مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الأسرة النووية والأسرة الممتدة

الأسرة النووية والأسرة الممتدة

يمكن القول بأن الكثرة الغالبة من علماء الاجتماع البارزين -خاصة من جيل الرواد- كانوا يميلون إلى الاعتقاد بأن الأسرة تتطور من أشكال كبيرة إلى ممتدة إلى أشكال أصغر فأصغر باستمرار. من هذا مثلا، رأى دوركايم الذي كان يعتقد أن الأسرة أخذت في ظل الثقافات الراقية القديمة تتقلص من أكبر أشكالها المعروفة إلى أشكال أصغر فأصغر.

ولو أنه لم يستبعد احتمال بقاء بعض الأشكال القديمة في فترات أحدث تاريخياً. وهكذا استطاع أولئك العلماء أن يحددوا الأنماط الأسرية التالية التي كانوا يعتقدون أنها كانت موجودة في مجتمعات العالم القديم.
(أ) الجماعات القرابية الشديدة الاتساع، من ذلك النوع الذي كان موجوداً في الإمبراطورية الرومانية القديمة.
(ب) الأسرة الكبيرة التي كانت تتكون من الإخوة وزوجاتهم وأولادهم الذين يعيشون معاً في ظل حياة مشتركة لا تعرف تقسيم الميراث.
(ج) الأسرة الأبوية الكلاسيكية، وهى الأسرة التي تضم أجيالا متعددة في خط الذكور.
(د) أسرة الأب، وهي التي تتكون من الزوج والزوجة (أو الزوجات)، والأطفال القصر، والأقارب الذين يشاركون الأسرة حياتها لسبب أو لآخر.
فإذا قارنا هذه الأنماط الأسرية على أساس عدد الأفراد الداخلين في تكوين كل منها، فسوف نصل بالضرورة تدريجياً مع اضطراد التطور الاجتماعي، إلى الأسرة الزواجية. وقد أطلق دوركايم على هذه الظاهرة اسم"قانون تقلص حجم الأسرة" أو قانون التناقص Loi de Contraction وتنقسم التفسيرات التي قدمت لتعليل هذا التطور إلى قسمين رئيسيين هما:
(أ) التفسيرات البنائية.
(ب) التفسيرات التاريخية.
والملاحظ أن دوركايم في تفسيره لتطور أشكال الأسرة قد لجأ إلى كل من التفسيرين دون أن يراعى بما فيه الكفاية اختلافهما عن بعضها اختلافاً أساسياًّ. فالتفسير البنائي ينطلق من قضية مؤداها أن كثافة العلاقات المتبادلة داخل أسرة الأب (وهى أقرب الأشكال السابقة للأسرة النووية) تنخفض عن كثافة تلك العلاقات في الأشكال الأسرية السابقة. وهنا نلمس بوضوح أن دوركايم قد ركز على القضية المفضلة لديه، أعنى قضية التضامن Solidarite، وهو هنا التضامن الأسرى، أو درجة التماسك داخل الأسرة، وهى القضية التي عالجها في دراسته عن الانتحار.Suicibe  أما التفسير التاريخي فينطلق من فرض مؤداه، أنّ التتابع البنائي لتلك الأنماط الأسرية هو نتيجة تطور تاريخي في اتجاه واحد (أو هو تطور خطى- Luieart  لا عودة فيه إلى الوراء).
وهنا تبدأ المشكلات وتثور الاعتراضات التي سنحاول أن نفصل الكلام فيها فما يلي. من الأمور المعروفة، والتي أشار إليها أكثر من دارس من المتخصصين في الأسرة أنه ليس لدنيا حتى الوقت الحاضر تأريخ سليم وشامل لنظام الأسرة يغطى مراحل تطورها منذ العصور القديمة حتى الوقت الحاضر. ولم يوجه المؤرخون بعامة، ولا علماء التاريخ الاجتماعي والتاريخ الاقتصادي عناية كافية لهذا الموضوع، اللهم بعض الاستثناءات القليلة. ولعل من أبرز الشواهد على نقص معلوماتنا التاريخية عن تطور الأسرة الانطباع الذي نخرج به من دراسة بانوس بارديسPanos Bardis  من أن كلاًّ من العبريين، والإغريقيين، والرومانيين القدماء والمسيحيين الأوائل.. إلخ، لم يكونوا يعرفون سوى نمط واحد من أنماط الأسرة. وهو تصور متخلف بالقياس إلى تصورات دوركايم عن تطور الأسرة. إذ أنه من المؤكد أن كل مجتمع من المجتمعات المذكورة كان يعرف أكثر من نمط من أنماط الأسرة. ومن الواضح أن إدراك هذه الحقيقة البسيطة يفتح أمامنا الباب لعديد من التساؤلات عن النسبة العددية لكل نمط من تلك الأنماط بالنسبة لبعضها، وعن توزيع هذه الأنماط بالنسبة لطبقات كل مجتمع من تلك المجتمعات وعن عوامل الثقافة التي كانت تحكم كل نمط منها.. إلخ.
