مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مقام النبي شمعون الصفا(ع) في بلدة شمع الجنوبية(2)

مقام النبي شمعون الصفا(ع) في بلدة شمع الجنوبية(2)


قبر شمعون الصفا:

حتى مررنا على قبر شمعون الصفا، ونحن في غاية المسرة والصفا، وقبره على جبل عالٍ، وهو مشهور بين أهل تلك البلاد، أنه من الأنبياء أولاد يعقوب(ع)، أو من الأحفاد، وعندنا في دمشق الشام في القرب من مقبرة باب الصغير بين البساتين من جهة محلة الشاغور قبر كبير، يقال: إنّه قبر شمعون الصفا، والله أعلم بمن ظهر من ذلك ومن اختفى...
فوفقنا بالقرب من ذلك ودعونا الله تعالى بعد قراءة فاتحة الكتاب، وإهداء ثوابها لذلك الجناب، ثم قلنا في رفيع ذلك المقام: [من الوافر]
بشمعون الصفا زاد الصفاء وأكملت المسرة والهناء
وأشرقت المعالم والروابي وذاك القصر طاب له الوفاء
على الجبل العظيم عظيم نور بقبر ثم زَوْرته شفاء
مررنا في الطريق عليه حتى تبدى منه للعين الضياء
فأهدينا السلام وكان منّا  له مدح وفي المدح الثناء
سقى الرحمان مرقده غماماً يريك الصبح ذلك والمساء
مدى الأوقات ما اضطربت مياه بذاك البحر حيث سرى الهواء(7)

 وقول الشيخ النابلسي عن لسان أهل تلك البلاد، أنّه من أولاد يعقوب، أو من الأحفاد ففيه مغالطة لسببين:
الأول: اسم صاحب المقام شمعون الصفا ولم يُعرف عن شمعون بن يعقوب تلقيبه بـ "الصفا"، وإنّما عرف به شمعون وصي عيسى(ع) حين لقّبه المسيح(ع) به، وهذا لا يخفى على مَن له إلمامة ولو بسيطة عن حياة عيسى ابن مريم(ع) ووصيه.
الثاني: مخالفة قول أهل تلك البلاد لآراء بعض علمائها، كما هو الحال في وثيقة الشيخ يوسف البحراني التي نقلها عن عالم عاملي ويصرّح فيها بأنّه شمعون الصفا وصي عيسى(ع)، ورأي الشيخ إبراهيم سليمان عن زيارة أكابر العلماء لقبر شمعون الصفا(ع).

4- غرفة المنزول (وثيقة الشيخ حسين خاتون(8) (1100هـ):

تقع غرفة المنزول على بعد أمتار من المقام إلى جهة الشرق، في حائطها الشمالي وإلى الناحية اليسرى من الباب، توجد صخرة، شكلها نصف دائري، تؤرخ بناء هذه الغرفة، وإليك ما نُحت عليها:

بسم الله الرحمان الرحيم
أوضةٌ بل نزهةٌ للناظرين  غرفةٌ مبنيةٌ للزائرين
في حِمى شمعون زادت رفعةً إذْ له فضلٌ وسرٌّ مستبين
أيها الزوار طبتم أنفساً  فاقصدوها نعم دار المتقين
جاء في التاريخ عز كامل  ادخلوها بسلام آمنين

أُنشئ هذا المكان بعون الله وتوفيقه بأمر الشيخ حسين خاتون وسعي الشيخ نور الدين سنة 1100هـ. [الوثيقة رقم 16].
وقد ذكر السيد محسن الأمين هذه الصخرة في كتابه أعيان الشيعة فقال: "بنى الشيخ حسين ابن الشيخ جمال الدين ابن الشيخ يوسف بن خاتون العيناتي مشهد شمع في جوار قلعة شمع القائمة على هضاب الساحل الصوري، وله هذه الأبيات المنقوشة على حجر في ذلك المشهد [ثم يذكر الأبيات السابقة] ثم يقول: إنّ هذا التاريخ (في البيت الأخير) مع ركّته لا يوافق عصر المترجم لأنّه يبلغ ألفاً فقط، والمترجم كان موجوداً بعد الألف ومئة، فلا بد أن يكون وقع خطأ في هذا التاريخ والله أعلم"(9) ورأينا أنّ الشيخ حسين خاتون العيناتي بنى غرفة الزائرين المجاورة لمقام شمعون الصفا، ولم يبنِ المقام ذاته، والدليل هو المفردات الواردة في أبيات الشعر "غرفة مبنية للزائرين" و"في حمى شمعون زادت رفعة" أي أنها بُنيت للزائرين في جوار مقام شمعون الصفا، وهي غرفة مفصولة عن المقام، في حين أنّ المقام عدة غرف.
وعند دراسة البيت الأخير بحسب حسابات الجمل تبين أنّ الغرفة بنيت سنة 1099هـ.
جاء في التاريخ
عز كامل  ادخلوها بسلام آمنين
77+ 91+ 647+ 133+ 151= 1099.

