الأسرة والمجتمع موئل التربية المثلى
الأسرة خلية أساسية في المجتمع ينبغي إحاطتها بكل رعاية، فالبيت هو المكان الذي تلتقي فيه النفوس على المودة والرحمة والتعاطف، ولا بد من العناية البالغة بتنظيم الأسرة، بوضع نظام محكم لها إذا سار الناس عليه استقرت أمورهم وعاشوا بأمان وطمأنينة وسعادة.
أما الأولاد فهم غراس الحياة، وقطوف الأمل، وقرة العين، وهم البشرى، وهم زينة الحياة الدنيا، وهم المودة والرحمة بل هم زهور الأمة وبراعم الإنسانية.
أما التربية فهي في جوهرها الجماعي إنما هي الحياة، لأنها تمثل عملية التفاعل المتطور بين الكائن الحي وبيئته.
وثمة في هذه العملية جانبان: الجانب الأول: هو المتعلم النامي، والجانب الثاني: هو الجماعة المحيطة والحياة الأسرية، والمجال الثقافي الذي ينمو فيه باضطراد متزايد، والتربويون الذين يهتمون بالجانبين معاً يعملون على أن يعيش الطفل وهو ينمو بالتدرج، عيشة كاملة وسعيدة، ويحرصون بالنسبة للجماعة على أن يساهم الطفل بدوره مساهمة مثمرة مصحوبة بالشعور بالمسؤولية في تقدم الحياة المشتركة. هذه هي كبرى المنطلقات التأسيسية في الفكر التربوي العملي (...)، ولا بد من استجلاء كنه الأهداف التربوية والتعليمية التي تنهض بها الأسرة، وتعمل على تحقيقها في الجيل الذي تربى وتعلّم. ذلك أن الأسرة تعتبر ركناً أساسياً من أركان العملية التربوية وإعداد النشء للحياة فعليها تتوقف آثار عوامل التربية الأخرى جميعاً سواء في ذلك العوامل المقصودة كالوراثة والبيئة الجغرافية واللعب والتقليد، أما العوامل غير المقصودة كأعمال المدرسة والمعلمين، فبصلاح الأسرة وجهودها الرشيدة تصلح آثار هذه العوامل وتؤتي أكلها، وبفساد الأسرة وانحراف أعمالها تنحرف العوامل عن جادة القصد ويجانبها التوفيق. وللأسرة فضلاً عن ذلك وظائف تربوية خطيرة خاصة بها لا يكاد يشاركها فيها غيرها، ولا يغني غناءها أي عامل آخر، ذلك أن التفاني في التربية والتهذيب من شأنه أن يفضي إلى غرس المثل العليا في نفوس الأطفال، والتشجيع على المضي في طريق الحياة كرجال، وأن تربي أبناءها وتحسن تربيتهم، وترعاهم وتحسن رعايتهم. بحسبان أن المنزل عماد المجتمع والأم هي المربي الأمثل له، والمسؤول الأول عنه، وعن سعادة أفراده، وعليها وحدها تقع مسؤولية إعداد النشء إعداداً صحيحاً، وتربية الجيل تربية صالحة ليكون موضع افتخار الأسرة واعتزازها في طفولته، وعماد رقي الأمة وتقدمها في رجولته، وذخر الوطن وفداءه وقت الذود عن حماه، والتشجيع والتعاون على رفع شأن الوطن المفدى إلى أسمى درجات الرقي والكمال.
فواجب الأم أن تخلق من الدار مملكة صغيرة تتوفر فيها جميع أسباب الراحة والحبور والصحة والنشاط والترتيب والنظام، وذلك ضمن منهج تربوي شامل متكامل كل جزئية فيه مقصودة، وكل كلمة فيه بحساب، يؤدي مهمته في توجيه النفس إلى الخير وتعويدها على الالتزام والصلاح، منهج للتربية لا يترك صغيرة ولا كبيرة، يشمل النفس الإنسانية كلها بحذافيرها ويشمل الحياة البشرية بالتفصيل، فهو النموذج الحي للتربية، سواء بأخلاقه الذاتية أو بتوجهاته للأبناء، وعندئذٍ تستقيم الأمور على النهج وتتجمع على الغاية فتلتقي النفس من داخلها في سلام بعضها مع بعض، وفي سلام من خارجها مع الكون والناس والحياة، ولا يكفي أن تلتقي التربية على أن هدفها هو إعداد المواطن الصالح، وإنّما خَلْقُ الإنسان على إطلاقه بمعناه الإنسان الشامل بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان بكل مكوناته: جسمه وعقله وروحه حياته المادية والمعنوية وكل نشاطه، ولا يعالج كلاً منها على حدة ولا يعالج بعضها ولا يهمل بعضها الآخر، وإنما يعالج الأمور مجتمعة بعد أن يتناول كل جزئية على حدة كأنه متفرغ لها ليس في حسابه سواها.
