اليهودية المتمركزة حول الأنثى: الحركة النسوية واليهودية...
كلمة "فيمنست Feminist" الإنجليزية في تصورنا مختلفة تماماً عن عبارة "ويمنز ليبريشاون موفمنت Women's Liberation Movement". فالعبارة الأخيرة، يمكن التعبير عنها بعبارة "حركة تحرير المرأة" أما الأولى فنحن نؤثر التعبير عنها بعبارة "حركة التمركز حول الأنثى" (لأسباب سوف نوردها فيما بعد). ومن هنا قولنا "اليهودية المتمركزة حول الأنثى" (الأنثى اليهودية بطبيعة الحال). وقد ظهرت حركات سياسية واجتماعية وفكرية تدور حول موضوع المرأة في المجتمع. ويمكن أن نقسم هذه الحركات إلى اتجاهين: حركات تحرير المرأة، وحركات التمركز حول الأنثى. والحركة الأولى حركة اجتماعية سياسية فكرية تهدف إلى تحقيق العدالة في المجتمع بحيث تنال المرأة ما يطمح إليه أي إنسان من تحقيق لذاته إلى الحصول على مكافأة عادلة (مادية أو معنوية) لما يقدم من عمل. وعادةً ما تطالب مثل هذه الحركات بحقوق المرأة سواء السياسية (حق المرأة في الانتخاب والمشاكة في السلطة)، أو الاجتماعية (حق المرأة في الطلاق وفي حضانة الأطفال)، أو الاقتصادية (مساواة المرأة في الأجور مع الرجل). وبرغم أنّ حركات تحرير المرأة تصدر عن مفهوم تعاقدي للمرأة (باعتبارها فرداً مستقلاً بذاتها لا باعتبارها أماً وعضواً في أسرة)، فإنّ حركة تحرير المرأة في المجتمع والمفهوم التقليدي للطبيعة البشرية.
أما حركات التمركز حول الأنثى فهي رؤية معرفية أنثربولوجية اجتماعية تقف على الطرف النقيض من كل هذا، فهي تصدر عن مفهوم أساسي هو أنّ تاريخ الحضارة البشرية إن هو إلا تعبير عن هيمنة الذكر على الأنثى، وهي هيمنة تمت إثر معركة أو مجموعة من المعارك حدثت في عصور موغلة في القدم حينما كانت المجتمعات كلها مجتمعات أمومية تسيطر عليها الأنثى أو الأمهات، وكانت الآلهة إناثاً، وكان التنظيم الاجتماعي ذاته يتصف بالأنوثة، أي بالرقة والوئام والاستدارة (التي تشبه نهود الإناث وعضو التأنيث). ثمّ سيطر الذكور وأسسوا مجتمعاً مبنياً على الصراع والسلاح (الذي يشبه عضو التذكير) وعلى الغزو (الذي يشبه اقتحام الذكر للأنثى). وانطلاقاً من هذه الرؤية للتاريخ، يطرح دعاة التمركز حول الأنثى برنامجاً إصلاحيّاً يدعو إلى إعادة صياغة كل شيء؛ التاريخ واللغة والرموز، بل والطبيعة البشرية ذاتها. فالتاريخ في تصورهم هو سرد للأحداث من وجهة نظر ذكورية، ولا بد وأن يُعاد بناؤها بحيث تستخدم صيغاً محايدة أو صيغاً ذكورية أنثوية. وهذا البرنامج الإصلاحي يهدف في نهاية الأمر إلى إعادة صياغة الإدراك البشري ذاته للطبيعة البشرية كما تحققت عبر التاريخ وتجلت في مؤسسات تاريخية وأعمال فنية، فهذا التحقق والتجلي إن هما إلا انحراف عن مسار التاريخ الحقيقي بعد استيلاء الذكور عليه!
