مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المجتمع والجيل الجديد:  الخطورة في الانفكاك العاطفي عن الوالدين

المجتمع والجيل الجديد: الخطورة في الانفكاك العاطفي عن الوالدين

الأمومة كادت أن تتحوّل إلى شعور مترف دون ممارسة، والخطورة هي في الانفكاك العاطفي.
التفاوت في الأفكار سبب تجدد المجتمع والتطلع إلى الأمام والتغير نحو الأفضل.
إن التنكر لما وراء الطبيعة أحدث فراغاً أيديولوجياً أدّى بالإنسان إلى تأليه ذاته وعبادتها.
إن وسائل الإعلام بإمكانها أن تلعب دوراً يشبه دور الأم والمعلم.


لقاء مندوب مجلة البشائر مع سماحة الإمام السيد موسى الصدر بتاريخ 13 آذار 1975م وحيث أدار معه الحديث التالي، فكتب يقول:
شكوت إليه التفكك في المجتمع الحديث حتى الانفصام، وكأن الأوصال التي تربط بين أجزاء المجتمع الواحد تقطعت، والترابط بين الأجيال قد انقطع حتى أن الإنسان يكاد يشعر بأن الجيل الجديد يريد أن يبدأ من جديد متجاهلاً التراث، ومستنكراً للتجارب رغم أنها ثروةٌ كبرى على صعيد إنساني وقومي ووطني.
فأجاب بمرارة: فلننتظر الأسوأ حيث أن ما نشاهده اليوم هو ثمرةُ ما زرعت يدا الإنسانية في عهدها الحضاري الجديد، وعندما أفكر بنضوب البقية الباقية من التقاليد والعادات وبعض القناعات يبدو لي المجتمع العتيد في وجه متقطع ومتفكك في حاضره وبين أجياله.
إن الأجيال المتلاحقة كانت ترتبط في الأغلب بعواطفها وأحاسيسها ومحبة بعضها لبعض رغم أنها كانت متفاوتة في القناعات والأفكار، وهذا -أي التفاوت في الأفكار- كان سبب تجدد المجتمع والتطلع إلى الأمام والتغير نحو الأفضل.
وهذه المفارقة، الترابط العاطفي إلى جانب التفاوت الفكري، كان سبيل تقدم المجتمع الدائم وبناءه المتجدد على صخرة الماضي؛ وبالنتيجة كان غنى المجتمعات واستيعابها للحاضر والماضي بل والمستقبل. أما الخطورة فهي في الانفكاك العاطفي حيث أنه عند المقارنة مع الفصل الفكري يجعل الأجيال تنفصل، والأوصال تتقطع والجديد يبدأ من الصفر حيث لا يحب الماضي ولا يقتنع به.
ولكي ندرس السبب في هذا التفكك علينا أن نرجع إلى القواعد التي بنيت عليها المجتمعات المعاصرة بمختلف أنواعها، تلك المجتمعات التي يمكننا أن نسميها مجتمعات مادية.
قالوا، وهم يضعون الأسس للمجتمع الحديث، قالوا: ما لنا ولما وراء الطبيعة فلنتركها جانباً ولنبنِ على أسس محسوسة ملموسة، واستمروا في الطريق معتقدين أنهم وفروا الكثير من الخلافات الجدلية البيزنطية -على حد تعبيرهم- مؤكدين أنهم تحرروا من سلطة الكنيسة وحطموا الصنم.
وهذا الفراغ الأيديولوجي في القاعدة ربَّى لهم إلهاً آخر فعبدوا ذواتهم وتحوّل الإنسان في زعمه إلى إله، قدس الأقداس الأول والأخير، والحياة تلخصت في التحرك ضمن هذا الفلك.
وكانت نشوة الجديد وسكرةُ الانتصار والانتقام، وبعد أن ذهبت - جاءت الفكرة فوجد الإنسان نفسه، رغم أنه كل شيء، وحده غريباً وحيداً تصطدم مصالحه المنطلقة من الذات مع مصالح الآخرين، فبدأ الصراع بينه وبين كل ما في الوجود وكل من في الوجود ضمن دوائر مختلفة، ثم عالج محنة الصراع، وصنّفه، وأسس شركات فأصبح العالم والمجتمع شركات متفاوتة تسمى العائلة، والقبيلة، والصنف، والبلد، والوطن وأكثر.
ومن بعض آثار هذه الرؤية، أن الأم التي كانت تمارس الأمومة بوجهٍ مطلق، وكانت تعطي دون حساب بدأت تفكر بنفسها، وتقتِّر أمومتها وتعوض عنها، أو عن بعضها بوسائل أخرى كالمرضعة والخادمة والمؤسسة، وكادت أن تتحول الأمومة إلى شعور مترف دون ممارسة، أما الممارسة الحقيقية للأمومة فهي للمستأجرة وهذا يعني أن الأمومة تحولت إلى تاجر الأمومة، وأن الأمومة تقيدت وتحددت وتحجمت.
وكذلك الأبوة والتعليم والطب والتجارة حتى التربية الدينية، فقد كانت تغمرُ بإطلاقها الجيل الصاعد وتجعله ينحني لأنه عاجز عن الوفاء، كانت هكذا فتحولت إلى أقزام وحلقات ضيقة وأبعاد محدودة.
فالجيل الصاعد الذي أُعطي الأمومة بتقتير، أو اشتريت له، اعتبر نفسه يعطي بدوره لمن سيأتي، وبالتالي فليس هناك من دين لا يوفى، ومن حب إلهي لا يُحَدُّ، ومن عاطفةٍ عميقةٍ لا تنفصم. وكانت دوامة الحياة المادية تغرق في أمواجها كلاً من الآباء والأمهات بل والأجيال السابقة حتى لكأنّ الجيل الصاعد لا يلتقي بها.
وانفصلت الأجيال وانقطعت الصلة العاطفية والفكرية، وكان الانفصام في الحاضر والماضي، وستزداد المشكلة قوةً وشمولاً.

سألت سماحته؛ هل يمكن لوسائل الأعلام -في نظركم- أن تعيد المقاييس الصحيحة وترجع تلك الوشائج العاطفية والفكرية، وتبني جسراً جديداً بين الحاضر والماضي، ماضي القيم الأخلاقية والمثل العليا التي بعثرتها وعبثت بها معايير الإيديولوجيات المادية والتي كان من نتائجها -كما تفضلتم- ذلك التمزق والتهرؤ في المجتمع الإنساني المعاصر؟

قال: دون شك، فإن وسائل الإعلام التي تجتذب حُبَّ الأطفال وعاطفتهم وتغذي أفكارهم تتمكن من أن تلعب دوراً يشبه دور الأم والمعلم، وهنا تكمن أهمية المجلات ومختلف وسائل الأعلام الموجهة إلى الصغار، فإنها تتمكن من تشديد المحنة أو البدء بعلاجها.
والشرط الأول والأخير لها تمكنها من الاجتذاب العاطفي، والرعاية الروحية حتى يشعر الطفل بأنه يلجأ إليها ويغطّى برعايتها، ويستمع إلى همساتها، ونغماتها، ومسامراتها.
وإني إذ أبشر نفسي ومجتمعي بولادة "بشائر" متفائلاً بأن بعض خيوط الفجر تدغدغ آمال الليل المدلهم، وأن المستقبل طالما توضع أسسه فليس عنا ببعيد.


المصدر: مجلة بشائر

الخميس, 13 آذار  1975

التعليقات (0)

اترك تعليق