الأسرة والشباب: التربية البيتية والترابط العاطفي بين الأجيال
السيد موسى الصدر
الإنسان هدف الوجود وبداية المجتمع والغاية منه والمحرك للتاريخ.
يفرض الإسلام على الوالدين رعاية الأولاد بشكل الحضانة والولاية، ويؤكد الإسلام أن تربية الطفل تعادل رسالة الإنسان في حياته حيث يكون الفرد من خلال تربية أطفاله مثالًا لهم بحمل الرسالة.
إنّ الوالدين اللذين يقومان بدورهما بصورة رسالية، وإلى درجة مطلقة، وإلى درجة التفاني في خدمة الطفل، يغمران مشاعر الطفل ويملآن عقله إيمانًا، وقلبه حبًا ووجوده رعاية. ويعيش الطفل وينمو في هذا البحر المتدفق مؤمنًا مكمّلًا لرسالة والديه وفيًا لعطائهما ولجيلهما.
الطفل الذي يتربى على أساس الإيمان لا ينحرف بسهولة. للأم الدور الأول في تربية الطفل، عندما يتمكن الطفل من الكلام يبدأ بطرح الأسئلة اللامتناهية، يوجّهها إلى أمه، فالأم الواعية هي التي تضع الحجارة الأساسية في بناء شخصية الطفل. إن الطفل يجد في بداية حياته أمّه أمام عينيه، فتكون بالنسبة له النافذة التي يطل منها على العالم، والعين التي يختبر بها الوجود. وعلى شاكلتها تتكون رؤيته القائدة، ومشاعره الأساسية ومفهومه عن كل شيء في الطبيعة وفيما وراءها.
وحينما تبرز الأم أمام الطفل مُطْلَقة في الأمومة، متفانية في رعايته، ذائبة في عطائها، منكرة لذاتها ولذاتياتها في سبيل طفلها... حينما تبرز الأم أمام الطفل هكذا، يصبح التكوين الجديد؛ الطفل، إنسانًا جديدًا مؤمنًا بالمطلق وبالقيم المثلى، مدركًا ذلك بعقله وبقلبه، مرتبطًا بأمه، وبما تمثّله من قيم وبمن تمثله من المجتمع.
والأب أيضًا عندما يتفانى في سبيل طفله والإنفاق عليه ورعايته وتربيته، والمعلم الذي ينشد تعليم الطالب وتربيته بصورة مطلقة وينظر إلى الأجر كوسيلة لمتابعة رسالته، والطبيب الذي يوجه خبرته إلى سلامة الناس وحمايتهم من الأمراض دون أن يجعل المال هدفًا أساسيًا.
وهكذا ينمو الطفل مؤمنًا بالمثل العليا، مرتبطًا بذاته في المجتمع بحيث يصبح جزءًا من مجتمع أبويه مكملًا له.
عندما يختلف وضع الأم عن هذه الصورة، يشعر الطفل بعطائها المحدود وخدمتها الموقوتة بساعات محدودة توفيرًا لطاقاتها أو صرفًا لها في الذاتيات، واستبدالاً عن رعايتها بالغير مقابل دفع عوض لذلك.
عندما يجد الطفل أمه بهذه الصورة فهو لا شك يتكون تكوينًا آخر، تكوينًا لا يؤمن بالقيم والمثل التي لم يدركها أصلًا، وإذا آمن بها فالإيمان هو سطحي مهما حاول المربّون. وتبعًا لذلك، وهو شيء طبيعي، فإن الطفل ينفصل عن الأم وعن مجتمعها لأن علاقته معها تحولت إلى أمر نسبي ومحدّد يمكن التعويض عنه.
والأب أيضًا إذا كانت أبوّته محدودة أو مقتّرة أو يستعاض عنها بمال. والمعلم الذي يحول تعليمه إلى بضاعة تباع أو تؤجر. وكذلك الطبيب الذي يتخذ من عيادته محلًا تجاريًا يبيع فيه العلاج، غير مبالٍ بما يفرضه عليه واجبه الإنساني، هؤلاء وأمثالهم يساهمون مساهمة فعالة بتصرفاتهم في بناء كيان الشباب كيانًا محدودًا ومفصولاً فصلًا كليًا عن الماضي.