إنّ ما تنادي به حركة التمركز حول الأنثى يختلف تماماً عما تنادي به حركة تحرير المرأة. فالرجل يمكنه أن ينضم إلى حركة تحرير المرأة، ويمكنه أن يدخل في حوار بشأن ما يُطرح من مطالب لضمان تحقيق العدالة للمرأة ولضمان أن تتحول الاختلافات بين الجنسين إلى أساس بيولوجي للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بينهما (وكأن المرأة تعادل الرجل الأسود في المنظومة العنصرية الغربية البيضاء). ويمكن للمجتمع الإنساني بذكوره وإناثه أن يتبنى برنامجاً للإصلاح في هذا الاتجاه، ويمكن لكل من الرجال والنساء تأييده والوقوف وراءه. أما حركة التمركز حول الأنثى فلا يمكن أن ينضم لها الرجال، فالرجل باعتباره رجلاً لا يمكنه أن يشعر بمشاعر المرأة، كما أنه مذنب يحمل وزر هذا التاريخ الذكوري، رغم أنه ليس من صنعه. ولا يوجد برنامج للإصلاح وإنما يوجد برنامج للتفكيك يهدف إلى تغيير الطبيعة البشرية ومسار التاريخ والرموز واللغات.
وفي تصورنا أنّ الرؤية الكامنة وراء حركة التمركز حول الأنثى هي رؤية حلولية تستند إلى رؤية واحدية كونية إذ تحاول اختزال الكون بأسره إلى مستوى واحد، فتدمج الإله والطبيعة والإنسان والتاريخ في كيان واحد وتحاول أن تصل إلى عالم جديد تماماً تتساوى فيه الأطراف بالمركز، عالم لا يوجد فيه قمة وقاع ولا يمين ويسار(ولا ذكر وأنثى)، وإنما يأخذ شكلاً مسطحاً تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعة على نفس السطح وتصفي فيه كل الثنائيات. بل إن تحقق هذا النمط يتم عند نقطة الصفر حين تصبح كل الكائنات شيئاً واحداً. وبينما تعترف حركة تحرير المرأة بالإختلافات بين الرجل والمرأة، وتحاول ألا يكون هناك تفاوت إقتصادي أو إنساني نتيجة هذا الإختلاف، فإنّ حركة التمركز حول الأنثى لا ترفض التفاوت وحسب وإنما ترفض الإختلاف ذاته. وبينما تعترف حركة تحرير المرأة بأنّ هذا الإختلاف يؤدي إلى اختلاف في توزيع الأدوار وتأمل ألا ينجم عن هذا الاختلاف ظلم أو تفاوت اجتماعي، فإنّ حركة التمركز حول الأنثى ترفض توزيع الأدوار وتطالب أن يصبح الذكور آباء وأمهات، وأن تصبح الإناث بدورهن آباء وأمهات، بل إنّ الأمر يمتد ليشمل الأحاسيس ذاتها، فالمرأة يجب ألا تختلف مشاعرها عن مشاعر الرجل، ويمتد الأمر لرؤية الإنسان للإله باعتباره ذكراً وأنثى، أو ذكراً ثم أنثى، أو ذكراً في أنثى، أو لا ذكر ولا أنثى (وهذه هي مرحلة ما بعد الحداثة حين تسقط كل الحدود ويضمر المركز ثم يختفي).
والمفارقة الكبرى تكمن في أن حالة السيولة الحلولية الكونية تثبت عادةً استحالتها، فينتج عنها حالة تفتت ذري، وتصبح القضية ليست جعل الذكر مثل الأنثى وإنما ينتج عنها ثنائية صلبة تصبح ثنوية فيتم عزل الأنثى تماماً عن الذكر باعتبار أن ما تحس به الأنثى لا يمكن للذكر أن يحس به، وباعتبار أن التجربة التاريخية للأنثى مغايرة تماماً للتجربة التاريخية للذكر. ويمكننا هنا أن نرى تطوراً تاريخياً في قضية علاقة الذكر بالأنثى، من مساواة الذكر بالأنثى إلى ظهور الخنثى، وأخيراً ظهور الأنثى التي لا علاقة لها بالذكر (ولا بالأنثى كما نعرفها). وحينما نصل إلى هذه المرحلة، فإننا لا نتحدث عن برنامج للإصلاح وإنما عن برنامج تفكيكي تختفي فيه كل المقولات الثنائية التقليدية، مثل: إنسان/ طبيعة- إنسان/ حيوان- ذكر/ أنثى، ويختفي المركز تماماً، ويصبح التمييز مستحيلاً. عند هذه المرحلة، تلتحم حركة التمركز حول الأنثى بحركات حلولية مماثلة كالدفاع عن السحاق، وعبادة الأرض، فهي كلها حركات تفترض أنّ ما هو مطلق لا يتجاوز المادة وإنما يكمن ويحل فيها، فهو الأرض بالنسبة لعبدة الطبيعة، وهو الأنثى بالنسبة لحركات التمركز حول الأنثى، وهو الطبقة العاملة بالنسبة للفكر الشيوعي، والمنفعة واللذة الفردية بالنسبة لليبرالية، وهذا المطلق الحال هو الذي يحرك التاريخ ويساوي بين كل الكائنات ويسويها الواحدة بالأخرى.