وقد أشار رينيه كونيج R. Konig إلى رأى أكده في أكثر من مناسبة وردده بعده ويليام جود W.Goode مؤداه أن فهم هذا الوضع على حقيقته يتطلب منا أن نأخذ البناء الطبقي لأي مجتمع في الاعتبار خاصة وأنه من الأمور الواضحة أن الأسرة النووية في كل تلك المجتمعات كانت هي النمط السائد عند الطبقات الدنيا، على حين أن الأشكال المختلفة للأسرة الممتدة كانت قاصرة على الطبقات العليا أساساً. (وذلك على فرض ألا تكون الطبقات الدنيا- كالأرقاء-مثلا-محرومة من حق الزواج).
فالأسرة الممتدة تشكل نمطا شائعا في المجتمعات البدائية والمجتمعات غير الصناعية, وهذه الأسرة عبارة عن جماعة متضامنة الملكية فيها عامة والسلطة فيها لرئيس الأسرة أو الجد الأكبر، أو بعض آخر هي الجماعة التي تتكون من عدد من الأسر المرتبطة، سواء كان النسب فيها إلى الرجل أو المرأة، ويقيمون في مسكن واحد، وهي لا تختلف كثيرا عن الأسرة المركبة أو العائلة.
والعائلة هذه أو الأسرة الممتدة توجد في القرية أكثر مما توجد في المدن، حيث ترتبط الأسر وتترابط فيما بينهما حيث إن انتماءهم يكون لجد واحد.
أما الأسرة النواة فتعتبر الآن ظاهرة اجتماعية عالمية -وترجع عالمية الأسرة النواة إلى الوظائف الأساسية التي تؤديها والمشكلات التي قد تترتب على قيام جماعة أخرى بهذه الوظائف- ويمكننا أن نلمس أربعة وظائف أساسية تؤديها الأسرة النووية للحياة الاجتماعية الإنسانية هي الوظائف: "الجنسية والاقتصادية والتناسلية والتربوية". ويمكننا أيضا التمييز بين هذه الوظائف الاجتماعية والسيكولوجية التي تؤدّيها الأسرة النووية. فلقد ميز كنجزلى دافيز بين أربعة وظائف اجتماعية أساسية هي: التناسل والرعاية للأطفال والصغار والوضع والتنشئة الاجتماعية. ومن بين الوظائف نجد الوظيفتين الأوليين والوظيفة الرابعة تحتل الأهمية الكبرى، ذلك لأن وظيفة الوضع التي تعنى ربط الفرد بنسق مهني أو تسلسل رئاسي ليست وظيفة عالمية للأسرة النووية فهي توجد فقط في المجتمعات الصناعية الحديثة، أما الوظائف السيكولوجية فتتمثل أساسا في إشباع الحاجات الجنسية للزوجين، ثم تحقيق الأمان العاطفي للزوجين والأطفال على السواء.
ويستند البناء الأساسي للأسرة النووية على مبدأ تحريم الزواج من المحارم ويترتب على ذلك نتيجة هامة هي أن الأسرة النووية لا تستمر عبر الزمان بل إنها تقتصر على جيلين. أما الجيل الثالث فيمكن أن يظهر فقط عندما تتشكل أسر جديدة عن طريق تبادل ذكور وإناث الأسر النووية القائمة، ومعنى ذلك أن كل راشد طبيعي في كل مجتمع ينتمي لأسرتين نوويتين على الأقل: أسرة التوجيه التي يولد فيها ويتربّى بها والتي تضم أباه وأمه وأخوته وأخواته، وأسرة التناسل التي يقيمها بزواجه والتي تشمل زوجته وأولاده.
وتعد الأسرة النووية المستقلة خاصية هامة من خصائص المجتمعات الصناعية الحديثة ويعود شيوع هذه الأسرة إلى عدد من العوامل أهمها سيطرة النزعة الفردية التي انعكست على كثير من المظاهر كالملكية والقانون والأفكار الاجتماعية العامة المتعلقة بسعادة الفرد ورضائه الذاتي، كما يعود إلى شدة كل من الحراك الجغرافي والاجتماعي.
