مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الأسرة بين الحداثة الغربية.. والرؤية الاسلامية(2)

الأسرة بين الحداثة الغربية.. والرؤية الاسلامية (2)

المفارقة بين المفهومين (الغربي والاسلامي)
لكن السؤال المحوري هنا في سياق الحديث عن مفهوم "الأسرة" في السياق الغربي هو: ما الفلسفة التي تقوم عليها الأسرة ؟
يرى البعض أن مفهوم "الدولة" في الغرب حلّ محل "الأسرة" فأصبحت الدولة هي أم الشعب، ونظراً لأن الدولة لم تقم عندنا بالمعنى الدقيق بأدوارها ووظائفها (باستثناء السلطة التي عرفناها جيدًا)؛ فإن الأسرة المسلمة بقيت متحصنة، ومحتفظة بممانعتها ضد التحديث.
لكن هذه النظرة غير دقيقة، فلا يمكن –من وجهة نظرنا– الكلام عن "إحلال" مؤسسة مكان أخرى واستبدالها، فالقضية تنبع من التحولات التي طرأت على المفاهيم التي أسستها الحداثة الغربية؛ فقامت الأسرة على المفهوم الغربي "للحق" الفردي، ومن هنا كانت اتفاقيات (حقوق الإنسان، وحقوق المرأة واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدها، وحقوق الطفل) التي سعت الأمم المتحدة باستمرار لتعميمها وفرضها على العالم باعتبارها النموذج المثال.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن التحولات في الأسرة الغربية -والأوربية تحديداً- كان لقضية "تحرير المرأة" دور بارز فيها عن طريق خلق "موازين قوى" جديدة داخل الأسرة تم بناء عليها -مع الاستعانة بالآراء اللوثرية (نسبة لمارتن لوثر) في هذا الميدان- إعادة أهم جزء من الخارطة الاجتماعية.
وكمثال، فإن المرأة الإيطالية بدأت "العزوف عن كثرة الإنجاب أو عن الإنجاب كلية أو حتى الزواج، وتطالب بتحول العلاقة بينها وبين الرجل إلى مفهوم المتعة التي يجب أن تتساوى فرصة الرجل والمرأة في الحصول عليها، وبالتالي تفضيل الوظيفة البيولوجية على الوظيفة الاجتماعية" (الحياة: 25/5/2002).
بل إن فكرة "المساواة" باتت في نظر "النسوية" (حركة التمركز حول الأنثى) مطلبا متخلفاً، فالأنثى هي الأصل، ويمكنها الاستغناء عن الرجل تماماً، ويمكنها وتحصيل لذتها وإنجاب طفلها من دونه أيضًا!
وبناء على مفهوم "الحق الطبيعي" في المنظومة الغربية الذي لا دخل للدين فيه، تم إعادة صياغة منظومة قيمية جديدة، كاللذة، والفردية، والاستقلالية، والحرية الجنسية، وحرية تكوين الاختيار الجنسي (الشذوذ)، وأن المرأة مالكة لجسدها ولها حرية التصرف فيه... والدولة هنا هي ضامن/مستند قانوني لحماية هذه الحقوق.
وفكرة الحق والمساواة هذه أعادت صياغة مفهوم "السلطة" فتحولت من الأسرة كمؤسسة.. إلى الدولة، ومن هنا يمكن اللجوء إليها لصون حقوق الابن أو الأب أو الأم كل منهم ضد الآخر بالتوازي، وبالتالي تقلص دور الأسرة مع وجود مؤسسات أخرى تقوم بدورها كالمدرسة والإعلام والمجتمع التعاقدي.
بل إن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979م) اعتبرت "الأمومة" وظيفة اجتماعية يمكن أن يقوم بها أي إنسان.
وهنا نفهم جيداً معنى "الفراغ العاطفي" الذي تعيشه الناشئة في الغرب. وكان الأديب الفرنسي ميشال هواليبيك تحدث عن الصورة المريعة للفراغ العاطفي في أوربا في كتابه (الجزئيات الأساسية) الذي حقق أعلى نسبة مبيعات في أوربا.
فالأسرة في السياق الغربي الحداثي تقوم على أساس تعاقدي، ومن هنا تقلصت مفاهيم وقيم التماسك بين الأفراد والتضامن والتراحم، ومسؤولية الأبوين، ومن ثم تنتهي تماماً المسؤولية العاطفية والأخلاقية عند بلوغ الطفل السادسة عشرة، وتنتهي المسؤولية الاقتصادية بعد ذلك ببضع سنين.
وفي شرح لنتيجة انهيار الأسرة، والفراغ الوجداني الذي خلفها، يذكر ألين بيور وإيميل بيريز في كتابهما (أمريكا: العنف والجريمة) أن معدل الجريمة الأمريكية - مثلاً - طبقاً لسنة 1998م بلغ ما يلي:
 ◊ وقوع جريمة سرقة عادية كل 3 ثوان.
 ◊ وجريمة سطو كل 14 ثانية.
 ◊ وجريمة سرقة سيارة كل 25 ثانية.
 ◊ وجريمة سرقة مقرونة بالعنف كل 60 ثانية.
 ◊ وجريمة اغتصاب كل 6 دقائق.
 ◊ وجريمة قتل كل 31 دقيقة.
ويقدر إجمالي كلفة الجريمة العنيفة في الولايات المتحدة (عدا المخدرات) بأكثر من 700 بليون دولار سنويًّا، وهو مبلغ يجاوز إجمالي الدخل السنوي الفردي في نحو 120 دولة في العالم.
ويقدر عدد المتعاطين للمخدرات بنحو أكثر من 12 مليون شخص في أمريكا وحدها، هذا مع الانخفاض الملحوظ في المعدلات التي بدأت سنة 1991م.
أما الأسرة في المفهوم الإسلامي فتقوم على أساس تراحم مبني على الإيمان الديني، وعن هذا الإيمان ينبثق الالتزام بتشريعات وقوانين الأسرة، وفي مقابل الحق الفردي في المفهوم الغربي يأتي الواجب الديني، وفي مقابل الحرية المنفلتة من أي ضابط، تأتي المسؤولية الأخلاقية، وبينما يتم إشباع اللذة بالممارسة الحرة بوصفها حقاً مدعوماً بالحرية، في الرؤية الغربية، يكون إشباع اللذة في الرؤية الإسلامية بالزواج فقط، وبتحمل مسؤولية المساهمة في بناء المجتمع الصالح، والفرد الصالح، وفي حين تشكل اللذة الجنسية نمط حياة الغربي، يتم دمج النشاط الجنسي في حياة المسلم باعتباره شكلاً من أشكال العبادة، "وفي بُضع أحدكم صدقة" (رواه مسلم).
لهذه الاعتبارات كلها وغيرها، وجدنا تفاوتاً كبيراً بين الانحرافات الاجتماعية في الغرب وبين الانحرافات في المجتمعات الإسلامية بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة.