ويبدو أنّ المرأة اليهودية كانت مرشحة أكثر من غيرها لأن تنخرط في صفوف حركات تحرير المرأة ثمّ حركات التمركز حول الأنثى في الغرب لأسباب عديدة، من بينها:
1- ارتفاع معدلات العلمنة بين الإناث اليهوديات في الغرب بنسبة تفوق مثيلتها لا بين أعضاء المجتمع وحسب وإنما بين الذكور اليهود أنفسهم (ولعل هذا يعود إلى أنّ الأنثى اليهودية كانت لا تتلقى تعليماً دينياً، كما أنها كانت غير ملزمة بأداء كثير من الشعائر الدينية اليهودية).
2- لا بد وأنّ الفكر الحلولي اليهودي ولَّد لدى الإناث اليهوديات قابلية عالية للغاية لتقبل نزعة التمركز حول الأنثى والدعوة إليها. ويُلاحظ أن مقولة يهود/ أغيار تقابل تماماً مقولة أنثى/ ذكر. كما أنّ التمركز حول الأنثى يشبه التمركز حول الهوية اليهودية، ورؤية تاريخ البشر كتاريخ ظلم وقمع واضطهاد (لليهود والإناث)، هو الآخر، عنصر مشترك، ويشترك الفريقان في البرنامج التفكيكي العدمي.
ويعود تاريخ حركة تحرير المرأة بين أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب إلى عصر التنوير في ألمانيا، حيث عبّرت عن نفسها في ظاهرة صالونات النساء الألمانيات اليهوديات، مثل راحيل فارنهاجن، وفي ظهور أديبات يهوديات مثل إما لازاروس، ونساء يهوديات في الحياة العامة مثل روزا لوكسمبرج (في الحركة الشيوعية) وهنريتيا سيزولد (في الحركة الصهيونية). ويمكن القول إنّ الحديث عن حركة مستقلة لتحرير المرأة اليهودية أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً، إذ أن حركة تحرير المرأة هي مسألة متعلقة بحقوق المرأة في المجتمع، وهو أمر يقع داخل رقعة الحياة المدنية العامة (وكفاح المرأة اليهودية للحصول على حقوقها لا يختلف في الواقع عن كفاح النساء غير اليهوديات، بل هو جزء عضوي منه). وقد تركت حركة تحرير المرأة أثرها على المؤسسات الدينية اليهودية التي بدأت تفتح أبوابها للنساء، وبدأت اليهودية الإصلاحية والمحافظة تحث النساء اليهوديات على المشاركة في الصلوات التي تقام في المعابد اليهودية التي لا يفصل فيها الجنسان، كما أنه أصبح هناك احتفال ببلوغ البنات سن التكليف الديني (بت متسفاه) على غرار احتفال البرمتسفاه، أي بلوغ الصبيان هذا السن.
