مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

اصطفاء المرأة وصناعة التاريخ

اصطفاء المرأة وصناعة التاريخ: إصطفاء أمهات الأنبياء وصناع التاريخ

ضرورة تحديد ومعرفة هوية المرأة:

إنّ أعظم مشكلة واجهتها المرأة على الإطلاق هي مشكلة هويتها وحقيقتها الإنسانيّة، ووجودها كامرأة. فهي لم تعيّن بشكل وجلي موقعها الإنساني في مسيرة التاريخ وصناعة المستقبل. وقد كانت تبدو دائماً كما لو أنها على الهامش، حتى في النصوص الدينيّة –باستثناء القرآن والصحيح المعتبر من السنة- كما لو أنّها حرف زائد، فهي قد تصل إلى مقام الولاية -كما في حالة السيدة مريم (ع)- لكن دورها يبدو دائماً وكأنه فاعلٌ بشكل لا يُعتدّ به. وتبدو مجرّد واسطة لظهور نبي يُعزى إليه وحده إحداث التغيير الاجتماعي والتطوّر التاريخي. كذلك فإنّ هذا التغيير يبدو أنّه رهين الرجل فقط، أمّا المرأة فلا يعدو دورها في هذه المسيرة أن يكون دوراً غير مباشر.
لكنّ الحقّ يقال إنّ المرأة لم تدرك حتى الآن، ولم تعِ دورها الريادي في مسيرة الإنسان نحو تحقيق خلافة الله على الأرض.
وكما أنّ الرجل استطاع أن يبلغ كمال الإنسانيّة على مستوى الأفراد المتمثلين بالأنبياء، كذلك المرأة استطاعت أن تبلغ كمال الإنسانية على مستوى الأفراد المتمثلين بالأولياء وبأمهات الرسل اللواتي أنشأن القادة والرسل للأمم.
والأنبياء والأولياء هم الواسطة بين الله والبشر؛ لكي تتحقّق، مستقبلاً، الخلافة الإلهيّة للنوع الإنساني. ونحن إذا نظرنا إلى كتاب الله العزيز، ودقّقنا في آياته الكريمة نجد أنّ الله جعل مسؤوليّة النهوض بالدين، والحقّ وتطوير المجتمع نحو الأفضل، على عاتق المرأة كما الرجل، ففي الآية: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (سورة الحجرات، الآية: 13) إشارة إلى أنّ التقوى هي مسؤولية الأنثى كما الذكر، والتقوى تتحقق عبر حركة الإنسان تجاه خالقه وتجاه نفسه وتجاه الكون والمجتمع. فالمتّقون هم: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» (سورة البقرة، الآية: 3)، وهم: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (سورة آل عمران، الآية: 134). ففي الآية يصف الله المتّقين بصفات تميّزهم عن غيرهم، فهم بحق مصدر الخيرات؛ يعفون عمّن ظلمهم، ويكظمون غيظهم، لا يؤذون الآخرين ولو بكلمات قليلة ويصبرون على أذية الجبارين في سبيل التخطيط لمواجهتهم، وهم الذين في أحلك الظروف ينفقون ممّا رزقهم الله، ويحركون المسيرة التي تجمدت عند شريحة من الناس بسبب استكبارهم وظلمهم، إضافة إلى ذلك وصفهم الله بالإحسان وجعلهم في مصافّ الذين يحبهم.
إذاً، المرأة كما الرجل كمالها الإنساني لا يتحقّق بدون الدور الاجتماعي بكافة جوانبه، متخطّياً حدود أسرتها وجدران منزلها. إنّ دور المرأة يرتقي في آيات أخرى ليتعلّق بالولاية والمسؤولية الاجتماعيّة المتمثّلة بالسلطة والتبليغ، من خلال: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ» (سورة التوبة، الآية: 71)، ففيها تظهر إمكانيّة ولاية المرأة على الرجل في مجتمع يضم الجنسين. كما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله هو مقياس خير أمّة الإسلام: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (سورة آل عمران، الآية: 110).
وهذا كلّه يدعم مسألة دور المرأة الذي مارسته ويمكن أن تمارسه عبر التاريخ في حركة التغيير الاجتماعي، والتطوّر البشري والذي لا يمكن أن نغفل عنه.
لكننا نجد حالياً، أنّ اللغة التي من خلالها يحاول المفكرون -من بينهم النساء- استعادة حقوق المرأة وتبيانها، هي لغة ما تزال طفوليّة لم تنضج بعد، فهي لم تصل إلى مستوى الحديث عن حقيقة المرأة، ولم تبلغ مرحلة تجعلها محيطة بكافة جوانب خصوصيتها، وهي تنظر بعين الشفقة إلى كائن ضعيف يحاول أن يستعطف بعضاً من حقوق هي له منذ خَلْق الإنسان واختياره خليفة.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ استعادة حقّ لهوية ضائعة لا يؤدي إلى شيء، فإذا لم تتحدّد هوية المرأة ولم تعرف المرأة قدر نفسها، وما هو موقعها الذي انتدبها الله له، لن يتغير شيء ولن تدرك بحقّ دورها الإنساني الأصيل والريادي الذي يحرّك الكون كلّه نحو الحقّ والكمال المطلق.
إضافة إلى أنّ حصول أي كائن على حقوقه إنما يكون بقدر معرفته بنفسه أو معرفة الآخرين به.