ثم الشمول على هذا المستوى من الدقة، الشمول الذي يتناول الجزئيات جميعاً في وقت واحد، ولا يفصل داخل النفس بين الجسم والعقل والروح، ولا يفصل في واقع الحياة بين هذه الطاقات، بل يأخذها بفطرتها السوية ممتزجة ومترابطة ويرسم لها دستورها على ذلك الأساس، ذلك أن استغلال طاقات الإنسان كلها من شأنه أن يحدث توازناً في داخل النفس وواقع الحياة. علماً أن الوصول إلى التوازن في حياة الإنسان -المتعدد الطاقات والاتجاهات- ليس أمراً هيناً في الحقيقة، لأنه جهد للتوفيق بين الضرورات القاهرة والأشواق الطائرة. جهد التوفيق بين ما يجب أن يكون وما يمكن أن يكون، جهد التوفيق بين مطالب الفرد الواحد المتعددة المتعارضة وبين مطالب المجموع.
وهذا كله من السمات الحميدة السوية في المنهج مدار البحث التي لا تتنكب الطريف فهي قوة فاعلة موجهة مريدة، قوة دافعة إلى الأمام بغير طغيان، وقوة مثالية تسير على واقعية تشمل المثال في أطوائها ومثالية لا تغفل واقع الحياة.
ولا بدّ من التنبيه إلى أن هذا المنهج ينبغي أن لا يهمل مبدأ الحب الذي هو الأساس في العلاقات الإنسانية، فقد قال تعالى مرشداً نبيه(ص) إلى معنى الحب السلوكي كما يراه المتقلي «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» [الحجر: 88]، «وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» [آل عمران: 159]، «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إن صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ» [التوبة: 103]، وقال(ص) معلماً إياناً الحب «لينوا في أيدي إخوانكم»، «تبسمك في وجه أخيك صدقة»، «وضعك اللقمة في فم زوجتك صدقة». وكل ذلك يؤكد أن الحب الذي يُراد إشاعته هو ممارسات عملية، وأعمال تؤدى، وسلوكيات ظاهرة جلية عملية يمكن أن تنصرف لدى المحبوب فيفهمها عقله وترتاح له نفسه ويحولها قلبه إلى رصيد عاطفي جيّاش، كما يتوق المحبوب معها إلى رد الجميل بأداء فعل جميل يعكس مشاعره وما استقر في قلبه من تصديق لود من وَصَلَهُ وأَحَبَّهُ. وعندما تعن الحاجة إلى الحب فإن الإنسان يتففن في لفت الناس إليه حتى يتمكن من إشباع حاجته، فالطفل يتعلم في وقت مبكر من عمره كيفية جذب انتباه والديه إليه أو معلميه إليه بوسائل مبتكرة، قد يكون منها الصحي كالتودد والطاعة والسلوك المهذب، وخفة الدم، ومنها غير الصحي كالعناد والمشاكسة والفعل السخيف من باب (خالف تعرف) لكن القاسم المشترك لهذه الوسائل هو أنها تهدف في نهاية المطاف إلى تلقي نظرات الاهتمام التي يحتاجها الفرد، والتي تدخله في دائرة الضوء وتشعره بالأمن والانتماء إلى من يهمه أمرهم.
وإذا كانت الهموم أكثر من أن تحصى، فلا بد من الترويح عن النفس بشتّى الوسائل ومنها الضحك والمرح والتسلية والذي نقصد منه هو شحن الطاقات لاستيعاب المصاعب من أجل القدرة على تجاوزها أو التخفيف منها.