أما حركة التمركز حول الأنثى، فهي أمر مختلف تماماً، فهذه الحركة، كما أسلفنا، ليست مسألة حقوق، وإنما هي قراءة للتاريخ، وموقف من اللغة والرموز والجسد، ومن ثم يمكن الحديث عن حركة يهودية للتمركز حول الأنثى تركت أثراً جذرياً على الجماعات اليهودية وعلى العقيدة اليهودية، ولّدت يهودية متمركزة حول الأنثى وُصفت بأنها حركة تحاول تركيب بنية دينية جديدة، تتكون من عناصر يجمعها مفكرو وقيادة الحركة لإعادة بناء اليهودية بطريقة ترضي الإناث وتفي بحاجاتهن الأنثوية الخاصة، وهذه العناصر هي مجموعة من الأساطير الشعبية والأفكار الوثنية التي تراكمت داخل التركيب الجيولوجي اليهودي (مثل أسطورة ليليت)، وهو تركيب جعل من الممكن على دعاة اليهودية المتمركزة حول الأنثى توليد نسقهم من داخل النسق الديني ذاته، ذلك لأنّ هذا التركيب يحوي كل شيء تقريباً، كما أنّه يولّد قابلية عالية لليهودية للتغير حسب الأوضاع والملابسات التاريخية، وقد وصفت جوديت بلاسكو، إحدى مفكرات حركة اليهودية المتمركزة حول الأنثى، بإنها حركة تسعى إلى توسيع نطاق التوراة، ومن ثمّ فهي تثير الشكوك بخصوص نهائية النص التوراتي ومطلقيته، فهي يهودية معادية للمطلق الديني المتجاوز للطبيعة والإنسان، وتطرح بدله نسقاً يتغير بتغير الملابسات التاريخية والرغبات البشرية، الجماعية والفردية، وهي في هذا لا تختلف كثيراً عن لاهوت موت الإله، حين يموت الإله ويصبح المطلق الوحيد هو حادث الإبادة النازية ليهود أوروبا وإنشاء الدولة الصهيونية، وقد صرّحت إحدى مفكرات الحركة بأنّ إعادة النظر في وضع المرأة في سياق العقيدة اليهودية أمر جوهري يشبه إعادة دراسة المسألة اليهودية في سياق التاريخ العام.
وكانت اليهودية الإصلاحية هي أول فرقة استجابت لحركة التمركز حول الأنثى اليهودية إذ رُسمت سالي برايساند حاخاماً في يونيه 1972، وفي عام 1973، وافقت اليهودية المحافظة على أن تحسب ضمن النصاب (منيان) اللازم لإقامة الصلاة في المعبد، كما سُمح لهن بالقراءة من التوراة في المعبد، وهذه أمور كانت مقصورة على الذكور البالغين، ثم وافقت اليهودية المحافظة على ترسيم الإناث كحاخامات محافظات في 1985، وكمنشدات (حزان) عام 1987، وقد اتسع النطاق بطبيعة الحال ليشمل كل الشعائر.
وقد أسست بعض النساء الأمريكيات اليهوديات من المدافعات عن التمركز حول الأنثى جماعة "نساء الحائط" التي تطالب بحق تلاوة التوراة أمام حائط المبكى، وارتداء شال الصلاة (طاليت) وهو حق مقصور على الرجال، كما بدأت بعض المؤمنات باليهودية المتمركزة حول الأنثى بارتداء شيلان للصلاة (طاليت) حريمي لونه بني وطاقيات للصلاة موشاة بعناصر حريمية مثل الدانتلا، وتمائم للصلاة (تيفلين) مزينة بالشرائط (وإن كان بعضهن يرفضن الشيلان والطاقيات والتمائم لأنها ذكورية أكثر من اللازم وتذكرهن بآبائهن!). ومنذ عام 1983، بدأت بعض المعابد اليهودية غير الأرثوذكسية بتعديل الصلوات حتى تتم الإشارة إلى الآباء (باتريارك) وزوجاتهن الأمهات (ماتريارك).
وتحاول بعض المعابد تغيير صيغة الإشارة إلى الإله باعتباره ذكراً، فيشار إليه باعتبار أنه ذكر وأنثلى في ذات الوقت، حتى تتحقق المساواة التامة بين الجنسين! فيقال على سبيل المثال "إنّ الخالق هو الذي/ هي التي، وضع/ وضعت... إلخ"، بل ويشار إليه أحياناً بالمؤنث وحسب، فهو "ملكة الدنيا"، و"سيدة الكون" و"الشخيناه". كما أن بعض دعاة حركة التمركز حول الأنثى يستخدمن كلمات لا جنس لها (بالإنجليزية: أنّ جندرد Ungendered") مثل: "فريند Friend" (صديق) و"كومبانيون Companion" (رفيق) و"كوكريتور Co-creator" (المشارك في الخلق). وهذا الإسم الأخير يدل على الجذور الحلولية لليهودية المتمركزة حول الأنثى. فالتراث القبّالي يرى أن الإنسان شريك للإله في عملية الخلق إذ أن عملية إصلاح الخلل الكوني (تيقون) التي يستعيد بها الإله وجوده ووحدته، لا يمكن أن تتم إلا من خلال أداء اليهود للأوامر والنواهي.