وهذا التاريخ يوافق عصر الشيخ حسين خاتون، الذي وجد بعد الألف ومئة، بخلاف ما ذكر السيد الأمين رحمه الله.

5- وثيقة الشيخ يوسف البحراني (1025هـ- 1071هـ):
تعتبر وثيقة البحراني أقدم وثيقة تصرح بدفن شمعون الصفا(ع) وصي عيسى(ع) في قرية شمع، وهذه الوثيقة عبارة عن رسالة أرسلها مهاجر عاملي –لم يصرح عن اسمه- لأحد العلماء، يعدد فيها أسماء قرى ومدن جبل عامل، وقد أورد هذه الرسالة الشيخ يوسف البحراني في كشكوله، وبالنسبة لموضوع البحث تقول الرسالة: "شمع بها مدفن شمعون الصفا وصي عيسى وله مقام عظيم"(10) وصاحب الكشكول من مواليد سنة 1107هـ وتوفي سنة 1186هـ، وقد ألّف كتابه الكشكول بعد ثورة شيراز سنة 1163هـ وعليه يكون مقام شمعون الصفا(ع) معروفاً منذ 257 سنة هذا على اعتبار كتابة الرسالة زمن تأليف البحراني لكتابه.
ويحتمل السيد محسن الأمين في كتابه خطط جبل عامل، أن يكون هذا المهاجر ممن هاجر في فتنة الجزار(11).
وهذا الاحتمال غير مقبول لأنّ الشيخ يوسف البحراني توفي سنة 1186هـ وذلك قبل فتنة الجزار بتسع سنين، لأنّ هذه الفتنة حدثت سنة 1195هـ، مما يدلُّ على أنّ الرسالة كتبت قبل فتنة الجزار بسنين.
وعند دراستي لهذه الرسالة لمعرفة تاريخ كتابتها ومعرفة العالم الذي أرسلها توقفت على الملاحظات التالية:
أولاً: يتحدّث مرسلها عن بلدة الصرفند فيقول: "الصرفند وأهلها نواصب"(12) فهذا الكلام لم نجد له أصلاً في الكتب التاريخية، سوى استخدام بعض الناس للتقية في أيّام فخر الدين والأمير ملحم.
ثانياً: يتحدث عن جزين فيقول: "جزين بلد الشهيد الأول وبها ذريته في هذا العصر"(13)
وهذا يعني أنّ الرسالة كتبت قبل خراب جزين وتهجير أهلها، أي قبل قرنين تقريباً.
ثالثاً: يتبين من مقدمة الرسالة بأنّ مرسلها من بلدة أنصار وكان مهاجراً منها، وقد أرسلها لشخص يقول فيها "بسم الله الرحمان الرحيم هذه يا مولانا أسماء بلدان جبل عامل... وأبتدئ باسم بلد عبدكم ومخلصكم تبركاً وهي أنصار"(14)
وفي مراجعتنا للعلماء المنتسبين لبلدة أنصار، لم نجد في العلماء القدامى من ينتسب إليها سوى السيد بدر الدين بن أحمد العاملي الأنصاري الذي ينسب إليه السيد محسن الأمين التعليق على أسماء قرى جبل عامل(15) والسيد بدر الدين الأنصاري كان حيّاً سنة 1025هـ(16)  أي فترة حكم الأمير فخر الدين المعني الثاني الذي نكّل بزعماء عاملة، فهدم بيوتهم وضبط غلاتهم، وقد يكون تهجّر من أنصار بعد حكم الأمير ملحم بن يونس المعني عام 1408هـ- 1638م وذلك عندما داهم هذا الأمير بلدة أنصار "فاسلحم أهلها واستمر القتل فيهم ولم يشف حقده مقتل ألف وخمسمائة من المتاولة في هذه الغارة حتى استباح القرية نهباً وسلباً"(17)
رابعاً: يتحدث مرسلها عن صيدا فيقول: "صيده مدينة البلاد وبها الباشه من قبل الروم غيّر الله دولتهم الجائرة"(18) فبعد الفتن التي عصفت بجبل عامل مع أعدائه المعنيين قام السلطان العثماني بتعيين علي باشا والياً على صيدا سنة 1071هـ - 1661م وهو أول من تولاها من الباشوات بعد المعنيين وكانت فتنة عظيمة بينه وبين مشايخ المتاولة(19).
وخلاصة ما تقدم نحتمل أن يكون التعليق على أسماء قرى جبل عامل كان بعد هجرة السيد بدر الدين الأنصاري، أثر المعركة مع الأمير ملحم عام 1048هـ أو بعد استلام الوالي العثماني علي باشا ولاية صيدا سنة 1071هـ. وهو ما جعل المهاجر العاملي يعبر عنه بوالي الروم لأنّهم في الماضي كانوا يعبرون عن الدولة العثمانية بدولة الروم، وعليه يكون قبر شمعون الصفا ومقامه معلومين في جبل عامل قبل سنة 1025هـ - 1048هـ.

