الحريم العلماني .. الليبرالي: الحريم أحد مصطلحات النقد النسوي العربي
الحريم أحد مصطلحات النقد النسوي العربي، ولفظةٌ تعود شهرتها لعالمة الاجتماع والكاتبة النسوية المغربية فاطمة المرنيسي، وقد أوردتها ضمن مجموعة مؤلفات كُتبت باللغة الفرنسية ووُجهت للقارئ الغربي لتكشف له عن الوجه الآخر لأسلوب حياة المرأة في الثقافة الإسلامية.
وجهٌ تختلف ملامحه عن الصورة التي ارتسمت في الخيال الغربي عن حياة المرأة المسلمة، وجسدتها كبرى الأعمال الفنية في الغرب كلوحة (الحريم) للإيطالي فابي فابيو وغيرها مما يفشي جانبا مما اكتنزه الغربي من تصورات استمدها من مطالعاته في كتاب ألف ليلة وليلة وتسللت إلى مخيلته عبر حكايا شهرزاد، والنساء الفاتنات، وأمسيات الشرق الحالمة.
و يطلق الحريم بالأصل على القسم العائلي من البناء الإسلامي القديم ذي الإطلالة الجوانية حيث تطل نوافذ البناء وشرفاته على الداخل لا على الخارج، ويتكون البناء الذي اشتهر في العهد التركي عادة من طابقين ويتمحور حول فناءٍ داخلي تُشرف عليه معظم غرف المنزل، وتتوسطه في الغالب بركة ماء صغيرة، وأهم ميزات الحريم أنه يؤمن الخصوصية لأهل المنزل من النساء، وهو من إبداعات العمارة الإسلامية التي نجحت في استضافة الطبيعة في قلب المنزل حيث يؤلف الفناء بين عناصرها الثلاث الماء والسماء والخضرة بطريقة فنية جمعت بين الجمال والإتقان ومراعاة متطلبات السِتر في الإسلام، بعكس الأبنية الحديثة التي عالجت مشكلة الخصوصية بسواتر الصفيح المحدودة الفاعلية والخالية من مظاهر الجمال والإبداع.
في عصر الانحطاط في الحضارة الإسلامية اكتسب الحريم مضامين ثقافية أخرى يمكن وصفها بالسلبية عبرت عن عزلة المرأة أو عزلها عن العالم الخارجي، ففي السنوات التي شهدت تأخر المسلمين ووسم التخلف بميسمه الأكثرية رجالا ونساء، ونتيجة لتفشي الجهل والأمية أصبح الحريم موطنا للخرافة والدسائس والمناكفات بين النساء، وبحسب السنن الاجتماعية فالفئات الضعيفة في المجتمع تعيش قدرا أكبر من التهميش والاستضعاف حين يسود الجهل وتصبح القوة هي المستبدة بتسيير الأمور، لكن هذه الصورة المعتمة لحياة المرأة المسلمة ساكنتها صور أخرى مشرقة فلم يكن عصر الانحطاط بحرا من السواد.
حول هذه المضامين الثقافية والاجتماعية والتاريخية (الظرفية) كتبت فاطمة المرنيسي دون اعتبار للظرفية التاريخية ولا السنن الاجتماعية، مضخمةً السلبي ومعرضةً عن كل ماهو إيجابي، وموظفةً حديثها في اتهام الإسلام بكونه يُشرع لعزل المرأة واضطهادها وتهميشها اجتماعيا وسياسيا وثقافيا ضمن عدة مؤلفات أشهرها الحريم السياسي، وماوراء الحجاب الجنس كهندسة اجتماعية.
