أطفال الشوارع: محاولة جديدة للدمج مع الأسر
من مرة واحدة يغلبك العطف عليه، فتقاوم رفضك للبطالة المقنعة والاستغلال، والتنطع باسم الطفولة، ولا تفوق إلا وأنت تجد نفسك متلبساً بمساعدته وإعطائه قطعة من النقود أو أكثر.
إنهم أطفال الشوارع الذين يتجاهلهم المجتمع العربي. من المؤكّد أنّ رعاية الطفولة تحتل أهميّة خاصة في الفكر الاجتماعي المعاصر فالطفل هو مستقبل كل الأمم، وأي جهد يوجه لرعايته وحمايته هو تأمين وتدعيم لمستقبل الأمة، كما أنّ الطفولة هي عطاء الأسرة، والأسرة هي صانعة الطفولة، ومن هنا جاءت استحالة الفصل عملياً بين رعاية الأسرة ورعاية الطفولة لتلازمهما الحتمي.
وقد أكدت العلوم الحديثة أنّ الأسرة التي هي أقدم وأهم الجماعات وأشدها تأثيراً في المجتمع الإنساني الكبير، بل إنها الأقوى في فاعلية تشكيل الطفل وتكوين المجتمع الإنساني الكبير وتحديد مسارات سلوكه وتنمية قيمه وعاداته، والقارئ لتاريخ القدماء المصريين سوف يجد أنهم التفتوا إلى أهمية رعاية الأسرة والطفولة في تكوين مجتمع سليم، وذلك نلاحظه بقوة في الآثار والنصوص التي تركوها مثل (كتاب الموتى) وتعاليم الوزير (بتاح حتب) التي أكدت على ضرورة رعاية اليتامى والأرامل والمعاقين والمحتاجين لتأكيد روح التضامن في المجتمع الواحد. ويشكل الأطفال شريحة كبيرة ومهمة في الهرم السكاني لمصر، حيث تصل نسبة الأطفال الأقل من 15 سنة إلى حوالي (40%) من إجمالي السكان. وقد انتشرت ظاهرة أطفال الشوارع عالمياً ومحلياً، وتحولت إلى أزمة تنذر بضياع مستقبل وحياة العديد من الأطفال الصغار المشردين، الذين قذف بهم قاع المجتمع إلى الشارع، وعلى الرغم من أن هناك افتقاراً شديداً إلى الإحصاءات الدقيقة عن أعدادهم وفئاتهم العمرية، وأماكن تجمعاتهم لعدم إمكان تحديد وجودهم فإنّ هيئة الأمم المتحدة قدرت عددهم بنحو (40 مليون طفل) يتمركز منهم (25 مليوا) بأمريكا اللاتينية حيث البرازيل هي الأكثر تضخماً بالمشكلة التي تليها المكسيك، وتحتل القارة الأفريقية المرتبة الثالثة بعد أمريكا اللاتينية وآسيا في انتشار هذه الظاهرة، وتفتقر الدول العربية بصفة خاصة إلى إحصاءات دقيقة لهذه الظاهرة، على الرغم من انتشارها بكثافة في دولة مثل السودان التي نمت بها هذه المشكلة أكثر وأكثر نتيجة للصراع المسلح ونتيجة لموجات الجفاف والتصحر، هذا بالإضافة إلى الأردن والمغرب واليمن، وأخيراً مصر حيث يمثل أطفال الشوارع دون سن الخامسة عشرة بها حوالي (4%) من إجمالي السكان وذلك عام 1986م.
ظروف صعبة:
وأطفال الشوارع هم أطفال يعيشون في ظروف صعبة، بالطرقات والميادين والمباني المهجورة والأراضي المهملة، غالباً ما يكونون أطفالاً تمّ التخلي عنهم من قبل أسرهم أو أنهم هم الذين تركوا الأسرة برغبتهم، تتعدد أسباب لجوئهم إلى الشارع فمنها الأسباب الأسرية: كطلاق الوالدين أو وفاة أحدهما أو كلاهما، والتفسخ الأسري بأشكاله المختلفة هو عامل مهيئ للانحراف.
وهناك أسباب مجتمعية وهي ما تعاني منه معظم الدول العربية: كالفقر، البطالة، التسرب من التعليم. ويعد الفقر أهم الأسباب لكنه لا يؤدي وحده إلى هذه الظاهرة أو إلى الانحراف بصفة عامة لكنه يتفاعل مع غيره من العوامل الأخرى في أحداث الانحراف.