كما تحاول الحركة اليهودية المتركزة حول الأنثى تطهير الخطاب الديني تماماً من أي أستعارات قد يفهم منها الإنقسام إلى ذكر وأنثى مثل إستعارة الزواج والزفاف المتواترة في العهد القديم. ولعل من أهم التغيرات في عالم الرموز ظهور ليليت( نسبة إلى الليل والظلمة) بديلاً لحواء. وهي حسب الأساطير التلمودية الزوجة الأولى لآدم قبل حواء ( أو عشيقته أثناء فترة إنفصاله عن حواء)، وقد تمردت على وضعها كأنثى فرفضت أن يطأها الرجل في عملية الجماع، لأنها ترى في هذا إذلالاً لها وهيمنة للرجل عليها، ثم تمرَّدت على الإله. وأصبحت تنتقم من الرجال والنساء المتزوجات بأن تقتل الأطفال المولودين. فليليت ليست عكس حواء وحسب، بل هي عكس الأنوثة والأمومة والحالة البشرية ذاتها، فهي شخصية تفكيكية من الطراز الأول تنتمي إلى عالم ما بعد الحداثة الذي لا يوجد فيه لا مركز ولا معنى ( وقد صدرت في عام 1976 مجلة ليليت لتعتبر عن فكر حركة التمركز حول الأنثى أسستها سوزان وايدمان شنايدر إحدى أهم مفكرات الحركة).
ومن التعديلات الأخرى التي أدخلت على العبادة اليهودية، الإحتفال بعيد " روش هوديش"، أي " عيد القمر الجديد" باعتباره عيداً أنثوياً. وتشير بعض مفكرات الحركة اليهودية للتمركز حول الانثى إلى علاقة بالعادة الشهرية، وإلى أنّ في التلمود عبارة تقول إنّ القمر سيصبح يوماً ما مساوياً للشمس، ويفسر كل هذا على أنه إشارات إلى المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى واختفاء أي اختلاف بينهما، ويقيم دعاة حركة التمركز حول الأنثى احتفالات خاصة بالعادة الشهرية والاجهاض والولادة، وقد وصفت إحداهن الاحتفال بالمخاض وإنجاب الطفل وقالت إنها عثرت عليه في كتاب يُسمى سيفر هاتشبي (وقد ذكره أحد الحاخامات ليحذر أعضاء الجماعة اليهودية من الانغماس في الخرافات الشعبية الوثنية)، ويأخذ الطقس الشكل التالي:
تُرسًم دائرة بالفحم الأسود على حوائط الغرفة التي تجلس فيها الأنثى التي ستنجب، ثم يكتب على الحائط عبارة: آدم وحواء بدون ليليت، ثم يكتب على الباب أسماء ثلاثة ملائكة هم: سانوي وساتسوني وسامنجالوف (واسمهم هو أيضاً سانفي وسانسافي وسامن جاليف)، ثم تحضر صديقات الأنثى التي ستلد ويجلسن في دائرة حولها وهكذا.
وقد أعاد دعاة حركة التمركز حول الأنثى هاجاداه لعيد الفصح خاصة بالنساء (وكتبتها الأمريكية إستير بروند والإسرائيلية نعومي نيمرود). ويبدأ الاحتفال بعيد الفصح بالنساء جالسات على الأرض وقد فرشن أمامهن مفرش وتُوجَّه الأسئلة لأربعة بنات، بدلاً من أربعة أولاد، أما كأس النبي إلياهو فيصبح كأس الكاهنة مريم. وقد كتبت كتب مدراش خاصة متمركزة حول الأنثى، وقد أدخلت الحركة أيضاً تعديلات عديدة ذات طابع سطحي بعضها يكاد يكون كوميدياً، فمثلاً هناك احتفال يُسمّى "بريت بنوت يسرائيل" بدلاً من "بريت ميلاه (الختان)" تتلى فيه صلاة خاصة تؤكد أهمية الأمهات: أولهن بطبيعة الحال ليليت ثمّ حواء وزوجة نوح وسارة ورفقه وليئة وراحيل، ويقام احتفال التشليخ (بعد عيد رأس السنة) حيث تقوم النساء بإلقاء خطاياهن في الماء، وتأكل النساء طعاماً مستديراً (فطائر) علامة الخصوبة والأنوثة، ويشعلن شموعاً يوم السبت على أن توضع الشموع في طبق مليء بالماء حتى تشبه القمر، وتجمع النساء الصدقة فيما بينهن ولا ينفقنها إلا على حالة التمركز حول الأنثى. وكما أسلفنا، رُسِمت نساء كحاخامات كما أنه يوجد الآن معابد يهودية إصلاحية ومحافظة للمساحقات، وقد رُسمت لها (كحاخامات) النساء المساحقات، وتوجد الآن مدرسة تلمودية عليا تسمح بالتحاق الشواذ جنسياً والمساحقات.