عولمة المفهوم الغربي
ومع هذه المفارقة البالغة حدَّ التناقض بين المفهومين نرى أن ثمة محاولات عديدة لفرض النموذج الغربي وعولمته، عبر الإعلام بوسائله المختلفة، والنخبة المتغربة، باعتباره يندرج في عملية "التحديث"، ويتصل بمفهوم "حقوق الإنسان" (بالمفهوم الغربي)، ومن هنا لم يكن غريباً أن يدافع الحداثيون العرب عن الشواذ المصريين، وأيضًا عبر مؤتمرات الأمم المتحدة، وتسخير سلطتها لشَرْعنة النموذج الغربي قانونيا وسياسيًّا من خلال اتفاقيات تتعهد الدول الأعضاء بالإذعان لها، وتنفيذها عبر لجان ومؤسسات تراقب عملية التنفيذ.
ولعل أبرز تلك المؤتمرات والاتفاقيات: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979م)، والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية (1994م)، ومؤتمر بكين (1994م)، والتي ركزت على قضايا مركزية في المفهوم الغربي هي: الحرية الجنسية، والإجهاض، ومصطلح الجندر (بدل لفظ الجنس، ليشمل "التوجهات" الجنسية: اللواط، والسحاق)، وحقوق المرأة الفرد وليس العضو في الأسرة، والمساواة/المماثلة التامة بين الذكر والأنثى، وإلغاء مفهوم "تمايز" الأدوار، وازدراء "الأمومة"، واعتبار العمل المنزلي "بطالة"؛ لأنه من دون مقابل مادي.
والأمر لا يقتصر على مقررات الأمم المتحدة، فثمة جماعات تتمتع بسلطة التأثير في القرار السياسي، وتشكل قوة ضغط، من أبرزها "جماعة الشواذ" التي لها دورها في الضغط على إدارة مؤتمرات الأمم المتحدة، واستطاعت جذب جماعات مسيحية ومسلمة إليها، وهناك "جماعات الحق في الاختيار" و"حق المرأة في الإجهاض" واستطاعت ترجيح كفة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في انتخابات (1992 - 1996م) واستمالت قوى دينية وقساوسة إليها.

تعميم النموذج الإسلامي
فإذا كان هذا حال الأسرة في الرؤية الغربية، وهذه أدوات عولمتها دوليًّا، ومحليًّا من خلال التنظيمات النسوية، فماذا فعلنا نحن تجاه المفهوم الإسلامي للأسرة؟ وإلى متى سنبقى في مرحلة الدفاع عن "الأسرة" المسلمة ونحن "أصحاب رسالة يجب أن يصغي لها الجميع"، بحسب قول مراد هوفمان؟
إن عودة "الله" للمجتمعات الغربية تغدو الحل الحاسم باعتباره القيِّم على القيم، ويمكن لتعاليم الإسلام الكثيفة، والتي تشكل "نظرية اجتماعية" أن تقدم "دواء شافيًا" في المجال الاجتماعي، وتعيد لشبكة العلاقات الاجتماعية تماسكها ووحدتها، وتسد الفراغ العاطفي؛ فالعلاقة الروحية بين الله والإنسان هي التي تلد العلاقة الاجتماعية في صورة القيمة الأخلاقية كما شرحه مالك بن نبي، وكلما ضعف الدين ازداد الفراغ الاجتماعي بين الأفراد وهو مصداق قول النبي (ص): "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا". فكيف إذا غاب؟!
لكن يواجهنا سؤال جوهري هو كيف يمكن لنا أن نقدم خطاب الأسرة الإسلامية إلى الآخر بوصفه "دواء" ليحقق الفاعلية الاجتماعية في الغرب؟ هذا يحتاج لمعالجة مستقلة مع بحث السبل والوسائل اللازمة لذلك.

مصدر: اسلام أون لاين.مدارك- معتز الخطيب
 mdarik.islamonline.net

التعليقات (0)

اترك تعليق