المرأة في المجتمع الإسلامي أمام مهمتين: خوض معركة الوجود مع العدو وتحدّي العالم
السيد موسى الصدر
بسم الله الرحمن الرحيم
أخواتي أعضاء هذه المؤسسة الرائدة، بناتي الخريجات، أيها الحفل الكريم،
السلام عليكم ورحمة الله
كنتُ حاولت في هذا اللقاء أن أقدم هديتي المتواضعة، وبضاعتي المزجاة التي لا أملك غيرها أمام هذا الإخلاص المتجلي في هذا الصرح الشامخ، وفي هذه الثمار الطيبة، كان عليّ أن أقدّم ما أملك، ولكني أخذت خلال هذه الساعة من الأمل والعزم والتوجيه ما جعلني مديونًا لهذا اللقاء. ما سمعناه في هذا اللقاء، وما سمعناه من التراتيل، من الصلوات في عزم لا يقبل الوهن، وما عشنا في أجوائه من التحدي الإسلامي الصادر عن المرأة، والإسلام المتهم في كتب الأخصام... ما سمعناه فتح قلبًا لنا وأفقًا نعيشه في المستقبل. ولذلك فسوف أحاول أن أتمم أو أن أفلسف ما سمعناه راجيًا أن يكون في هذا زادًا في طريق بناتنا في المستقبل.
منذ خمس سنوات اشتركت في مثل هذه الحلقة من حفلة التخريج، وكان يشاركني في الحفلة زميل لنا نعتزّ به ونفتخر بعلمه، العلامة الكبير العلايلي، كنت أتحدث عن الثقافة والإسلام، وكان يتحدث عن المرأة في الإسلام. وكنت استمع بخشوع واعتزاز إلى كلمته التي لا أزال اذكرها حينما قال أنَّ "الواحد" في المجتمع الإسلامي ليس هو الرجل، ولا هو المرأة، بل "الواحد" في المجتمع الإسلامي الرجل زائد امرأة. كان يقصد بذلك أن يردّ على الذين اعتبروا أن الرجل هو "الواحد" وأنّ المرأة هي الآخر، كما نرى كثيرًا في كتب الكتّاب المحتفين في أوروبا. وان يرد على تفسير خاطئ في مجتمعنا السابق حينما كنا نعتبر انضمام المرأة إلى الرجل كصفر على الشمال، وحينما كان يرد أيضًا حسب ما افهم بالشعار المطروح "وراء كل عظيم امرأة". وأنا معه في هذا الرأي، لا اقبل في هذا العصر ان يقال "وراء كل عظيم امرأة" لأن العظيم قد يكون رجلًا، وقد يكون امرأة، فالمرأة عظيمة إذا أرادت، كما الرجل عظيم إذا أراد. ولكني اتمم هذا الكلام، لكي ادخل رأسًا في البحث عن الحرية الضالة المنشودة التي تنشدها امرأتنا المعقدة في الشرق وفي الغرب. أكمل ما قال زميلي العلامة إن الوحدة لا تُفرض على الرجل والمرأة لكي يشكلا أسرة، بل الوحدة هي للأسرة إذا تكونت. واقصد بما أقول أنّ المرأة التي خُلقت لأن تشكل عائلة، والتي هي أولى الناس وأكفأ البشر لتربية الطفل ولإدارة المدرسة الأصلية لتكوين العضو، أيضًا حرة في أن لا تشكل الأسرة. فتبقى هي أيضًا "أولاً وواحدًا" كما يمكن أن يشكل الرجل "أولاً وواحدًا". وبتعبير آخر، ما فرض الإسلام على المرأة الزواج، وبعد الزواج لم فرض عليها الخدمة في البيت. أما التقاليد فإما تعاون وتسالم من الجانبين، وإما بقيةٌ من الرواسب. هذه الحرية الكاملة لا نناقشها لأنها أصبحت واضحة، ولأن فكرة ذكورة الله وخلق الإنسان الرجل، وخلق المرأة لأجل الرجل، فكرة مرفوضة أصبحت بديهية في عالمنا اليوم. فما خُلقت المرأة للرجل، ولا الرجل للمرأة، وإنما خُلقا معًا للمجتمع، للإنسان، لله.
