبدًا. لماذا من دون خوف لأنه ماذا يريدون أن يعملوا معك؟ ماذا يتمكنون أن يأخذوا منك؟ لا شيء.
فإذًا، علينا أن نستعدّ... نحن في المستقبل، وفي الماضي، وفي الحاضر لا يمكن أن لا يكون للنساء واجبات، ولا يمكن أن نتمكن من أداء هذه الواجبات إذا لم شاركت النساء في أداء هذه الواجبات. المطلوب منكن أيتها الأخوات، على الصعيد العام، غير موضوع التأييد، والمواقف بالنسبة للمواقف العامة عليكن أن تستعدين. في هذا الوقت وفي هذه المواقف علينا أن نستعد استعدادًا نفسيًا، استعدادًا روحيًا، نستمع إلى التعليمات التي تصدر بالنسبة إلينا، ومواقفنا، علينا أن نقف مواقف صامدة ومواقف قوية. في هذه المواقف لا يمكن غير ذلك... إذا أردتنّ بمجرد ما يرتفع صوت بارودة أو يطلق رصاصة أو تلقى قنبلة، كلُّ الناس يصرخون وينادون بالويل ويهربون، هذا لا يمكن. لسنا من [...] زينب(ع)...
أنتن عليكنّ -اسمعنَ يا أخوات- دائمًا أن تضعن زينبًا (ع) أمام أعينكن. هي سيدتكنّ وهي قائدتكنّ وهي نموذج حياتكنّ، وهي التي تعلمكنّ الحقّ. الذي يقول لكم أنّ الإسلام هو بالانعزال، والتهرب، هذا غير صحيح، الإسلام الصحيح يتمثل في زينب(ع). ترى زينب(ع)... في قصر دار الإمارة زينب(ع)، أمام يزيد زينب(ع)، في الحرب زينب(ع)، هذه هي المرأة المؤمنة، هي المرأة المسلمة، [...] تعطيها من الإيمان وقوة الإيمان، وباب الإيمان مفتوح أمامكن. كل واحدة منكن تتمكن أن تكون مؤمنة صالحة، ولكن متى نتمكن أن نكون مؤمنين؟ حينما نترك الصغائر، حينما نترك أوقاتنا بالفعل في سبيل تقوية إيماننا.
الآن نحن، خلال 24 ساعة، ماذا نعمل؟ هل لاحظتم منهاجنا اليومي، كيف نصرف هذا المنهاج؟ في أي شيء نصرف هذا المنهاج؟ كم ساعة نصرف لبطوننا، لأنفسنا، في حياتنا الخاصة؟ وكم ساعة نصرف في سبيل تقوية إيماننا؟ هذه المشكلة. نحن علينا أن نستعد، زينب(ع) أمامنا، الحسين(ع) أمامنا، علينا أن ننصرهما، أن ننصر زينب(ع) والحسين(ع) في أهدافهما. في آخر ساعة من هذا اليوم وفي اللحظة الأخيرة سوف نترك هذا الاجتماع، ماذا عملنا أيتها الأخوات؟ عشرة أيام احتفلنا، فرصة سنحت لنا وربما لا ندركها في السنة القادمة، هل فكرتم كيف تنصرون الحسين(ع)؟ أقصد غير البكاء، كثير من الناس بكوا على الحسين(ع) وما نصروه. ابن سعد(ع) أول من بكى على الحسين(ع) وما نصر الحسين(ع). انتبهوا البكاء في النادي لا يكفي، يجب أن تنصروا الحسين(ع) ماذا هيّأتم لنصرة الحسين(ع)؟ أنا أقترح عليكم شيئًا، ما دام الحسين(ع) قُتِل لأجل نصرة الدين والدين هو بيننا وفي أيدينا وتعاليم الدين موجودة أمامنا، كل واحد منا من الصغير والكبير يتمكن من نصرة الحسين(ع) وزينب(ع) في تحقيق هدف ديني: إذا أحد ما لا يصلي، فصلّى إكراماً للحسين (ع)"وإكراماً لزينب(ع)، أنا أتعهد له بأنه سيسجل في سجل المنتصرين والناصرين وأعوان الحسين(ع) وزينب(ع)؛ إذا أحدٌ ما يغتاب ترك الغيبة إكراماً للحسين(ع) نسجله والحسين(ع) يسجله في عداد الأنصار وفي صفوف جيشه؛ إذا واحد قلبه مريض صفّى قلبه، كان بينه وبين رحمه خلاف أصلح شأنه، كان عنده جار ساعده، كان عنده مشكلة حلَّها، كان عنده ولد ربّاه التربية الصحيحة، كان عنده بعض النقص في لبسه، في حياته، في لسانه، في صلاته، في بيته تركه، هذا من جملة أنصار الحسين(ع) وأنصار زينب(ع)، ونسأل الله أن نكون كذلك.
يا بنات زينب(ع) أنتن تحببن زينب(ع)، أنتن تشعرن بارتباط زينب(ع) بقلوبكن وبدمائكن وبعروقكن، وكل منكن تدّعي أنها مستعدة للدفاع عن زينب(ع) بكل ما عندها من القوة. على هذا الأساس، نصرة زينب(ع) في هذا اليوم في نصرة أهدافها، في نصرة أعمالها، في نصرة حقائقها الدينية والأمور التي هي والحسين(ع) قاما لأجلها.
ونسأل الله التوفيق، في آخر لحظة من هذا اليوم اقرأوا معي هذه الآية المباركة خمس مرات:
بسم الله الرحمن الرحيم «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ» [النمل، 62].
هذه الآية تبين لنا أملنا الكبير بالله سبحانه وتعالى، فنقول إلهي نحن نعيش في مشكلة، ونعيش في سوء، ونعيش في محنة، فنطلب منك ببركة الحسين(ع) في هذه الساعة المتأخرة من يوم الجمعة، ساعة استجابة الدعاء ببركة الحسين(ع)، وبقيمة دماء الحسين(ع) أن تفرّج عنا. اللهم أدخل على أهل القبور السرور، اللهم أغنِ كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم اكسُ كل عريان، اللهم اقضِ دين كل مدين، اللهم فرج عن كل مكروب، اللهم رد كل غريب، اللهم فك كل أسير، اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين، اللهم اشفِ كل مريض، اللهم سدّ فقرنا بغناك، اللهم غير سوء حالنا بحسن حالك، اللهم اقضِ عنا الدين وأغننا من الفقر.
المصدر: مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات.
تحرير موقع ممهدات.
اترك تعليق