الأسرة وتحديات العولمة: الخطر الذي تواجهه الأسرة المسلمة والعربية وكيفية التصدي له
الحاجة عفاف الحكيم
إن التجربة المريرة التي تلف مجتمعاتنا المعاصرة والناجمة عن ثورة الاتصالات وظاهرة العولمة التي اتسم بها عالم اليوم، أدت -كما نرى- إلى انحسار وسحق القيم الإنسانية والفضائل الأخلاقية وأوجدت أزمة حادة على صعيد انعدام الهوية لدى الإنسان.
غير أن ما يستأثر بانتباه أوساطنا الاسلامية هو ما يتعلق بالاستتباعات الثقافية -أي ما تفضي إليه هذه الظواهر من تأثيرات على الهوية الحضارية للأمةـ.
فعملية توحيد وانصهار العالم في سوق واحد تتهاوى أمامه أسوار الدول والأمم، عبر تحالف الثورات التكنولوجية مع الشركات الاقتصادية العملاقة، وحصول ذاك التداخل الواضح بين الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والسلوك، من دون اعتداد يذكر بما تنقسم إليه الكرة الأرضية من دول وأوطان هي بالمحصلةـ كما تقول الدراسات: 1ـ تؤدي وظيفياً دوراً استتباعياً واختراقياً قيمياً حضارياً وستتسبب بتغيرات كاسحة على مختلف الصعد.
وما محاولات بسط النفوذ والسعي الحثيث لتحقيق اختراقات على صعيد الأسرة، المعقل الأخير المتبقي.
واستخدام وسائل الاعلام المعاصرة، مع أحدث ما انتجته العلوم في ميدان الاتصالات المرئية والمسموعة، إلا بهدف تحطيم جدار المناعة الأخلاقية والتربوية عند الحريصين على التمسك بدينهم ومقدمة إلى تحطيم المقومات الحضارية والعقيدية لتحل محلها المقومات الغربية.
فالعولمة -كما تقول الباحثة الكولومبية ساكيا ساسن- تعيد تشكيل الخصائص الرئيسية للدولة في البلدان النامية، مما يؤثر في ممارستها للسيادة على أراضيها بحيث تصل الدولة إلى وضع لن تكون فيه الموضوع الوحيد للقانون الدولي. لأن الاهتمام يتزايد بطبيعة ودور الشركات العابرة للقومية، وبمطالبها وبما تمارسه من ضغوط على الدول، وبما تلعبه من دور كشريك في صياغة القوانين والتشريعات التي تحمى مصالح رأس المال. ما تسعى إليه هو التحول من مبدأ حق الشعوب في الاستقلال الوطني وحقها في تقرير المصير، إلى حق الفرد المتضرر والمعزول عن سياقاته البنيوية والثقافية وازدواجية المعايير، بحكم اعتبارات جيوستراتيجية، عند التعامل مع شعار حقوق الإنسان 2.
فالعولمة في حقيقة الأمر هي تغريب العالم وقولبته وفق مناهج الحياة الغربية ثقافياً وسياسياً واقتصادياً بحكم تأثير الحضارة الغربية على العالم. أو هي لدى الدقة "أمركة" العالم بحكم التأثير الأقوى لنمط الحياة الاميركية حتى اوروبا نفسها.
أدوات الهيمنة والاستحواذ:
إن الخواء الروحي الذي تعيشه المجتمعات الغربية أصبح اليوم مساوياً لتقدمها المادي والتقني. فنتائج الرصد والاحصاء توضح جسامة الانفلات والفشل والقلق والاخفاق الذي قاد إلى أزمة الانسان المعاصر والذي حلّ في كل مكان فرض فيه الغرب نفسه دون اعتبار لثقافة وتراث وحضارة وتجربة الآخرين. والخطورة في ظل العولمة، وتطور وسائل الاعلام، تكمن في أن الناشئة في بلداننا باتت تعاني من تحد نفسي خطير، بسبب الازدواجية في التربية بعد أن أصبحوا عرضة للتأثر بالسلوكيات الغربية. وهذا إن لم يؤخذ بعين الاعتبار سيؤدي حتماً إلى الاغتراب الثقافي وفقدان الهوية.