6- حجر المئذنة (490هـ):
بعد الاندحار الإسرائيلي عن بلادنا بشهرين، بدأنا العمل في ترميم المقام، فاتصلنا بمجموعة من الأساتذة والمختصين بعلم الآثار، وأخذنا رأيهم عن كيفية العمل، وأخيراً استقر الرأي على إعادة الطابع الأثري، بإزالة الطبقة الكلسية والاسمنتية التي كانت تُغطّي الجدران، وهذا ما حدث، فبدأت الورش بالعمل، بعدما اتفقنا على صيغة عقد مع الأستاذ حسن بدوي ليقوم بعملية التنظيف والتكحيل، وكنت أتوقع أن نعثر على تاريخ للمقام على عتبة البوابة الرئيسية فطلبت من العمال التمهّل في إزالة التراب والكلس عن الحجارة، لكن سرعان ما خاب توقعي، ولم نجد شيئاً من ذلك، لكن الأمل بنيته على حلم(20) رأيته في ليلة التحرير الأولى، وبما أنّ العمل كان يجري ببطء لدقته، فكنت أنتظر الوصول إلى الهدف المرجو، وبعد أيام من الانتظار، وصل العمل إلى حائط المئذنة، وطلبت من العمّال أن يتمهّلوا في العمل، وأن يرفعوا يدهم عند عثورهم على أية كتابة، وصودف أن طلب مني إحضار بعض الأدوات، فذهبت لإحضارها، وعند عودتي بدأت أراقب الحائط، فإذا بحرف "واو" على حجر الزاوية، القريب من باب المئذنة في مكان قريب لما رأيت في الحلم، لكن للأسف، قد نال الحجر حظه من الكدمات والضرب، وتطايرت بعض حروفه، فانتابني الحزن لهذه الخسارة الهامة، إلّا أنني بدأت بعملية تنظيفه بطريقة غير مؤذية، وساعدني في هذا العمل صديق لي، فما هي النصوص الواردة؟.
توجد على الحجر كتابتان:
الأولى من الناحية الغربية والثانية من الناحية الشمالية. [الوثيقة رقم 11 و15].
أ‌- النص الغربي: (490هـ):
كتب بحرف كبير نسبياً قياساً بالنص الشمالي، وما استطعت قراءته على الشكل التالي:
السطر الأول: أشرف على هذا المكان المبارك.
السطر الثاني: سنة التسعون وأربع مائة.
السطر الثالث: لم أستطع قراءة شيء منه.
ب‌- النص الشمالي:
كُتب بحرف صغير، وعليه أربعة أبيات من الشعر ونصه:
بسم الله الرحمان الرحيم
يا زائراً شمعون... فتوقف عجل... ي بالمقام الأشرف [فصلي]
.... ........................... ... في هذا الموقف
يا داخلاً هذا...   نور النبي له بحشر الموقف [المقام]