ولا بدّ من الإلماح إلى أن حُسن الخلق لا يؤسس في الأسرة بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة، إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: اِفعل كذا، أولا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج تربية طويلة، وتعهداً مستمراً.
ولن تصلح التربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالشخص السيئ لا يترك في نفوس من حوله أثراً طيباً، وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد إلى شخصه فيروعها أدبه ويسبيها نبله، وتقتبس -بالإعجاب المحض- من خلاله، وتمشي بالمحبة الخالصة– في آثاره..
بل لا بد –ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل– أن يكون في متبوعه قدر أكبر، وقسط أجل.. فيكون بين أسرته مثلاً أعلى للخلق الذي يدعو إليه، ورمزاً للقيم الفاضلة فهو يغرس فيمن حوله الخلق السامي بسيرته العطرة قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات.
وإذا كنا قد أوضحنا معالم المنهج الذي يتعين على المربي أن يتبعه فلا بدّ أن نبين آثار المنزل في عوامل التربية الأخرى:
1- فعلى المنزل يتوقف عمل الوراثة نفسها، فبمقدار دقة كلا الزوجين في اختيار زوجه وحرصه على أن يكون من سلالة طاهرة ومنبت صالح وعلى أن يكون خالياً من العيوب الوراثية الجسمية والعقلية والخلقية، بمقدار هذه الدقة وهذا الحرص يتحقق في النسل الآثار التربوية الصالحة للوراثة، ويعصم من آثارها السيئة.
2- وبمقدار نشاط المنزل وحرصه على الإفادة من الوسط الجغرافي المحيط به ومن خبرات بيئته الطبيعية، ومبلغ كفاحه ونجاحه في التغلب على مساوئها ومعوقاتها، وحسن توجيهه للأطفال في هذه الأمور، تتحقق فيهم الآثار التربوية الصالحة لبيئتهم الجغرافية، ويُجنَّبون ما تنطوي عليه من مفاسد وشرور.
3- وأول ما ينتقل إلى الطفل عن طريق التقليد في الصوت والحركة لغة آبائه وأفراد أسرته وأعمالهم وسلوكهم ومناهجهم في الحياة، فبمقدار سمو المنزل في هذه الأمور تسمو آثار التقليد التربوية في الطفل، وبمقدار انحطاطه فيها يكون عامل التقليد وبالاً عليه.
4- ومعظم فترة الألعاب يقضيها الطفل في المنزل، ومعظم ألعابه يؤديها تحت إشراف أفراد أسرته وتوجيههم ويقتبس كثيراً من عناصر أعمالهم، فكلما كانت بيئة المنزل مساعدة على النشاط اللعبي، وكانت الأسرة رشيدة في توجيه أطفالها وإشرافها عليهم في ألعابهم، وكانت أعمالها نماذج رفيعة لما يأتونه من حركات، آتى اللعب أُكُلَهُ وحقق فوائده في التربية وساعده على إعداد النشء إعداداً صحيحاً للحياة.
5- وعن طريق المنزل تحقق البيئة الاجتماعية آثارها التربوية في الأطفال، فبفضله تنتقل إليهم تقاليد أمتهم ونظمها وعرفها الخلقي وعقائدها وآدابها، وفضائلها وتاريخها، وكثير مما أحرزته من تراث في مختلف الشؤون. فإن وُفِّقَ المنزل في أداء هذه الرسالة الجليلة وكان موصلاً جيداً لهذه الأمور حققت البيئة الاجتماعية آثارها البليغة في التربية، وإلا أفسد عليها المنزل عملها، فلم يفد منها الطفل إلا بآثار تافهة أو إنه لم يصبه منها إلا الشرور والأضرار.
6- وعلى مقدار المعونة التي يقدمها المنزل للمدرسة وتضافره معها في تحقيق أغراضها وعمله على تكملة نقصها وما يبذله من جهد في تدارك ما يتخلف عن أعمالها من ثغرات في شخصية الطفل وفي تربيته، على هذه الأمور يتوقف سير المدرسة ومبلغ نجاحها في أداء رسالتها في تربية النشء.