وينقلنا هذا الرأي إلى ضرورة رؤية الموضوع من منظور مختلف، حيث إننا نتساءل عن تجاوز أشكال مختلفة من الأسرة في فترات معينة من حياة كل مجتمع بدلا من التساؤل عن عمومية الأسرة النووية في إطار الأسرة الممتدة، على نحو ما يفعل ميردوك Murdock أو بوتومور Bottomore على سبيل المثال  فالفكرة لم تعد الآن كما لو كان نمط معين (يتحول) على نحو ما إلى نمط آخر، دون أن يتخلف عن النمط أي آثار. وإنما أصبح  محور الاهتمام في حالة الاعتقاد بوجود أنماط متنوعة متجاورة، هو الجوانب البنائية والثقافية لهذا النمط أو ذاك، كذلك مظاهر تقارب الأنماط المختلفة أو تباعدها، أي امتزاجها ببعضها أو انفصالها واستقلالها عن بعضها البعض .ويمكن أن نلحظ بعض هذه الظواهر بشكل واضح عند المجتمعات التي تتعرض لتحولات سريعة. حيث تؤدى أسباب مختلفة إلى تقلص الأسرة الممتدة من الطبقات العليا سريعاً، دون أن يؤدى ذلك إلى اختفاء النظام القانوني للأسرة الممتدة نفسها. وهنا تقترب أشكال الأسرة في الطبقات العليا من شكل الأسرة النووية السائد عند الطبقات الدنيا بحيث يستعصى على الباحث موضوعياًّ أن يميز هذا الشكل الجديد عن الشكل القديم. وبهذا يحدث نوع من التقارب بين نمطين من أنماط الأسرة كانا مختلفين في الأصل. فيتكون بذلك نمط جديد يكون هو الشكل السائد عند غالبية المجتمع. وهذا في الوقت الذي توجد فيه في نفس هذا المجتمع أسر ممتدة طالما أنها تحقق وظيفة معينة, كالحفاظ على ثروة الأسرة مثلا في يد واحدة. وبذلك تتحول هذه الأسرة إلى أقلية وسط المجتمع الكبير وتفقد أهميها الثقافية، ولكنها يمكن مع ذلك أن تظل قائمة كمجتمعات غير رسمية حتى بعد اختفاء القواعد القانونية التي تنظمها، كما هو الوضع على سبيل المثال في معظم المجتمعات الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية. على حين نجدها قد اختفت اختفاء كاملا في المجتمعات الاشتراكية (بالطبع بسبب فقدانها الوظيفة التي تبرر وجودها). ولو أنه ليس من المستبعد تماماً أنها ربما تعاود الظهور من جديد في يوم ما فما بعد تلقائيًّا إذا ما تغيرت الظروف الموضوعية.
ومهما يكن اختلافنا على تصوير التفاصيل الدقيقة. فإن النقطة الحاسمة في مناقشتنا هي أن التحليل البنائي الوظيفي قد حل محل النظرية التي تقول "بترسب" بعض الأشكال القديمة كتفسير لتجاور أكثر من شكل من أشكال الأسرة في مجتمع واحد في فترة معينة. على أن هذا التحليل البنائي الوظيفي لم يعد اليوم يربط الأسرة بالمجتمع الكبير ككيان واحد، وإنما ينظر إليها في ضوء الطبقة الاجتماعية على اعتبار أن الضرورات الاجتماعية والأسس الموضوعية تختلف-اختلافاً قد يكون كبيراً- من طبقة لأخر. وبذلك تستطيع أن تفسير تجاوز عدة أنماط أسرية مختلفة في أي مجتمع طبقي مركب تفسيراً بنائياًّ وظيفياًّ.
وبديهي أن هناك بعض حالات "الترسب" التي قد تكون غير وظيفية من وجهة نظر هذا التفسير. ولكننا يجب أن نسأل أنفسنا في هذه الحالة إلى أي مدى يمكن أن يظل أحد النظم غير وظيفي دون أن يتحول إلى نظام غير سوى وظيفياًّ dysfunction كما أنه يمكن أن يكون وظيفياًّ ظاهرياًّ فقط دون أن يؤدى وظيفة حقيقية، كأن يكون مصدرًا لإضفاء هيبة اجتماعية، أو إكساب صاحبه اعترافًا اجتماعيًّا معينًا، على الرغم من أن الجميع يعرفون تمامًا أنه لا يؤدي أي وظيفة فعلية(كنظام النبلاء بألقابهم وأعرافهم في معظم البلاد الأوربية المعاصرة). وكن القاعدة تظل على أي حال أن هناك أشكالا متباينة من الأسرة، وأنها تختلف تبعًا للبناء الطبقي للمجتمع.