اصطفاء المرأة (أم موسى نموذجاً):

إنّ كتاب الله العزيز يبيّن أنّ اصطفاء المرأة هو في مورد اصطفاء الرجل، وهو لأجل إعلاء كلمة الحقّ، وزلزلة الكيان البشري لنقله من الظلمات إلى النور. وقد قسّم الشهيد الصدر –في كتاب السنن التاريخيّة- المجتمع الفرعوني إلى ست طوائف بحسب الآيات القرآنيّة، واعتبر أنّ الطائفة المستضعفة هي المنتخبة من قبل الله تعالى لكي تقوم بالثورة على الطاغوت الذي يحدّ من طموح الأمة والمتمثّل هنا بفرعون، ولكي تسعى نحو تماهيها بالمثل الأعلى الذي يخرجها من حدود المخلوقيّة، لتتمثّل بالمعبود الأوحد، ولا تعود حالة تكرارية كما يحصل للحضارات المشركة أو الوثنيّة أو الكافرة.
وهذه الفئة المستضعفة تمّ اختيارها لكونها موحدة مؤمنة، ولكونها لم تهادن الحاكم الظالم. وقد اختار الله موسى (ع) لكي يكون قائداً لبني إسرائيل، الفئة المستضعفة، وينقذها من براثن الجور.
يبدأ الله من سورة القصص: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ*  وأوحيْنا إلى أمِّ موسى أنْ أرضِعيهِ...» (سورة القصص، الآيات: 4-7).
في سياق الحديث عن هذا التغيير التاريخي الثوروي الذي يصيب هذا الشعب بعد أن كان مضطهداً يعاني أقصى أنواع القهر، فإذا بإرادة الله ورحمته تشمله وتثقله بالنعمة وتجعله الوارث في الأرض، يربط الله بين هذه النعمة وهذه الثورة وبين إيحائه إلى امرأة هي أمّ هذا القائد العظيم الذي سيغيّر التاريخ، وبين المنّة أو الإثقال بالنعمة، وبين فعل هذه المرأة وإيحاء الله لها واعتنائه بها، وبالتالي اعتنائه بنبيه وتحقق المنّة على شعب بني إسرائيل. فهو يقول في سورة طه في مخاطبة نبيه موسى (ع)، بعد أمره بمواجهة فرعون: «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى» (سورة طه، الآية: 24)، وطلب موسى من الله أن يعينه ويشرح صدره، فيجيبه الله تعالى بأنّه: «قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى» (سورة طه، الآيات: 36-38). إذاً، إنّ تحقّق الوعد الإلهي وتمكّن بني إسرائيل من الخروج على فرعون ومواجهته مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه المرأة المؤمنة أم موسى، التي كانت ذات مقام عالٍ يجعلها معرضة لمخاطبة الله لها عبر الوحي حت تستطيع أن تحفظ وليدها الذي سيكون له شأن من الشأن: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (سورة القصص، الآية: 7)، وكانت ممرّاً لغيب الله ومحطاً لتحقّق إرادته، وإحدى حلقات التدبير الإلهي الواعية والمدركة لكل حركتها. فهي أدركت بوحي الله أنّها في صدد حفظ نبي الأمة إذ إن فعلها هنا فعل يتخطّى مجرد إنقاذ طفلها إلى إنقاذ أمتها.
وقد تحققت من حدوث ذلك عبر المشاهدة اليقينية واحتواء قلبها لعلم الله.
كما أنها بتربيتها له قد ساهمت في أن يكون موسى قد صنع على عين الله وبعنايته.
إذاً كانت هي، فاعلة ومساهمة أساسيّة في إنشاء نبي قائد وتربيته ومساهمة فاعلة في إنقاذ شعب وسيره في الطريق الأقوم، ومن دون هذه المرأة لم يكن ليتهيأ لهذا القائد ولهذه الثورة أن تقوم وتتحقّق.*

المصدر: مجلة نجاة، عدد: 32.
 ميسون رضا- باحثة في الدراسات القرآنية
*بتصرف.

التعليقات (0)

اترك تعليق