ولأطفال الشوارع سمات خاصة بهم ندرك منها القليل، فقد يتميزون بالتحرر وإدراك قيمة الحرية من وجهة نظرهم، يرفضون الامتثال لسلطة الكبار، من الصعب تجانسهم مع الأسرة، ليس لديهم ثقة بالآخرين مهما فعل الآخرون لكسب ثقتهم، لديهم عدوانية غالباً ما يكون سببها أنهم تعرضوا لنمط من الرعاية به عدم قبول أو يحوي إساءة لفظية وبدنية أو إهمالاً، يمكن أن يكون طفل الشارع مدخناً أو مدمناً، ليس لديه مبدأ الصواب والخطأ، مشاغب، غالباً ما تكون أسرة طفل الشارع من الأميين.
خطورة ظاهرة:
ويمثل طفل الشارع خطراً على نفسه وعلى حياة الآخرين، فطفل الشارع ليس لديه إمكان إقامة علاقات إنسانية سليمة بغيره من الناس، حيث إنه هائم على وجهه في أغلب الأحيان يهاب الآخرين، ويخشى التعامل معهم، وبالتالي لا يشعر بتأثير الجماعة عليه أو يرتبط بها أو يحاول إرضاءها، ما يزيد من عدوانه عليها، بالإضافة إلى أنّ المجتمع ذاته ينبذ أطفال الشوارع ويتأفف من مظهرهم ولا يحاول أفراده التقرب منهم أو حل مشكلاتهم. إنّ أطفال الشوارع خسارة اقتصادية خطيرة على المجتمعات التي تفقد عناصر بشرية يمكن أن تساهم في عملية البناء والتنمية بها. فهم خسارة لأنفسهم ولمجتمعاتهم لأنهم قوى عاملة معطلة عن العمل والإنتاج.
وتكمن خطورة ظاهرة أطفال الشوارع أيضاً في خطر الفساد الخلقي الذي يتعرض له الطفل أكثر من كمونها في الإجرام الحقيقي، حيث نجدهم يتعرضون للسقوط في هوة الإدمان أو الشذوذ نتيجة ما يتعرضون له من ضغوط من رفقائهم أو العصابات التي تجبرهم على الانضمام إليها.
ومن الضروري أن تهتم المجتمعات بصفة عامة والمجتمعات العربية بصفة خاصة بعلاج تلك الظاهرة وعدم ترك الأمور للمصادفة، فهؤلاء الأطفال في حاجة إلى احتوائهم نفسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، وعلى المجتمع أن يهتم بأسرهم وتلافي الأسباب المؤديّة إلى هجر الأسرة، وذلك من خلال إنشاء ملاجئ، ومراكز إيواء من أجل ضم الأسر المشردة ولمّ شملها والعناية بها.
محاولة للدمج:
على الدول العربية الاهتمام باحتواء هذه الظاهرة عن طريق التوسع في إنشاء وحدات اجتماعية شاملة وعيادات نفسية بالمؤسسات المختلفة، هذا بالإضافة إلى الرعاية الاجتماعية والنفسية للطفل والأسرة. فضلاً عن إنشاء وحدات خاصة لتقفي أثر هؤلاء الأطفال، والتعرف على أسباب لجوئهم إلى الشارع، وتشجيع الدراسات والبحوث الخاصة بهذه الظاهرة لتجنب أسبابها على المدى الطويل، بالإضافة إلى إقامة وحدات علاجية مجانية لهم حتى لا يقعوا صرعى مرض الإيدز أو الأمراض المعدية المختلفة كالجرب وأمراض العيون والروماتيزم وكل الأمراض الناتجة عن الإهمال أو عن الغذاء غير السليم.
وقد دعت دراسة للدكتور أحمد موسى إلى محاولة دمج هؤلاء الأطفال في أسرهم مرة أخرى عن طريق التحدث إلى الأسرة والتعرف على مشكلاتها ومساعدتها، وذلك من خلال تقوية دور الأخصائي الاجتماعي والمراكز الاجتماعية التابعة للدولة والتي من خلالها يتم جذب هؤلاء الأطفال من الشارع إلى المؤسسات المتخصصة، ومساعدتهم حتى يشعروا بالأمان الاجتماعي والأمن المفقود لديهم، يمكن لهذه المؤسسات أن تلعب دوراً مهماً أيضاً في تعديل الأنماط السلوكية غير المرغوب فيها لهؤلاء الأطفال، بالإضافة إلى إكسابهم سلوكيات اجتماعية مقبولة بإشراكهم في ممارسة أنشطة وبرامج هادفة، والتعرف على هواياتهم وتنميتها، وقد تسهل المهمة على الباحثين إذا لجأوا للأبحاث والدراسات التي تقوم بها معاهد البحوث التربوية المختلفة وكليات التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع التي تُحنط فوق أرفف مكتبات الجامعة أو في أرشيفها!
المصدر: البيت العربي، العدد 12.
اترك تعليق