وأهمية هذا الحجر تكمن في النص الغربي إذ يؤرّخ بناء المقام سنة 490هـ أي ما يعادل 1096م. أي في زمن حكم الدولة الفاطمية على جبل عامل. في فترة حكم المستعلي الفاطمي، يقول السيد محسن الأمين في حديثه عن صور: "ثم وليها من قبل الفاطميين رجل يعرف بكتيلة ثم إنه أظهر العصيان، وذلك في زمن المستعلي فأرسل إليه عسكراً من مصر وافتتحها عنوة سنة 490هـ"(21)  وكتيلة هذا كان والياً على مدينة صور وحدها، أمّا بقية بلاد بني عاملة فكانت في قبضة الضحّاك بن جندل البقاعي، وقد اتصل به هذا العمل من جده جندل الذي كان مقدماً في الدولة الفاطميّة(22).
وبعد بناء المقام بسنتين أي عام 492هـ. دخلت الجيوش الصليبية إلى ما حول بيت المقدس من صور وعكا والرملة ويافا(23). لكن مدينة صور استعصت عليها، أما بقية البلاد العاملية وخاصة القريبة من فلسطين فقد خضعت لحكمهم.
وبدخول الصليبيين بلادنا عمّ البلاء والظلم والدمار، يقول الشيخ علي الزين: "لما توغل الصليبيون في البلاد الشامية، وكانوا في كل بلد يدخلونه يظلمون أهله ويخربون عمرانه ويحرقون كتبه ومتاعه وآثاره(24).
ولما كان المقام حديث البناء، غاية في الجمال والروعة وقتها، قام الصليبيون بتدمير قسم منه وإحراقه، وقد استنتجنا ذلك من ظهور أثر لحريق كبير تعرض له المقام بعدما أزيلت الطبقة الكلسية عن الحجارة. وبقي المقام على ما هو عليه طيلة الحكم الصليبي، وعندما اندحر الصليبيون عن بلادنا سنة 658هـ حكمها المماليك إلى سنة 922هـ، وفي هذه الفترة تألّق نجم آل خاتون في جبل عامل، تلك العائلة العلمية الشهيرة، وربما قام أحد علماء هذه العائلة بترميم ما هدم وأحرق، وكتب أبيات الشعر على الحجر نفسه الذي ذكر عليه التأريخ القديم، ثم في فترات لاحقة، قام أحد أفراد هذه العائلة وهو الشيخ حسين خاتون ببناء غرفة الزائرين التي تحدثت عنها سابقاً.

ج- وصف المقام والأوقاف التابعة له:

في مسيرك نحو المقام، تتجه من ساحة البلدة الصغيرة، فتصل إلى ساحة خارجية تابعة في ملكيتها للمقام، إلى جانبها حديقتين صغيرتين فيهما بعض القبور، تتوسط إحداها غرفة قديمة البناء، وأمام تلك الغرفة صخرة شبه دائرية استعملها العرب قديماً كساعة لمعرفة أوقات الصلاة، ويوجد تحت هذه الساحة بئر كبير، طوله يتعدّى عشرين متراً، وعرضه ستة أمتار تقريباً، بعمق يصل إلى ثمانية أمتار لا يجف إلّا نادراً، وهو أحد مخازن المياه المتبقية منذ زمن الصليبيين.
فتدخل عبر بوابة رخاميّة حديثة الصنع، وتسلك طريقاً مرصوفاً بالحجارة إلى الساحة الخارجية، هذه الساحة توجد أمام المقام من الناحيتين الشمالية والغربية، وتمر خلالها للوصول إلى البوابة الرئيسية فترى الأرض المرصوفة بالحجارة المنصورية(25) المستطيلة والتي سُميت -لاحقاً- حجارة سلطانية نسبة إلى السلطان سليم العثماني. وكانت مائلة قليلاً باتجاه الغرب لتصريف مياه الأمطار، تنتصب في وسطها نخلة عفا عنها الزمن حالياً، وإلى جانب النخلة قبر حجري، يعرف بقبر العجمي، وهو القبر الوحيد الذي كان موجوداً فيها، وإليك ما كُتب نحتاً على شاهده:
هو الباقي
قال: إني عبد الله
أصمٌ إذا نوديت باسمي وانني
إذا قيل لي يا عين لسميع
فاتحه سنة 1307هـ