أيتها الأخوات، إنّ الرجال الذين خلقوا لكم أصناماً للعبادة من أنفسهم، ووضعوا لكنّ صورًا عن هذه العبادة باسم الخدمة البيتيّة، أو باسم إنجاب الأولاد، هؤلاء بالذات قد خلقوا في عصركم الحديث، صنمًا آخر وفرضوا عليكنّ طريقًا ثانيًا للعبادة. فهم لا يزالون يريدون أن يفرضوا عليكنّ أن تجعلن منهم قدس الأقداس، أليس كذلك؟ في يوم من الأيام كان الرجل يفرض على المرأة الإنجاب والخدمة؛ واليوم يفرض الرجل على المرأة أن تتحول إلى لوحة فنية لكي يتمتع بعينه، وبقلبه الذي فيه مرض، وفي طريقه، وفي مدرسته، وفي مستشفاه. وفي كل مكان يريد الرجل أن يحول المرأة إلى لوحة فنية يتمتع برؤيتها وإلّا فما الدال؟ صالونات الموضة أن يجعلوا كمية الإثارة وكيفيتها، أساساً للأزياء الحديثة، هل هناك غاية من ذلك على المدى الطويل إلّا التأثير والمزيد من التأثير على الرجل؟
فإذًا، لا يزال الرجل قدس الأقداس في نيته، ولا يزال يريد فرض إرادة الرجال بأسلوب تمهيد الجو الأنيق المثير أمام أعينهن. انظروا إلى القصص والمسرحيات والأفلام. انظروا إلى الروايات، من أي باب يُدخلون المرأة؟ يدخلونها من باب الجنس، ومن باب الإثارة.
هل كفاءات المرأة تنحصر في الجنس وفي الإثارة؟ كلا! فإذًا، يريد الرجل لا يزال أن يحافظ على سيطرته المباشرة عليكنّ، فيفرض عليكنّ عبادته ويجعل من نفسه الصنم وقدس الأقداس. انظروا إلى الاجتماعات، وإلى السهرات، وإلى الأخبار التي تُكتب عنكنّ في المجلات، كيف يقابلونكنّ؟ ومن أي باب يدخلونكنّ؟ وفي أي موضع يضعونكنّ؟ لماذا يفرضون في لبس السهرة على الرجل ما لا يفرضونه على المرأة؟ ويفرضون على المرأة ما لا يفرضون على الرجل؟ اعترفنا بالتساوي، فلماذا لا نشاهد التساوي في اللبس وفي الموقف؟ هذه المؤامرة الغربية الأصل التي تجعل ستارًا وسدًا حديديًا أمام كفاءة المرأة، فتحوّل المرأة إلى جزء من كفاءاتها، مع العلم أنّ المرأة لها كفاءات جمّة. ولا شك أن الحيلة المعاصرة لا تفكر أن تجابه المرأة بالتنكر لكفاءاتها، بل تكون مناخًا، فتركز على جانب خاص من المرأة لتنميه، وبالتالي ينمو هذا الجانب على حساب الجوانب الأخرى. وهذا واقع الإنسان، الإنسان ذو الكفاءات المتعددة، إذا نما جانب من كفاءاته، ووجّه طاقاته لنمو هذا الجانب، ينمو هذا الجانب على حساب بقية الجوانب، وهذا يُعتبر خطأ في حياة الإنسان، لأن النمو في الإنسان يجب أن يكون منسجمًا متكاملًا. وهذا هو حقيقة الإسلام «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا» [القصص، 77]، فالرهبنة ليست من الإسلام، ولا من المسيحية كما يؤكدها القرآن الكريم »وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ» [الحديد، 27] لماذا؟ لأن الرهبانية تحاول أن تنمي الجانب النفسي، وتتنكر للجانب الجسدي، وهذا أيضًا خطر معكوس للخطر الأول؛ إذا حاولنا أن ننمي الجانب الجسدي وتنكرنا للجانب النفسي.