وقد يكون من الأفضل تصنيف اليهودية المتمركزة حول الأنثى على أنها من بين العبادات الجديدة، أكثر من أن تكون استمراراً لليهودية الحاخامية، وهي من ثم محاولة أخيرة للإنسان العلماني اليهودي في الغرب أن يحل مشكلة المعنى والأزمة الروحية الناجمة عن تصاعد معدلات العلمنة في المجتمعات التي يقال لها "متقدمة".
وحركة التمركز حول الأنثى تشبه تماماً في بنيتها الحركة الصهيونية التي تذهب إلى أنّ الأغيار لا يمكنهم أن يشعروا بشعور اليهود، وهم يحملون وزر تاريخ قام باضطهاد اليهود جيلاً بعد جيل، والبرنامج الإصلاحي الصهيوني لا يهدف إلى تحسين أحوال اليهود من مجتمعات الأغيار (مثلما تسحب المرأة في المنظومة المتمركزة حول الأنثى من مجتمع الرجال).
ولنا أن نقول نفس الشيء بالنسبة لما يحدث في الدين فما يحدث في حالة اليهودية المتمركزة حول الأنثى ليس إصلاحاً دينياً يهدف إلى تطوير بعض الشعائر حتى يمكن لليهودي أن يصبح إنساناً عصرياً، وإنما هي عملية تفكيك للدين تُغيّر من هويته وملامحه وتوجهه حتى يصبح من العسير تسميته ديناً على الإطلاق؟ فإذا كان النص المقدّس نصاً زمنياً تاريخياً، وإذا كانت العقائد مسائل اجتماعية اتفاقية، وإذا كانت الشعائر تدور داخل نطاق كل هذا، فما الفرق بين النص المقدّس ومجلة نيوزويك مثلاً؟
لقد دخل الإنسان الغربي عالم ما بعد الحداثة: عالم حلولي وثني دائري عبثي (مثل "صمت الحملان") عالم يحكمه إله مجنون ويعيش فيه بشر لا يمكن الحكم عليهم من منظور أي منظومة قيمية، فهم خليط من الذئاب والأفاعي والأمبيا.
ومن أهم القيادات لحركة التمركز حول الأنثى بتي فريدان (1921) وهي كاتبة أمريكية، وإحدى زعيمات حركة التمركز حول الأنثى في الولايات المتحدة. وُلدت عام 1921 في ولاية إلينوي باسم نعومي جولدشتاين، ودرست علم النفس بكلية سميث بولاية ماساشوستس (وهي كلية للنساء فقط). وتخرجت عام 1942 لتستكمل بعدها دراستها العليا في جامعة بيركلي بكاليفورنيا ثم عملت لعدة سنوات محللة نفسية وباحثة.