في الماضي كانت توجد مجموعة قليلة من القبور القديمة ملاصقة للحائط الغربي للمقام. دفن فيها موتى من آل صفي الدين القدامى. وفي عصر قريب من عصرنا، بيعت أراضي هذه الساحة بالليرة والليرتين ثمناً للقبر الواحد، وانتزع –وللأسف- أكثر من تسعين بالمئة من هذه الأحجار العتيقة، وحلت القبور محلها، ولم يستثن من ذلك الممر المؤدي للمقام، فتشوه مدخله، ولا يزال انتزاع هذه الأحجار جارياً إلى يومنا هذا!!. [الوثيقة رقم 4].
ومن هنا وهناك تظهر الورود التي تزين المكان فتنسى أنّك في منطقة لا حياة(26) للورود فيها!.
وتلتفت إلى الجهة الجنوبية، فترى الصحن الخارجي للمقام بقناطره الثلاث ومئذنته، والقناطر شبه دائريّة تقوم على ركائز مربّعة الأضلاع مستوية الحجارة في غاية الدقة والجمال. [الوثيقة رقم 3 و 5].

تمرّ من القنطرة الغربية بين أريكتين ترتفعان نصف متر عن الممر، تشكّلان الصحن الخارجي، وهما مرصوفتان بالحجارة المنصورية أيضاً، فتنتصب أمامك بوابة خشبية خضراء قديمة(27)، هي البوابة الرئيسية للدخول إلى غرفة الضريح أو الصحن الداخلي، على جانبي هذه البوابة ركيزتان صخريتان أخذتا من معبدٍ روماني قديم، وعندما تدخل يظهر لك صندوق خشبي كبير، سنمي الشكل، مكسو بقماش أخضر فاتح، صنع قبل سنة 1294هـ، يزين هذا الصندوق أربع زوايا، فوق كل زاوية قطعة نحاسية تشبه الكوز (إبريق صغير) وهذه القطع النحاسية تحافظ على رائحتها الطيبة منذ زمن بعيد... ونتيجة للهيبة التي تعتريك... وبطريقة شعورية أو لا شعورية... تمسد الصندوق بحنو ولا حنو العالم العارف يمسد رأس اليتيم، ثمّ تقبله بلهفة ولا لهفة الوالدة تقبّل ثغر وليدها بعد طول فراق...

هذا الصندوق إذاً، يوجد في الصحن الأساسي للمقام (هو الصحن الأوسط) وهو عبارة عن غرفتين فصلتا في مرحلة قريبة، حيطانها عبارة عن قناطر نصف دائرية تشكّل جزءاً كبيراً من السطح، وترتفع فوق تلك القناطر قبتان سريريتان، القبة الرئيسية حجارتها كلسية مرصوفة بشكل دائري تلتقي في أعلاها بحجر ارتكاز، أو ما يُسمّى المفتاح، إلا أنّ القبة الشرقيّة تبدو أكثر روعة، فحجارتها رملية، وهي مستديرة بشكل محكم، ما يدل على كونها أحدث عهداً من الغربية، وللغرفة الشرقية بابان: أحدهما شمالي والآخر جنوبي، ومنه تدخل إلى الصحن الثالث للمقام، إلى غرفة تُدعى "غرفة أم النبي". في حائطها الجنوبي محراب حجري جميل وأريكة للجلوس في الحائط الشرقي، كما تعلوها قبة في حجم القبتين السابقتين، لكنها تختلف في هندستها إذ يوجد إطار من الحجر للتزيين أو لتوزيع الثقل، بين القبة والقناطر، وهي تفتقد للنوافذ الصغيرة بعكس سابقتيها، وفي الجهة الغربية الموازية لهذه الغرفة هناك غرفة رابعة تسمّى "غرفة الجامع" في حائطها محراب حجري أيضاً، وقبتها تشبه إلى حدٍ كبير قبة "أم النبي" ما يدل على أنّ الباني لهما واحدٌ.
أمّا المئذنة فإنّها توجد في الزاوية الشمالية الشرقية للمقام وخلف القنطرة الثالثة للصحن الخارجي، فوق بابها حجر فيه ثلاث نتوءات متساوية ومربعة، وفي زاويتها الشمالية الغربية، يوجد الحجر الذي يؤرّخ بناء المقام، وترتفع المئذنة خمسة وعشرين متراً، وكان الجزء العلوي لهذه المئذنة قد تعرض للهدم(28) منذ فترة، ولعملية بنائها كرامة سأذكرها في كرامات شمعون.
وهناك عدة أملاك تابعة لأوقاف شمعون الصفا(ع) منها:
أ‌-
غرف المقام الأربع مع المدخل مع المئذنة.
ب‌- الساحة الداخلية.