إنّ الطفل بحاجة ماسة لرؤية وجه الله في أمه أولًا، ثم في أبيه، وبعد ذلك في المعلم والطبيب وغيرهما. وذلك لكي يؤمن بالله وبالقيم العليا، وإلّا فإن الإيمان بالمطلقات وبالله يكون ينبوعهما تصوّر وافتراض. يشكّل الزوجان وحدة متكاملة خلال العطاء المطلق الرسالي الذي يقدمه كل منهما للآخر وللأولاد. في غياب الزوجين عن البيت يفتقد الطفل صفة الإطلاق في والديه وبالنتيجة يرى الوجود العام، المتمثل في وجودهما محدودًا نسبيًا وسطحيًا. ويتقلص مقام الوجود كله في نظر الطفل وفي مشاعره.
يمكن لنا أن نتبين على هذا الأساس وضع الشاب في مجتمعنا المعاصر بعد أن فقد الرعاية البيتية في الغرب والشرق، وبعد أن وجد نفسه في رعاية الخادمات والممرضات، وفي حرمان كامل من الرعاية الأبوية، وعاطفة الأم المطلقة، وبعد أن عاش المجتمع التاجر الذي وضع لكل شيء ثمنًا حتى للخدمات الدين.
إن غياب الله والمثل العليا عن حياة الشاب المعاصر يساعد على:
1 ـ القلق الذي هو أثر للتحرك الشامل وتغير كل شيء حول الإنسان؛ فالعلم، والصناعة، والأنظمة الاجتماعية، والاقتصادية في تغير دائم مترابطة بعضها ببعض، فيجد الإنسان ذاته في تحول دائم، وعدم استقرار.
2 ـ تفكك المجتمع وضعف العلاقات التي تربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض؛ حيث أنّ اختلاف المبادئ يجعل القواعد متفاوتة، والمصالح متضاربة فلا وحدة تربط بين الأفراد وتجمعهم. ويتحول التنافس الذاتي في هذا الوضع إلى صراع طبقي أو فئوي مرير لا يبشّر أبدًا بنتائج مثمرة.
ويجدر بنا أن نقول ونؤكد أن هذا التفكك قائم أيضًا بين الماضي والحاضر وبينه وبين المستقبل. إن التفكير والتقدم العلميين يفصلان بين الماضي والحاضر، ويدفعان الأجيال الصاعدة إلى عدم الخضوع لأفكار السابقين، وعدم الرضى والاكتفاء بإنتاجهم الفكري.
فإذا انفصل ذلك الرباط العاطفي فمعنى ذلك انفصال الأجيال بعضها عن البعض بصورة نهائية. وربما كان هذا هو السبب الأساسي لعنف الثورات الشبابية، بل نجد في الحركات الأخيرة في العالم تحطيمًا كاملًا وإهانة لجميع إنتاج السابقين.
وتزداد المشكلة تعقيدًا عندما تزداد سرعة التغيير في المجتمع الإنساني العام في العلوم، والصناعات، والأنظمة الحياتية المتنوعة. حيث إن هذه السرعة مع فقدان المطلق، من شأنها أن تجعل الوجود الإنساني كله في تغيير وقلق سريع ودائم.
إن ما يحدث في العالم اليوم، وما تراه بين الشبيبة المعاصرة هو نتيجة طبيعية لمجتمعنا، ولذلك فإن المشكلة ستزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم إذا ما استمرت الأحوال على ما هي عليه.
لا علاج إلا بتقوية التربية البيتية ودعمها، وبتحكم المبادئ المطلقة والمثل العليا في علاقاتنا. وبذلك نجعل الطفل مرتبطًا بالماضي والمستقبل، مؤمنًا بالمثل العليا فنعيد إليه اطمئنانه واحترامه لماضي أمته وتفانيه لبناء مستقبلها.
المصدر: مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات (د.ت).
اترك تعليق