يقول – هربرت شيللر- "إن صنّاع القرار السياسي والمفكرين الغربيين كانوا قد بحثوا عن وسائل جديدة تضمن سيطرة الغرب على أوضاع الشعوب الثقافية وضمائرها. وأنهم قد أجمعوا على الاعلام الدولي بديلاً مؤهلاً لخوض الغزوة القادمة" 3. ويقول أيضاً: "إن وسائل الاعلام اليوم صارت امتداد للامبراطورية الأميركية تلك التي تبسط سلطانها على الشعوب" 4.
اذن نحن أمام إشكالية تتمثل بغزو اعلامي اجنبي ينقل بجانبه السلبي سموماً لقيم وعادات وتقاليد وسلوك وثقافات وأيديولوجيا تخالف قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا وعقيدتنا. ويتم هذا بواسطة تقنيات وأدوات متطورة.
وأن استراتيجية هذا الغزو الاعلامي الغربي تنطوي على استراتيجية ذات خطة محكمة للسيطرة الاعلامية، والمشكلة تتفاقم وتزداد خطورة، نتيجة لأنماط العيش الحديثة التي فرضت نفسها وحيث بات من الشائع ازدياد نسبة العائلات التي يعمل فيها الوالدين وانحسار مساحة الأوقات التي يقضونها مع أبنائهم. في مقابل الغزو الذي أقدم على اجتياح كل منزل عبر وسائل الاتصال وأدوات التسلية مما أوجد هوة كبيرة، وتراجع خطر على مستوى دور الأسرة بشكل عام وأهمه:
1- تراجع دور المرجعية الأسرية، واضمحلال دور الأب الذي بات منهكاً في السعي وراء تأمين عيشه وتلبية رغبات ابنائه، مستبدلاً حديثه المرجعي السلطوي بحديث أكثر تساهلاً تماشياً مع النمط الغربي وابتعد عن كونه قيماً ومرشداً وموجهاً.
2- ليس أخطر على أمتنا من غياب الدور الأساسي المنوط بالأم كربة أسرة في التنشئة والتربية، فهي التي تستطيع بتأثيرها ودورها الأمومي الخطير أن تقف في وجه الهجمة، وأن تربي جيلاً واعياً بعقيدته وقيمه وأخلاقه ويتحمل مسؤوليته تجاه التحديات.
من هنا نلاحظ بأن أهم ما رافق ظاهرة العولمة هو التركيز على استقطاب عاملين مهمين هما: الاعلام ودور ربة الأسرة المتعلق بالمرأة. وهذا التوجه لم يكن عارضاً ولم يأت بالسياق بل -جاء كما مر وكما نبيّن- مدروساً ومخططاً له ليكون المقدمة التي تمهد لأمور مستقبلية خطيرة.
على صعيد دور المرأة
- نسجل الاستغلال الخبيث من قبل القوى العالمية المهيمنة لقضية حقوق المرأة، وبروز التبني الحميم لكل ما طرح بهذا الصدد من مطالب وشعارات، وذلك بهدف اخراج المرأة وخاصة المسلمة من عاداتها وتقاليدها والعمل على مسخ هويتها وفقدانها لذاكرتها التاريخية وثقافتها وحضارتها، وصولاً إلى تقويض المفاهيم والقيم، وعلى رأسها حرف وتعطيل دور "ربة الأسرة" باعتبارها صاحبة الدور الأساسي في تحصين المجتمع وحمايته من الغزو الثقافي الفكري الذي يتعرض له.
3- التحول الذي طرأ على مهام الأمم المتحدة في الربع الأخير من الألفية الثانية. فبعد أن كانت مهامها على الجبهات الرسمية تحولت إلى العمل على الجبهات الشعبية وافردت لهذا المجال أرصدة مالية ضخمة لخلق ما يسمى بمؤسسة المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية ووضع برامج مدروسة لاختراق العالم الإسلامي.