ت‌- المقبرة الموجودة في الساحة الخارجية للمقام.
ث‌- المقبرة الموجودة تحت المقام من الناحية الشمالية الغربية، والتي تحوّلت إلى مكان خالٍ من القبور بعد انهدام حائط(29) السور الغربي.
ج‌- الغرف المحيطة بالمقام من جميع الجهات، ومن بينها المعصرة الأثرية القديمة، وغرفة المنزول، والقبو والغرفة الموجودان من الناحية الجنوبية للمقام.
ثانياً: قطعة أرض تدعى الحمّارة، وهي القطعة التي بنيت فيها الحسينية والجامع الجديد، ومساحتها أربع دونمات.
ثالثاً: قطعة أرض ثانية تُدعى "خلة الناقة" بالقرب من بلدة طيرحرفا، تبلغ مساحتها المزروعة أربعين دونماً.
رابعاً: قطع أراض كثيرة، وهبت أو بيعت -سابقاً- لبعض الأهالي، وتُقام عليها بعض البيوت، ولا تزال أسماؤها تشهد على تبعيتها للوقف.
خامساً: أشجار زيتون كثيرة في البلدة والجوار تُعرف "بزيتونات النبي" و"بستان الوقف".
سادساً: أشجار زيتون كثيرة في بلدة قانا الجليل.
كراماته:
كرامات شمعون لا تعد ولا تحصى، يقول الشيخ إبراهيم سليمان: "وفي مقامه روحانية، وله كرامات، ونذره مستجاب مجرب مراراً"(30).
من هذه الكرامات نذكر هذه القصة:
طلب زعيم البلدة سابقاً من حاجة مؤمنة أن تملأ له جرة ماء من بئر النبي شمع(ع)، فذهبت الحاجة وملأت الجرة، وأرادت أن تحملها وإذا بها تسمع زغردة ترتفع أمام المقام يرافقها التكبير والتهليل، فتركت الجرة مكانها وتوجهت نحو الصوت، وإذا بمجموعة من الزائرين والدهشة بادية على وجوههم، وبينهم امرأة في الأربعين من عمرها، تتكئ على عصا لها فسألتهم الحاجة عن سبب الزغردة، فأجابتها المرأة قائلة: اسمي فاطمة، من بلدة جويا، مات والدي وأنا طفلة صغيرة، فقامت أمي بأعباء تربيتي، ثم توفت الوالدة أيضاً، وأنا في الرابعة عشرة من عمري، ومرت أيام وأيام، وفي ليلة جمعة كنت أصلّي، أحسست بوجع في ظهري، ولم أستطع الوقوف معه، وهذا أدى إلى حصول شلل نصفي لي، أقعدني في منزلي أربع سنين، لا أستطيع الوقوف إطلاقاً، وفي إحدى الليالي جاءني رجل في المنام وقال لي: "إن ذهبت إلى مقام شمعون الصفا فستشفين بإذن الله".
وجئت البارحة إلى هنا، وعند طلوع الشمس جاءني شمعون الصفا(ع) في المنام وطلب مني الوقوف، فاستيقظت مباشرة وحاولت الوقوف على قدمي، فاستطعت الوقوف، وهؤلاء أهل بلدتي يهللون لذلك ويكبّرون.