7- والمنزل هو العامل الأساسي الوحيد للحضانة والتربية المقصودة في المراحل الأولى للطفولة، ولا تستطيع أية مؤسسة عامة أن تسدّ مسدّ المنزل في هذه الشؤون. ولا يقصد من دور الحضانة أو الكفالة التي تنشئها الدولة والهيئات لإيواء الأطفال في مراحلهم الأولى إلا تدارك الحالات التي يحرم فيها الطفل من الأسرة أو تحول فيها ظروف قاهرة بين الأسرة وقيامها بهذه الوظيفة. ولا يتاح لهذه المؤسسات، مهما حرصت على تجويد أعمالها، أن تحقق ما يحققه المنزل في هذه الأمور.
8- وعلى المنزل يقع قسط كبير من واجب التربية الخلقية والوجدانية والدينية في جميع مراحل الطفولة بل في المراحل التالية لها كذلك.
9- وبفضل الحياة في الأسرة تتكون لدى الفرد الروح العائلية والعواطف الأسرية المختلفة وتنشأ الاتجاهات الأولى للحياة الاجتماعية المنظمة. فالأسرة هي التي تجعل من الطفل إنساناً مدنياً وتزوده بالعواطف والاتجاهات اللازمة للحياة في المجتمع وفي البيت.
وظاهر مما تقدم أن نظام الأسرة نظام اجتماعي بحت، يمليه عقل المجتمع وتتحكم فيه إرادته، وهي في جوهرها صورة عن المجتمع ومجمع لشؤون التربية، وغرس القيم وترسيخ المبادئ، وإن نظام الأسرة في أمة ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقدات هذه الأمة وتقاليدها، وتاريخها، وعرفها الخلقي، وما تسير عليه من نظم في شؤون السياسة والاقتصاد والتربية والقضاء، وما تمتاز به شخصيتها الجمعية، ويكتنفها من بيئة وظروف في شتى فروع الحياة.
والأسرة والمجتمع هو الذي يجعل من حب الوطن والتفاني في سبيله سجيةً يتمثل في كل نفس كبيرة، وقد أوحت هذه الوظيفة بأعظم ما حفظه لنا التاريخ من المآثر وجليل الأعمال، وأبلغ ما جادت به القرائح من روائع الآيات والأقوال.
وإذا توجهنا نحو المجتمع لنرى آثاره في التربية تبيّن لنا أن المجتمع هو المثل الحي الذي توجد به القدوة الحسنة والأسوة الحية الصالحة.
إن المجتمع الواعي ذو تأثير في السلوك، وهو يستطيع بحكم التربية والتوجيه السليم أن يدفع بالأمة إلى التزام المثل العليا، والمبادئ السامية التي تقوم عليها حياة الأمة، ويوجد التكافل وكل ما يدعم الروابط ويملأ القلوب صفاءً ومحبةً ووفاءً وإخلاصاً. ذلك أن وظيفة المجتمع في الحياة رسم الخطة الواضحة والاتجاه المستقيم، وغرس المعاني النبيلة في النفوس، وتوضيح الطريق الأفضل المؤدي إلى التقدم والازدهار. وليشعر كل فرد بأنه مسؤول مسؤولية مباشرة ضمن نطاق عمله، وأن عليه من ثم أن يتفاعل مع المجتمع ويعمل بخطى ثابتة، وسواعد قوية، لكل ما من شأنه أن يُعلي مجد الوطن، وهكذا يغدو المجتمع عاملاً حيوياً من أهم عوامل التوجيه الفكري والبناء الاجتماعي والتربية الصالحة، ودعامة ثابتة من أقوى الدعامات وأرسخها في تكوين الأفراد واستمرار الروح التعاونية. وما أحوج الأمة إلى أن تتضافر جهود أبنائها كلّ في ميدان عمله، وأن يعمل الجميع يداً واحدة وقلباً نابضاً بالمودة والإخاء لما فيه الخير والفلاح، والقوة والمنعة للوطن الغالي، الذي ترنو إليه الأبصار، وتلتقي حوله القلوب دعماً وتعزيزاً، وحباً وتكريماً، وسعياً لرفع رايته خفاقة في سماء الخلود.[...]
المصدر: مجلة الباحثون، العدد 64.
المحامي المستشار أكرم القدسي.
اترك تعليق