أيتها الأخوات، أيتها البنات،
أتكلم معكنّ بلغة المنطق، وبلغة العلم الذي تمثلونه، وبلغة الواقع الذي عبّرتم عنه بالعبرة، حقيقة المرأة جسم وروح. حقيقة المرأة إحساس وعقل وقلب، كما الرجل. ما الفرق بينها وبينه؟ إذا كانت هي أنثى، فهو ذكر. فهل هناك تركيز على ذكورة الرجل، حتى إذا سقط من هذا الدور يُطرح في زاوية النسيان؟ فلماذا تقبلن لأنفسكنّ أن يخصصوكنّ في هذه الزاوية المحدودة؟ المرأة جسم وعقل وقلب. كل خطة وكل رسالة وكل سلوك يجب أن يكون منبثقًا من الجسم والعقل والقلب، أما إذا وجدتم خطًّا يبدأ من الجسد، أو يبدأ من العقل، او يبدأ من القلب وحده، لا يمكن أن تسلكونه، لأن هذا تشويه لواقعكنّ، كما أنّه تشويه لواقع الرجل.
هنا نقف أمام خطورة الوضع، ولا يعزّينا شيءٌ إلّا هذه الكلمة التي ترنّ في عقلي وقلبي عزماً لا تقبل الوهن. انتم اليوم بحاجة إلى مثل ذلك العزم، لأنكم أمام «ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ» [النور، 40] استعبدوكم في ماضي الزمن، ويستعبدونكم في حاضر العصر.
المرأة المسلمة تريد أن تخرج إلى الحياة، وتبني مجتمعًا أفضل، وتتحدّى الماضي والحاضر، هي بحاجة إلى الأصالة في التحرك. وضعوا أمامكنّ [...] تآمرًا وقصدًا وانحرافًا، وضعوا أمامكنّ طريقين لا ثالث لهما. الطريق الأول المحافظة، سموها محافظة حتى يحبسوا النساء في البيوت، وحتى يشلوا مساهمة المرأة في بناء المجتمع، وخط آخر، سموه المشاركة في الحياة الاجتماعية، ولكنهم رسموا هذه الخطة بصورة غير متحفظة. وكأن المرأة حين تخرج إلى الحرب أو إلى المدرسة أو إلى السوق، فرضوا عليها وكأنها تخرج إلى صالة عرض الأزياء.
هذا اللبس، وهذا التحرك، وهذا الفرض الذي يأخذ من عمركنّ ومن وقتكنّ، ويشوّه واقعكنّ، مؤامرة في حياتكنّ. هذان الطريقان اللذين لا ثالث لهما يقفان كسدود من حديد أمام المرأة الواعية، ماذا تختار؟ هل تختار لنفسها الشلل والموت؟ أو تختار لنفسها الخضوع للمؤامرات والخروج عن المحافظة والاستقامة وتحويلها إلى لوحة فنية؟ هنا نجد صعوبة تحديكنّ. انتنّ بحاجة إلى تحدي هذا الواقع. كنّ، وهذا أملنا، أن تخطّوا وتشقّوا طريقًا جديدًا، وإن كان شق الطريق وراءه أهوال وأهوال، ولكنكنّ تستندن إلى ماضٍ وإلى تاريخ تمكن من تحدي العالم، كل العالم. هذا نبيكم (ص) يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أموت دونه".