ويمكن اعتبار سلسلة المؤتمرات العالمية والتي منها مؤتمري "السكان في القاهرة" و "بكين" الاطار الاستراتيجي والتصوري الذي تدور في فلكه مجموع الجمعيات ومؤسسات ما يسمى بالمجتمع المدني التي تتزعمها وتفعّلها في العالم الإسلامي الأحزاب والفلول النسائية العلمانية حيث تهدف كل برامجها إلى تنميط العالم الإسلامي وتفكيك مؤسسة الأسرة 5. فمسألة ايهام الناس بمشروع جديد للانتصار لحقوق المرأة عبر الأمم المتحدة، ودون الإشارة للأديان وخاصة الإسلام الذي أرسى دعائم حقوق المرأة، ليس إلا محاولة لقولبة شخصية المرأة، وصولاً إلى إيجاد المجتمع العالمي ذي الصيغة والسمت الواحد الذي تسيطر عليه مفاهيم الغرب الانحلالية، الساعية لتقويض دعائم الأسرة بهدف تذويب المجتمعات، وتحويلها إلى نسيج واحد مهترئ، تسلس قيادته ويسهل التلاعب فيه كيف يشاء.
وما المؤتمرات الطنانة وشعاراتها، إلا قنطرة تعبر عليها المنظمات الدولية المشبوهة لنسف أسس المجتمعات وضرب بنيتها وتماسكها، والتي تعد المرأة عامودها الفقري وإن نظرة سريعة لما في مؤتمر السكان وبكين، كفيلة بأن تبين الخط المستقيم الرابط بين هذا النوع من المؤتمرات وعلاقاتها بترتيبات النظام العالمي الجديد.
ولعل هذا الوضع هو أكبر تحد يواجه المرأة المسلمة المعاصرة ويجعلها أمام المواجهة المتعددة الأبعاد، خاصة وان هذا الانشغال الاسترتيجي يستثمر فقر وجهل شعوب العالم، وخاصة المرأة التي تنعكس عليها الأزمة الاجتماعية والتربوية والاقتصادية، وعليه كان لا بد من فتح الطريق لسيل من الجمعيات التي تتضمن أهدافها كل البرامج المعدة سلفاً للحصول على الدعم المالي السخي لتظهر بعد ذلك في صورة الملاك الرحيم المنقذ من أهوال الفقر والجهل. ليصار من ثم عبر التمويه والضجيج والحماس إلى اصدار البيانات والمطالبة بحقوق وهمية، بعدها السياسي إلى ضرب كل القوانين المتبقية من الشريعة الاسلامية، وزحزحة الأسرة من مهامها الرئيسة.
أما على الصعيد الاعلام
يقول الاميريكي ناعوم تشاوسكي: "إن وظيفة المنظومة الإعلامية الأميريكية هي أن تسلّي وتلهي وتعلم وترسخ لدى الأفراد القيم والمعتقدات وقوانين السلوك التي تجعلهم يندمجون في بنى المؤسسات داخل المجتمع الواسع".
هذا هو واقع عالمنا اليوم بعد أن بات أشبه بفضاء مفتوح على احتمالات قاسية وحيث يحتل الاعلام دوراً رئيسياً في التعبير عما يلفه من فوضى وقلق وخواء.
فعندما يتحول العالم إلى قرية كونية متصلة ويصبح كل شيئ فيه مفتوحاً على الأثير اللامتناهي، ويتحول الاعلام إلى وعاء كلي تختزل فيه أدوات الصراع، والمنافسة، والتحدي في صورة مثيرة للهلع وحيث ميزانيات الإعلام -كما يقول الخبراء- تطورت إلى درجة أصبحت توازي ميزانيات الدفاع لدى بعض البلدان. فما الذي يحصّن الناشئة لمقاومة الانحراف الخطرة التي تستغل الفضول وسرعة الفاعلية للتأثير؟ ما الذي يمكّن من الحفاظ على طهارة ونقاء الفطرة في ظل تخصيص مكافآت ضخمة لكل من ينجح في جذب مخيلة الأجيال والسيطرة عليها؟
إن عملية الاجتياح هذه التي تستهدف تفكيك الأسر وحرف المجتمعات، عبر حرف نفوس الناشئة، وصولاً إلى ادارة شؤون الكرة الأرضية من خلال مجتمع آحادي أمريكي جديد، تجعلنا على يقين بأن هذا العالم يتعرض إلى حملة استعمارية أشد قسوة مما كانت عليه من قبل. غير أن الحملة في هذه المرحلة تتصل بغزو الوجدان والثقافات.
