مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

"الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية(1)

  
الحديث عن الأسرة هو حديث عن شبكة من العلاقات والمفاهيم تشكل النواة الأساسية للمجتمع، كما تشكل المنظومة القيمية، والحاضنَ التربوي للفرد. وعقد المقارنة بين سياقين حضاريين: النموذج الحضاري الغربي والنموذج الحضاري الإسلامي، لمصطلح "الأسرة" وتَشكله وما يتصل به، من شأنه أن يثير عددًا من المفارقات بين النموذجين، ويلقي بثقله على حقول معرفية مختلفة كالفلسفة والاجتماع والدين.
ولست أبالغ إذ أقول: إن حجم المفارقة بين المفهومين تصل حالة من التناقض، ويمكن مقاربة أزمة الغرب الاجتماعية والأخلاقية من هذه المفارقة نفسها، ويمكن إدراك "أوهام" الحداثة من خلال الآثار التي ألقت بظلالها على التغيرات التي عصفت بالمجتمع الغربي والأسرة الغربية والقيم العائلية الغربية، ذلك أن للمعتقدات الدينية والفلسفية أثرها على نمط العلاقات السائد، وذلك مرتبط أيضًا بالمتغيرات الديمغرافية (السكانية) والثقافية والفيزيولوجية، كما أكدت دراسة عن الأسرة الأوربية.
ونحن سنحاول هنا إيضاح تحولات مفهوم "الأسرة" بناء على الفلسفة التي تتحكم فيه، مع عدم إغفال الأشكال المتولدة عنها، والآثار المترتبة عليها.
الأسرة في المفهوم الإسلامي
في المفهوم الإسلامي يعتبر "الزواج الشرعي" بين ذكر وأنثى هو الأساس المكين الذي تقوم عليه الأسرة، ومن هنا نلحظ قصور التعريف الفقهي للزواج الذي يكاد يقصره على مجرد "عقد استمتاع" وكأن ذلك كل غايته وأهدافه!
والأسرة في المفهوم الإسلامي ليست تلك العلاقة المحدودة بالزوجين والأبناء (الأسرة النووية)، بل تمتد بامتداد العلاقات الناشئة عن رباط المصاهرة والنسب والرَّضاع، والذي يترتب عليه مزيد من الحقوق والواجبات الشرعية، مادية كانت كالميراث، أم معنوية كالبر والصلة والصدقات.. (الأسرة الممتدة).
وتقوم في إطار الأسرة كوحدة اجتماعية علاقات بالكيان الاجتماعي العام من خلال علاقات الجوار (حقوق الجار)، والعلاقة بالفئات الاجتماعية الأدنى (الخدم) الذين أمر الإسلام بمعاملتهم على قدم المساواة مع أهل المنزل بناء على القيمة الإنسانية لا الطبقة الاجتماعية.
وتتيح الأسرة الممتدة لأطفالها فرصاً ومصادر من الاقتداء والتفاعل ومصادر العطف والحنان، فتتعاظم الموارد الوجدانية والتعليمية للطفل.
والأسرة في الإسلام تقوم على أساس ديني/إيماني، "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" (رواه أبو داود). ولذلك وجدنا كثيراً من الأحكام المتعلقة بالأسرة مقرونة بنداء «يا أيها الذين آمنوا» كالميراث (النساء: 19)، والعِدّة (الأحزاب: 4،9)، وحرمة البيوت (النور: 27)، والتربية (التحريم: 6)، وغيرها.
ويقرن الله تعالى بين توحيده وبين بر الوالدين (النساء: 36)، كما بين القرآن أن الالتزام بالتشريعات المنظِّمة للأسرة مبعثه الإيمان بالله تعالى (البقرة: 232)، وأن الغرض من استمرار بناء الأسرة هو إقامة "حدود الله" (البقرة: 230)، وهذا كفيل بأن يجعل الأسرة من العبادات.