أما عن "التقلص" Contraction بالمعنى المحدد فإننا لا يمكن أن نتكلم عنه إلا بالنسبة للأسر الممتدة التي تقلص حجمها. على حين نجد أن الأسر النووية عند الطبقات الدنيا لم تتعرض طوال تلك الفترة لأي تغير على الإطلاق. أو يحتمل في حالات معينة أن يحدث تطور مضاد لفكرة  التقلص, وأعنى أنه يرتفع مستوى الأسرة الاجتماعي وتتحول إلى أسرة ممتدة على النحو ما أوضح رينيه كونيج R. Konig  في مقاله الهام "مشكلات قديمة ونظريات جديدة في علم الاجتماع العائلي". معنى هذا من الناحية البنائية أن التطور الذي حدث مضاد تمامًا لحركة التقلص، التي يعبر عنها قانون دوركايم. ثم معنى هذا تاريخيًّا, عكس التسلسل التاريخي المزعوم.
الأسرة النووية -والتي يعتبرها البعض نهاية المطاف- لقد تأثرت بالهجرات الداخلية والخارجية فليس غريبا علينا أن نرى أسرة بعض أفرادها في أسوان والبعض الآخر في القاهرة أو الإسكندرية.. وليس عجيبا أن نرى أسرة بعضها في مصر والبعض الآخر في البلدان العربية.. هذا، وأن كان يبدو وكأنه شيء طارئ إلا أن الدراسات الدولية المقارنة في هذا المجال توحي بأن هذا الوضع سوف يستمر بل ويزداد فتنشأ بذلك أسرة نووية من نوع جديد يتسم أفرادها بالفردية المطلقة.. وتتراخى العلاقات بين أفراد الأسرة.. وينشأ تعاون من نوع جديد.. تعاون طوعي بين وحدات مستقلة..لا تعاون قصري تفرضه ظروف الإنتاج المشترك.
وهكذا يمكن أن نخلص إلى أنه ليس هناك مبرر للقول بحدوث تطور خطى مستقيم من أشكال أسرية صغيرة، ولعل الأصواب -ولكنه ليس قاعدة أيضًا- الاعتقاد بأن هذا التطور اتخذ شكلا "إيقاعيًّا" معينًا بل ودائريًّا في بعض الأحيان، يخضع لظروف معينة بالنسبة لكل مجتمع، وهى ظروف يجب الوقوف عليها وتحديدها في كل حالة.
فمن الظروف التي تشجع على وجود الأسرة الممتدة: العزلة السياسية والجغرافية، وضعف نظام الدولة، وبعض الظروف الاقتصادية المحددة (مثل تربية قطعان كبيرة من الماشية والملكية الجماعية للأرض) ثم هناك من ناحية أخرى عوامل تشجع على تقلص حجم الأسرة نذكر منها: زيادة حق الأب الذي خفض الأسرة الكبيرة في الحجم ووصل بها إلى الأسرة الأبوية الكلاسيكية وزيادة الملكية المنقولة (لأنها تيسر عملية تقسم الإرث)، ونمو التجارة ونمو النزعة الفردية. لهذا نجد أن المؤرخين يستطيعون في بعض الأحيان التدليل على تحول الأسرة الكبيرة إلى أسر صغيرة والتدليل في أحيان أخرى على التطور العكسي، وأعنى التكون التلقائي لأسر ممتدة جديدة. ثم يختلف عن هذا كله ظواهر التقارب والامتزاج بين النمطين الرئيسيين، والتي أشرنا إلى طرق منها فيما سبق. ثم علينا علاوة على هذا كله أن نتوقع وجود مستويات مختلفة، متجاورة معا في بعض المجتمعات، كالقبيلة والفخذ والعشيرة والعائلة الكبيرة والأسرة النووية. إذ من الخطأ في هذه الأحوال أيضا اشتقاق مستوى من مستوى آخر أو ترتيب مستوى على مستوى آخر. هذه الجماعات عبارة عن جماعات تعبر عن انتماءات مختلفة بحيث يبرز الانتماء إلى أحدهما في ظرف معين أو يتخلى عن هذا الانتماء في ظرف آخر.


المصدر: كتاب علم الاجتماع العائلي: د. مهدى محمد القصاص، أستاذ علم الاجتماع المساعد، كلية الآداب، جامعة المنصورة.

التعليقات (0)

اترك تعليق