أنتنّ أمام مهمتين: خوض معركة الوجود مع العدو ومهمة تحدّي العالم:
دينكنّ دين التحدي، دينكنّ دين الثورة، دينكنّ دين التحرك الدائم والطموح الدائم، دينكنّ دين الخوض في غمار الحياة، ومعارك الحياة. فلا غرو إذا أخذتم من هذه التعاليم، من هذا الماضي زادًا كبيرًا وعميقًا فشققتنّ الطريق. أنتنّ في هذه الفترة لا يكفيكنّ أبداً أن تكنّ أمهات صالحات، ربما لو كنتنّ في وقت آخر لكُنّا نكتفي منكنّ بذلك. ولكن أمتكنّ في تحدي الموت أو الحياة، أمتكنّ أمام أطماع لا نعرف لها في التاريخ مثيلًا. في مثل هذه الحالة، يجب أن تقدّمنّ أكثر مما تقدم المرأة العادية في الحالة العادية. عليكنّ أن تضاعفنّ أضعافاً مضاعفة جهدكنّ لأجل رفع التحدي عن أمتكنّ، ونجاة أمتكنّ من الفناء. فإذًا، انتنّ أمام مهمتين عظيمتين لم يشهد لهما التاريخ؛ مهمة خوض معركة الوجود ضد عدوكنّ الصهيوني، ومهمة تحدي العالم، كل العالم من الشرق والغرب بوضع خط جديد. لا استسلام للأزياء ولا التراجع أمام تحديات الإعلام العالمي والتجارات العالمية. كونوا على ثقة بأن وراء الأذيال، ووراء الفرض القائم على النساء عنصران سيئان: التجارة والرغبة في استخدام المرأة. ترفعنّ عن ذلك.
أيتها البطلات، فأنتنّ بنات محمد، وبنات علي، انتنّ بنات فاطمة وبنات زينب. زينب التي تقف أمام الملك المغرور المنتصر، فتتحداه بعد الأسر والقتل والتشريد فتقول له: "إنّي وإن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، لاستصغر قدرك، واستكبر تقريعك، واستعظم توبيخك". بهذه النفسية التي لا يمكن أن تحصل للمرأة إلا إذا كانت متصلة بعقلها وقلبها بالله، ينبوع الخير والقوة والإيمان، لا تتمكن المرأة من تحدي عصرها إلا بذلك.
الأصالة والتجديد:
أيتها الشابات المسلمات، يا بنات مدرستها -[مدرسة السيدة زينب (ع)]-، عليكنّ أن تشققنّ طريقًا جديدًا. انظروا إلى حياتكنّ، إلى أساليبكن، إلى سلوككنّ، إلى مناخكنّ، إلى مجتمعكنّ. لا أدعوكنّ إلى رفض التجارب الناجحة، فالإنسان يجب أن يأخذ تجربة ناجحة من أين أتت، ولكني ادعوكنّ إلى الأصالة في الخط. لا تفقدن وجودكنّ، ما الفرق بين المرأة الشرقية التي ترتبط بتراث كبير إنساني وبين المرأة الغربية المعاصرة؟ [...]. المرأة الغربية متعبة في تحمل الأعباء، هي تتمنى أن تجد مخرجًا للخروج من هذا الاستعمار الأسود الذي يتحكم في حياتها، فيفرض عليها ساعات وساعات أن تبتلي بنفسها، وبلبسها، وبشعرها.
ثمّ هذه المؤامرة التي تقلل من عمرها كم سنة تتمكن المرأة أن تظهر بمظهر الأنيقة، وبمظهر المثيرة؟ قبل ذلك لا شيء، وبعد ذلك لا شيء. إذا اعترفتنّ بأن وجود المرأة لوحة فنية، اشققن بأنفسكنّ طريقًا جديدًا، حافظن على أصالتكن، احتفظن بالحشمة وبالأصالة وخضن غمار الحرب، حربنا مع العدو، وحربنا لبناء أمتنا. فنبيكنّ كان مدعوًا لأن يتصل بالله في الليل «نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً» [المزمل، 3]، «وَرَتّل القُرْآنَ تَرْتِيلًا» [المزمل، 4]. عليك أيها النبي، يا محمد بن عبد الله أن تتوسل إلى الله طول الليل فتستعين به وتتزود منه قوة وإيمانًا، لأن أمامك ليل طويل، وعليك أن تخوض معركة الحياة «إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً» [المزمل، 7].
أمامكنّ، أيتها البنات، سبحٌ طويل فتزودن بالإيمان واستعنّ بالله وتوكلنّ على الله، والله معكنّ. والسلام عليكنّ.
المصدر: مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات(د.ت)
الإمام السيد موسى الصدر
اترك تعليق