استطاعت المرنيسي استثمار الدلالات المادية للحريم وتجاوزتها إلى الدلالات المجازية وجعلت من الحريم (رمزا لمنظومة ثقافية تحجز المرأة، وتسيطر عليها، وتحد من حركتها الفكرية والاجتماعية)، ووجدت المرنيسي في الروايات التاريخية في التراث مادة خصبة سلطت عليها النقد النسوي بمسبقاته المعهودة، وكانت المراوحة الدائمة بين القديم والحديث هي طريقتها في معظم مؤلفاتها، وما أن تُرجمت أعمال المرنيسي للعربية حتى وُجد من قلّدها واستعار مصطلحاتها ونقل عنها بأساليب تتفاوت جودة ورداءة، إلا أن القدر المشترك بينها هو غياب الحس النقدي الذي لم يستدعيه أو يستثيره ما وقعت فيه المرنيسي من أخطاء منهجية ومغالطات تاريخية إلى درجة أثارت استغراب الباحثة الكندية كاثرين بولوك في كتابها نظرة الغرب إلى الحجاب.
بعد ان استنفذت المرنيسي أفكارها بشأن الحريم كان عليها أن تقدم للقارئ الغربي فكرة جديدة غير مستهلكة، ولأنها تعيد تدوير فكرة الحريم ذات الجاذبية الخاصة، والتي حصدت بسببها نجاحاتها الأولى عند قارئها الغربي والجوائز الغربية فيما بعد، لم تزد على التوليد من عملية التدوير السابقة فانتقلت للحديث عن (الحريم الأوروبي).
ففي كتابها شهرزاد ترحل إلى الغرب ذكرت المرنيسي أنها اكتشفت لغز ذلك الحريم حين ذهبت لأحد متاجر الألبسة، ولم تجد فيه (تنورة) بمقاسها لأن المصمم الشهير ارتأى حصر التصاميم في مقاسات صغيرة، فجعلت من الحادثة مدخلا لحديثها عن القوالب الجاهزة التي يضعها المصممون الغربيون للمرأة، من قوالب جسدية وجمالية بمواصفات خاصة تُرغم المرأة على التقيّد بها.
وعززت المرنيسي نظريتها باستشهادات لبعض السوسيولوجيين حول السلطة والعنف الرمزي الذي يمارس ضد المرأة باسم هذه القوالب الصارمة، ويغلف إرغامه غير المباشر للمرأة على الالتزام بها بوهم الاختيار الجمالي.
المُلفت أن المرنيسي لم تتحدث عن القوالب الفكرية الغربية التي تجبر النساء في مختلف بقاع العالم على التحرك في حدودها، بما فيهن المرنيسي نفسها بمرجعيتها الفكرية ومنهجها النقدي المستلهم من الفلسفة النسوية الغربية، والتي تغلف هذا الإرغام غير المباشر بوهم الاختيار الحداثي !
ولم تتحدث بالمثل عن الإرغام المباشر في (الحريم الغربي الكبير) أو منظومة الأمم المتحدة الثقافية وقوالبها المتعلقة بالمرأة، والتي تُروج بوصفها النموذج الحضاري الأمثل والأوحد، والذي يتوجب على نساء العالم بأكمله استلهامه وتطبيقه، بينما هو لا يعدو نتاج تجربة نسوية غربية تشكلت في أطر تاريخية وثقافية معينة، ولم تحظ نظرياتها ونتائجها بموافقة كافة الغربيات، ومازالت حتى الآن تواجه مناهضة قوية من جمعيات عديدة داخل الدول الغربية.
هذه القوالب وغيرها مما ينقل إلى مجتمعاتنا الإسلامية ويمثل حالة استنساخ فكري خالٍ من التمحيص والإضافة والابداع، أشارت إلى بعضها النائبة التركية مروة قاوقجي في كتابها ديمقراطية بلاحجاب، وهي التي طُردت من البرلمان التركي في أواخر التسعينات لمجرد وضعها للحجاب على شعرها وعنقها.
فلم يكن هجر الجلباب والاكتفاء بارتداء (التايور) المنصوص عليه في الأنظمة البرلمانية، والذي اختارته مروة طويلاً وداكنا كحدٍ أدنى للاحتشام كافيا لاستيعابها سياسيا وإنسانيا.
فالعلمانية متى تمكنت في البلاد الإسلامية رفضت جميع الصيغ التوفيقية ولم تقبل بسوى الانصياع الكامل.