تفرغت بعد زواجها عام 1947 لتربية أبنائها الثلاثة، وفي عام 1963، نشرت كتابها الشهير السر الأنثوي الذي يُعدّ أبرز أدبيات حركة التمركز حول الأنثى في الولايات المتحدة في الستينيات والتي تُعد بتي فريدان أبرز رائداتها، والكتاب يركز على قضية المساواة ويهاجم إعلاء دور المرأة كأم وزوجة ويدعو إلى تحقيق المرأة لذاتها من خلال التعليم والعمل. وفي الواقع، فإنّ هذا الكتاب كان بمثابة المرجع للعديد من الأفكار بشأن حركة التمركز حول الأنثى لفترة طويلة، إلا أنّ بتي فريدان نفسها عادت (عام 1981) فنشرت كتاب الطور الثاني الذي غيرت فيه كثيراً من آرائها وهاجمت فيه كثيراً من أفكار التمركز حول الأنثى وانتقدت مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ودعت إلى عدم حرمان المرأة من خصوصيتها كامرأة، وأكدت على أهمية دعم دور المرأة كأم وزوجة وتأكيد حقها في الحرية والاختيار في إطار الحفاظ على مؤسسة الأسرة، كما دعت إلى حق الإجهاض كحق من حقوق المرأة كإنسان لا كدعوة للانحلال الأخلاقي. كما دعت بتي فريدان الحركة النسوية إلى زيادة الاهتمام بالحقوق الاجتماعية للمرأة وإلى تقليل التركيز على القضايا الجنسية وعلى حرية الشذوذ الجنسي، وهو ما استثار ضدها التيارات الراديكالية في الحركة المتمركزة حول الأنثى الأمريكية التي اتهمتها بالمحافظة بل وأحياناً بمعاداة التمركز حول الأنثى.
وعلى المستوى الحركي تُعدّ بتي فريدان من أنشط العناصر النسائية الأمريكية في عقدي الستينيات والسبعينيات، حيث أسست المنظمة القومية للنساء (ناو NOW) عام 1966 ورأستها حتى عام 1970، وهو نفس العام الذي قادت فيه مظاهرة تضم 50 ألف امرأة للمطالبة بمساواة المرأة في الحقوق والواجبات مع الرجل، كما شاركت في تأسيس المؤتمر السياسي النسائي القومي في عام 1971، وفي تأسيس بنك النساء 1973، والمجلس العالي للمرأة 1973. وكذلك، فإنها تعدّ من أبرز الشخصيات التي دافعت عن مشروع قانون المساواة الكاملة بين الجنسين الذي طرح في عهد الرئيس ريجان والمعروف بإسم إيرا ERA.
وتعدُّ بتي فريدان نموذجاً متكرراً بين قيادات حركة تحرير المرأة في الولايات المتحدة، إذ يلاحظ أنّ عدداً كبيراً منهن إمّا يهوديات، أو لهنّ أصول يهودية. ويمكن القول أنّ هذا يعود لمركب من الأسباب منها ما يلي:
1ـ يلاحظ تصاعد معدلات العلمنة بين يهود الولايات المتحدة لكونهم عناصر مهاجرة جديدة لا تحمل أعباء تاريخية أو دينية، وباعتبار أنهم أعضاء في أقلية وجدت أنها يمكنها انّ تحقق الحراك الإجتماعي من خلال الإندماج في المجتمع الأمريكي العلماني ومن خلال تآكل القيم المسيحية الأخلاقية المطلقة.
2ـ لعل الخلفية الحلولية( القبالية) لكثير من هذه القيادات قد ساهم في دفعهم نحو تبني مواقف جذرية متطرفة، فالحلولية بأحاديتها المتطرفة لا تعترف بأي حدود أو تقسيمات أو أختلافات أو ثنائيات.
3ـ يلاحظ أن الأسرة اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتميز بقدرٍ عالٍ من التماسك حتى أوائل الستينات، ولكنها أخذت في التآكل والتراجع كإطار للتضامن، وقد أدى هذا غلى غربة عدد من النساء اليهوديات وإلى إحساسهن بالإضطهاد داخل الأسرة. ولا شك في أنّ الدور المتميز الذي كانت تلعبه الأم اليهودية في الأسرة اليهودية في شرق أوربا ثم في الجيلين الأول والثاني من المهاجرين وتآكل هذا الدور وتحوله إلى عبء على الأم وعلى أبنائها، بسبب ظهور المؤسسات الحكومية التي تضطلع بوظائف الأم التقليدية، لا شك في أنّ هذا قد عمق من هذه الغربة وبالتالي زاد من تطرف الثورة.
المصدر: المسيرى، د. عبد الوهاب: اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهرامة والسرية. ط2، دار الشروق، القاهرة، 1422هـ- 2001م.
اترك تعليق