الأساس في بناء الأسرة في الاسلام هو الأساس التراحمي لا التعاقدي
والأسّ المكين في بناء الأسرة في الإسلام هو التراحم، حيث يقول تعالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة» (الروم: 21). فالعلاقة ليست محض علاقة تعاقدية قائمة على أسس قانونية كما يريد لها دعاة "تحرير المرأة"، وكما هي في الغرب، «فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا» (النساء: 19)، و "لا يَفرك (أي يبغض) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر" (رواه مسلم).
وأيضاً فإن الأسرة تقوم على المسؤولية الأخلاقية "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته... الرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" (رواه البخاري).
وهذه المسؤوليات تتحدد (شرعًا) بتفصيلاتها، واستوعبتها كتب الفقه، كما أن لها ضمانات قضائية.[...]
تحولات في الأسرة المسلمة
وفي ظل المؤثرات الثقافية والتعقيدات الاقتصادية ظهرت أنماط جديدة وتحولات في الأسرة المسلمة؛ فشهدنا بعض الاختراقات للمفهوم الإسلامي للأسرة، فضلاً عن الممارسات الخاطئة.[...]
كما أننا لا ننكر أن ثمة اختراقات أخلاقية تمثلت في النزوع لإشباع الرغبة مع التحلل من مسؤوليات الأسرة والزواج، فكان أن انتشرت "البغاء" في بعض الدول، فضلاً عن الإباحية التقنية وغير ذلك.
لكن من المهم ملاحظة أن هذه الأنماط والممارسات تبقى على الدوام في إطار "الاختراقات" ولم تشمل المجتمع، وهي ظواهر محدودة بالنسبة للمجتمع العام. والأهم من ذلك هو أن المجتمع لا يزال ينظر إلى هذه الاختراقات على أنها "لا شرعية"؛ مما يفسر كونها ممارسات سرية، ومن ثم فإن منظومة القيم لم تتبدل مع وجود هذه الانحرافات، بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة.
وإذا كنا شرحنا أن الأسرة في المفهوم الإسلامي أسرة ممتدة فهل تعتبر غلبة الأسرة النووية على مجتمعاتنا اختراقاً آخر أو خروجاً من المفهوم الإسلامي؟
صحيح أن المنزل هو القاعدة المادية التي تحدد – إلى درجة ما – نمط العلاقات بين الأفراد الذين يقطنونه، ولذلك وجدنا بعض تعاريف الأسرة تنص على "المنزل الواحد". والأسرة النووية ذات صلة بتعدد المنازل ونشأةِ فكرة "الاستقلالية" التي تأخذ في السياق الغربي قيمة ذاتية فردية.
لكن لسنا نقول هنا: إن الأسرة الممتدة هي الأسرة الإسلامية حتى تخرج منها الأسرة النووية؛ فالعبرة كما قلنا بالروابط والعلاقات القائمة، لا بشكل الأسرة، وبهذا الاعتبار فإن التغير الذي أصاب الأسرة في مجتمعاتنا المعاصرة لم يتجاوز في كثير من الأحوال الناحية الشكلية؛ فلا تزال الروابط والعلاقات قائمة، بالرغم من أن الأبناء أصبحوا آباء، وذلك بناء على أساس ديني/إيماني (صلة الأرحام، وبر الوالدين).