وهذا ما يجعل حتى اوروبا اليوم تشعر بكثير من الحرج حيال هذه الهجمة الاميريكية على عقول الأجيال الجديدة في مجتمعاتها.
فمنظومة الوسائط الاعلامية الموجهة اليهم وإلى العالم استطاعت -كما تقول الأبحاث- أن تشكل تياراً ثقافياً واستهلاكياً جعل كثيراً من الخبراء يتسألون عما إذا كان عليهم أن يودعوا هويتهم الثقافية.
فإذا كانت مشاعر الأوروبيين على هذا النحو من الحذر تجاه الاستحواذ الامريكي على الاعلام. فكيف ينبغي أن يكون الحال عندنا يعد إن بات التسابق نحو السيطرة هو سمة المشهد العالمي اليوم وإلى مدى غير منظور، بعد أن راحت أخلاقيات هذا المناخ تقطع رحلتها دون وازع.
ويبقى السؤال الذي يستوقفنا في ظل هذه الأجواء هو: أين دور المرأة المسلمة الواعية الآن مما يجري حولها؟ وما هو مستقبل الأسرة (المعقل الأخير المتبقي)؟ وهل ستكون قادرة على ممارسة وظائفها على نحو يعكس متطلبات النهوض بالتربية الاسلامية بعد أن استهدفتها العولمة الثقافية بشتى الاختراقات التي تعطل وظيفتها؟.
إن المشهد النسائي في مجتمعنا للأسف لا يزال يحلق بعيداً عما يلفه من تحديات. فالمؤتمرات النسائية في بلداننا رغم فداحة ما يحيق بها – تكاد للأسف تنحصر إما بالكوتا وامكانية تطبيقها أو أخرى مظهرية تقليدية خاوية. وخلف هذا المشهد يبدو العالم العربي غارقاً في سكون تاريخي باستثناء ما حققه انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وبعض الظواهر الأهلية التي تشكل في حد ذاتها فعل ممانعة للعولمة بوجهها السياسي والثقافي كظاهرة المقاومة الاسلامية في لبنان وما قدمته من أمثولة حية عبر الانجاز والانتصار التاريخي العظيم على الغدة السرطانية -التي أنهكت جسد الأمة- "إسرائيل".
وانه من هنا جاء الالتفات إلى هذا الموضوع، على أمل أن يتوفر للمهتمين بهذا الشأن من مقاربته مقاربة موضوعية تساهم بتقديم إسهام بحثي يساعد في صياغة رؤى وتحديد اتجاهات التعاطي مع هذه التحديات.
فإذا كانت معاناة مجتمعاتنا تكمن في حسم قضية التأرجح بين ما يريده الدين القويم، وما يملى علينا بصورة متطلبات العصر. إذ لم يبق ما يصون إنساننا من رياح العولمة العاتية سوى انتمائه وشخصيته بممانعة حضارية وثقافية دينية ترتكز على ارتباط عميق بالعقائد والقيم .
ولا شك بأن تساؤلاتنا هذه تعود إلى أهمية هذا الملتقى وأهمية ما يوفره -الاتحاد- من أرضية مشتركة للتعاون وصولاً إلى صياغة برنامج شامل يمكن من الوقوف بوجه الغزو الثقافي بكافة أشكاله، ويساهم بمواجهة الأخطار الناجمة عن العولمة بالنسبة لمجالات الحياة الانسانية المختلفة.
* كلمة ألقيت في مؤتمر اتحاد الجمعيات النسائية غير الحكومية في طهران
وذلك بتاريخ 10/7/2000م.
* المصادر:
1- توماس فريدمان/ العولمة إشكاليات الواقع وأسئلة المستقبل- المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق/ ص8.
2- نفس المصدر/ 12.
3- الغزو الاعلامي وأثره على الطفل اللبناني/ ص 12.
4- المصدر نفسه.
5- مجلة أنسام ص22
اترك تعليق