الهوامش:

7- الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز: النابلسي، عبد الغني، ت رياض مراد- دار المعرفة ص 291 و292.
8- "الشيخ حسين بن جمال الدين بن يوسف بن خاتون العيناتي، فاضل عالم صالح فقيه معاصر"، أمل الآمل: الحر العاملي، ص68.
9- أعيان الشيعة: الأمين، ج5، ص 467- 468، ويذكر الشيخ علي الزين ما ذكره السيد الأمين، راجع: للبحث عن تاريخنا: الزين، ص 329.
10- الكشكول: البحراني، ج1، ص 429.
11- خطط جبل عامل: الأمين، ص 230.
12- الكشكول: البحراني، ج1، ص430.
13- المصدر نفسه.
14- الكشكول: البحراني، ج1، ص 430.
15- الكشكول: ج1، ص 430.
16- أعيان الشيعة: ج3، ص549.
17- جبل عامل بين 1516- 1697: درويش، ص 101.
18- خطط جبل عامل: ص 238.
19- جبل عامل بين 1516ـ 1697: ص 102.
20- في ليلة 21/ 5/ 2000، رأيت في الحلم "بأنني في مقام النبي شمع، فنظرت إليه، فرأيته بالشكل الذي هو عليه الآن بعد الترميم، وقد أُزيلت الطبقة الكلسية، وتم تكحيل الحجر، فتقدمت إلى بوابة "أم النبي"، فرأيت كتابة تذكر بأنّ المقام من بنت جبيل، وأنه باع متجره من أجل بنائه، ثمّ وقفت على السور الغربي، وإذا بسماحة السيد حسن نصر الله، يسير خلفه شبان كثر عليهم سيماء الإيمان، فصعد إلى المقام وزاره ثم تابع سيره باتجاه بقية قرى الشريط". وقد رويت المنام إلى أهل بيتي وأصدقائي قبل عملية الترميم هذه.
21- خطط جبل عامل: الأمين، ص 308، وكانت صور تحت حكم الفاطميين سنة 482هـ و 486هـ راجع للبحث عن تاريخنا: الزين، ص176.
22- تاريخ جبل عامل: آل صفا، ص 35.
23- للبحث عن تاريخنا: الزين، ص 177.
24- المصدر نفسه: ص 177.
24- آل صفي الدين القدامى يعرفون حالياً بآل رضا.
25- استخدمت هذه الحجارة كثيراً في زمن السلطان سليم فأخذت اسمه، لكنها في القديم تُسمى بالحجارة المنصورية نسبة لبلدة المنصوري.
26- كتبت هذه الجملة أثناء وجود الاحتلال الاسرائيلي.
27- أُزيلت هذه البوابة أثناء الاحتلال، وأبدلناها لاحقاً ببوابة خشبية أنيقة.
28- حدث هذا قبل سنة 1875م بسبب صاعقة من السماء، لذا رسمها تيلور في رحلته مع لويس لورتيه ناقصة.
29- أثناء الاحتلال تمّ توريق الحائط الغربي للسور مما أدّى إلى انفجاره في فصل الشتاء وتمّ ترميمه بالإسمنت، فذهبت قيمته التاريخيّة.
30- بلدان جبل عامل: سليمان، ص 554.

المصادر:
1- القرآن الكريم.
2- جابر، علي داود: شمعون الصفا (ع) [بطرس] بين المسيحية والإسلام. ط1، دار الهادي، بيروت، لبنان، 1422هـ- 2002م.
3- الأمين، السيد محسن: خطط جبل عامل. ط1، 2002م.
4- سليمان، الشيخ إبراهيم: بلدان جبل عامل. ط1، 1995م.
5- مقامات الأنبياء والصالحين في منطقة جبل عامل- جنوب النهر: جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافيّة.
6- موقع الدكتور هيثم مزاحم.
7- موقع يا صور.
8- موقع ويكيبيديا.
 

التعليقات (0)

اترك تعليق