الأسرة في المفهوم الغربي
أما الأسرة في المفهوم الغربي الحداثي فقد شهدت تحولات مختلفة، وربما يشكل عام 1500م وعام 1789م نقطتين بارزتين في تاريخ التحول. ففي عام 1500م وبداية القرن السادس عشر كانت الملامح الأولى للثورة الصناعية الكبرى، وفي سنة 1789م قامت الثورة الفرنسية وكانت تتويجاً لما ذهب في التاريخ باسم "عصر التنوير" (القرن الثامن عشر، وخاصة النصف الأول منه) الذي اتسم بشيوع الدعوة إلى استعمال العقل والانطلاق منه لمحاكمة الأوضاع القائمة.
ودعا فلاسفة عصر التنوير ومفكروه إلى نبذ المجتمع القديم (الإقطاعي) وإرساء مجتمع جديد بدلاً منه تسود فيه حرية الإنسان وحقوقه. والحداثة ارتبطت بعصر التنوير وفكرته عن العقلانية الكلية، أي البحث عن المعرفة اليقينية وعن وسيلة للسيطرة على قوى الطبيعة والمجتمع.
هذه المحطات التاريخية والتحولات الفكرية كان لها أثر كبير في التحولات الاجتماعية؛ ومن ثم نمط الحياة الأسرية في أوربا. ومن هنا وجدنا إحدى الدراسات عن "الأسرة في العصور الحديثة" في جامعة "يال" ركزت على المساحة التاريخية (1500-1789).
لكن التغيرات التي شهدها المجتمع الغربي (الأمريكي والأوربي) فيما يتعلق بالمسائل الجنسية والهيكلية العائلية واستعمال المخدرات، تكمن في ظلال الستينيات من القرن العشرين، وهو ما أطلق عليه ثورة الستينيات (أو الثورة الثقافية).
لكن ثمة فروقا بين المجتمعين، فبينما تم إدماج التحولات الاجتماعية في أوربا مع التقاليد والعادات، أحدثت انقسامات اجتماعية عميقة في أمريكا، لكن دايفيد بروكس يؤكد في كتابه (البرجوازيون البوهيميون في الجنة) أن ثمة مؤشرات على أن أمريكا سرعان ما ستلحق بأوربا فتستوعب ثورة الستينيات الثقافية وتدمجها في العادات والتقاليد الأمريكية.
والآن يمكن الحديث في الغرب، وفي أمريكا على وجه الخصوص، عن تحول في النسيج القيمي للأسرة، من تلك الأسرة الصغيرة بمعناها التقليدي إلى الأسر التي تنشأ بالاختيار الحر، والإرادة الحرة (اجتماع مجموعة من الناس حول عادات معينة، أو اشتراكهم في الانتماء لقيم معينة)، وصار يمكن الحديث الآن عن تشكيلات عائلية متنوعة، كالأسرة التي تشمل الأبناء بالتبني، والعائلات المختلطة والأسرة المثلية (أنثى/ أنثى، ذكر/ذكر)، والأسرة المتشكلة بالتقنيات الحديثة.
وهذه التنويعات تعتبر مجموعة من الخيارات المتاحة والمتعددة، وخصوصاً بالنسبة للشواذ؛ حيث تحول الشذوذ من "الانحراف" إلى "خيار" أو "توجه" مقبول، وحصل الشواذ على الاعتراف الرسمي "بحقهم" في الزواج ومساواتهم في الحقوق مع الزوجين الطبيعيين (ذكر/أنثى) في بعض الدول كهولندا مثلاً، بل وإقرار بعض المؤسسات أو التجمعات الدينية في أمريكا!
هذه التحولات/التنويعات في مفهوم الأسرة وأنماطها تأسست على اعتبار أن الأسرة "التقليدية" نمط اجتماعي تاريخي؛ مما يعني أنه يمكن تجاوزه وتشكيل بديل أو بدائل عنه، واستنادًا إلى الإرادة الحرة، والحق الفردي الطبيعي بمعزل عن فكرة الدين؛ الأمر الذي نتج عنه عدد من الظواهر كالأطفال غير الشرعيين، والإيدز، والممارسات الجنسية الحرة، وغير ذلك.
ففي فرنسا مثلاً بلغت نسبة الولادة دون زواج 40% من مجمل نسبة مواليد سنة 1997م، وأكثر من نصف النساء 53% يضعن أطفالهن دون زواج شرعي، وتضاعفت ظاهرة المعاشرة دون زواج شرعي سنة 1999م مما يهدد بانقراض الأسرة الفرنسية "التقليدية" بحسب التقرير السنوي للدراسات الديمغرافية في باريس، الذي أكد أن الزواج أصبح عادة "روتينية" أقلع عنها الكثيرون.
والمهم هنا أن الموقف حيال هذه الظاهرة يعكس الفلسفة التي تحكمها، ومن ثم فهي لا تعتبر في الحداثة الغربية "انحرافاً"، وإنما أشبه بالآثار الجانبية، ومن ثم يكون الحديث عن ممارسة "الجنس الآمن" وابتكار الواقي، ويأتي التبني، أو بيع وتأجير الأرحام، أو التلقيح الصناعي ليحل مشكلة "الإنجاب" للأسرة المثلية، ويأتي تقنين "الإجهاض" ليحل مشكلة الأطفال غير الشرعيين إلى غير ذلك.
والحلول لا تقتصر على التقنية، وإنما تطاول قضية المفاهيم، وقد رأينا كيف تحول الشذوذ من "انحراف" إلى "خيار"، وكيف أن الدعارة تحولت من ظاهرة لا أخلاقية إلى حالة قانونية، فصار البغاء شرعيًّا في الولايات المتحدة وعموم أوروبا.
إذن.. هذه التحولات -في نظرنا- محكومة برؤية فلسفية للإنسان والمجتمع قامت على أنقاض الدين وفكرة الإله، وكان مراد هوفمان قال: "إن المجتمع الغربي أول مجتمع يعيش الإلحاد عملياً".
 مصدر: اسلام أون لاين.مدارك- معتز الخطيب
 mdarik.islamonline.net

 

التعليقات (0)

اترك تعليق