نعم قد يُرحَب بالصيغ التوفيقية فقط حينما تكون ضرورة مرحلية للتطبيع العلماني الشامل، لكنها تُرفض بل تُحارب بشراسة بعد هذا التطبيع.
ولذا كان على مروة أن ترضخ للضغوط وتخلع ما تبقى من الحجاب قبل أن تدخل إلى البرلمان كما فعلت إحدى المرشحات المحجبات حين تخلت عن حجابها لتحتفظ فقط بمقعدها النيابي ودون أن تستبشر وتفاخر وتماري بخلعه، بل صرحت بعد أداء اليمين ونزولها من المنصة قائلة شعرت وكأنني عارية !
لكن مروة ابنة الأستاذة الجامعية التي هاجرت مع أسرتها للولايات المتحدة حين فضلت أن تُفصل من الجامعة لاحتفاظها بحجابها، على أن تحتفظ بوظيفتها وتخلع الحجاب..لم تتخذ قرارا نفعيا وتفعل مثلما فعلت تلك النائبة فهوجمت وأقصيت، وهذا ما كان يتوقعه أعضاء الحزب الذي رشحها، وتمنت خلافه جماهير الشعب التي انتخبتها أملاً في إسهامها بحل مشكلة الحجاب في تركيا وإنقاذ المحجبات من جحيم التهميش والإهمال والتضييق في شروط العمل والتعليم وغيرها من ميادين الحياة الاجتماعية.
ففي الحريم العلماني لا مكان لامرأة ذات اختيار حُر.
والمرأة محاصرة باشتراطات كثيرة أهمها مشاعية جسدها لنظر العامة...
وموجز الرسالة التي يتضمنها الحجاب هو: (اصرف بصرك لا يحق لك)!
والحجاب علامة إسلامية بامتياز فهو استفزازي ويثير اشمئزاز النخبة المتغربة، حتى وإن كان باختيار المرأة ذاتها، فالحرية المقدسة لا يدنسها سوى الخيار الديني !
[...]
وما يحدث في الواقع أنه حينما تنحصر خيارات المرأة بين اتباع منهج رباني المصدر والوِجهة/ واستتباع فكري وحضاري لرؤى ومناهج بشرية وضعية، فلا مكان ولا احترام لحرية اختيار من تفضل الرباني على البشري، والاتباع على الاستتباع !
والتهوين كل التهوين لصاحبة الخيار الأول، والتقدير كل التقدير لصاحبة الخيار الثاني!
ولا عجب ففي الحريم الليبرالي لا يسمح للمتدينة بإبداء مخالفتها للبطريرك الليبرالي كما يحرم عليها التعبير عن استيائها أو رفضها للمخططات التغريبية التي يجري تنفيذها على قدم وساق ولا ينكرها سوى جاهلٍ لا يعي ما يحدث في الواقع أو ضالعٍ فيها بشكل أو بآخر!
فكل ما على المرأة أن تعيش في عزلة داخل الحريم الليبرالي...
أن تتحرك في حدوده...
أن تتجاوب وتصفق بحرارة للعرض المسرحي المكرّر والممل والكئيب حول حقوقها...
أو تسترخي وتتثاءب وتغمض عينيها عما يحاك لها علانية..
أن ترضى بما يقسمه لها الليبراليون ويفصلونه على مقاسها..
أو تبقى على هامش التاريخ، لا تتخذ أي موقف، ولا تتلبس بأي فعل مؤثر، لا تتحدث.. لاتكتب.. لاتخالف.. لاتعترض...
فالتنوره الليبرالية مصممة بمواصفات انتقائية ذات مقاس محدد فهي ضيقة جدًا وقصيرة جدًا ولا تسع سوى الهزيلات فكريا.. وأخلاقيا!
المصدر:
الموقع الرسمي للكاتبة ملاك إبراهيم الجهني- ملاك الجهني
كذلك المختصر للأخبار
اترك تعليق