مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

خصائص النظام العائلي الإسلامي بالمقارنة مع النظام العائلي الرأسمالي

خصائص النظام العائلي الإسلامي بالمقارنة مع النظام العائلي الرأسمالي

ومن أجل فهم الأبعاد الحقيقية للمؤسسة العائلية في المجتمع الإسلامي، ودور الشريعة في إحكام بنائها العلوي، لا بد لنا من دراسة الفوارق الفكرية والفلسفية المتوقعة بينها وبين نظيرتها في النظام الاجتماعي الرأسمالي.
وفي سبيل تحقيق ذلك الفهم، لابدّ من ترتيب النقاط التالية:
أولاً:
إقرار الضمان المالي للعائلة في المجتمع الإسلامي؛ فتنصبّ مسؤولية الزوج على إعالة زوجته ووالديه وأبنائه، حيث أوجبت الشريعة نفقة الزوجة الدائمة على زوجها، حتى لو كانت الزوجة ثرية؛ وجعلت المسؤولية مشتركة بينهما، فعليه النفقة وعليها الطاعة والتمكين. ولا شك أنّ تحديد النفقة الشرعية مرهون بالعرف، إلا أنّ الأصل فيها هو إشباع حاجاتها الأساسية من المأكل، والملبس، والمسكن، والعلاج، ونفقة الحمل والوضع، والرضاعة والحضانة. وبطبيعة الحال، فإن وجوب الإنفاق لا يقتصر على الزوجة فحسب، بل يجب على الآباء نفقة أبنائهم وإن نزلوا ذكوراً وإناثاً، وعلى الأبناء نفقة آبائهم وإن علوا ذكورا وإناثاً، وهو ما عبر عنه فقهياً بنفقة الأصول والفروع، حتى لو كان الأصل فاسقاً أو كافراً بلا خلاف.
أما في النظام الرأسمالي، فإن النظام العائلي مصمم نظرياً على أساس أن الفرد المنتج في العائلة الواحدة هو المسؤول عن إعالة الآخرين الذين لا يقدرون على القيام بعمل منتج بسبب السن، أو المرض، أو العجز الطبيعي. ولكن الواقع يفصح عن أن وجوب النفقة على الزوج -من الناحية القانونية- منحصر بنفقة القاصرين من الأولاد فقط ؛ لأن الزوج غير مكلف بإعالة زوجته القادرة على العمل والإنتاج. وليس غريباً إذن، أن نجد أنّ نصف نساء الولايات المتحدة مثلاً يعملن على الساحة الإنتاجية الاجتماعية خارج البيوت، من أجل المساهمة في النفقة العائلية. ولا يلزم القانون الرأسمالي الأبناء البالغين بالنفقة على آبائهم العاجزين عن العمل، لأن الدولة والنظام الاجتماعي والسياسي كلِّفا بإشباع حاجات الشيوخ والمسنين. ولا يخفى أن روح هذا النظام مستمدة من فكرة "المذهب الفردي" التي تنادي بالتحلل من الالتزامات العائلية التي نادت بها جميع الأديان السماوية.
ولكن الدولة لا تستطيع سد كل حاجات الشيوخ والمسنين والعاجزين عن العمل. وخروج الزوجة للعمل خارج البيت، يترك الأبناء والبنات القاصرين دون رعاية أبوية هم بأمس الحاجة إليها وقت نموهم العقلي والبدني. ولذلك، فإن تحميل المسؤولية المالية على الزوج للإنفاق على زوجته ووالديه وأبنائه يعتبر من أفضل الحلول الاجتماعية لمشكلة تحلل الأسرة وتدهورها الأخلاقي والاقتصادي، والتي يشهدها النظام الرأسمالي بكل ضراوة بعد أكثر من ثلاثة قرون على إنشائه وتطوره في المجالات الاقتصادية والصناعية.
ثانياً: الضمان المالي للزوجة المتمثل بالصداق. وهو الذي شرعه الإسلام لمصلحتها، واعتبره حقاً من حقوقها المالية، إن كان مهراً مسمى، أو مهر مثل، أو مهر تفويض. وفي جميع الحالات، يجب أن يكون المهر نقداً أو عقاراً أو منفعة لها قيمة معتبرة في العرف الاجتماعي والاقتصادي. فإذا طلقها قبل الدخول كان لها نصف المهر، ولها المهر كاملا بعد الدخول. ولا شك أن الصداق يعتبر -حسب النظرية الإسلامية- ضماناً مالياً كاملاً للمرأة خصوصاً بعد الطلاق، حيث تتوقف نفقة الزوج عليها. فلا بدّ لها حينئذٍ، من الاستقلال مالياً دون الحاجة إلى مد يدها طلباً للمساعدة في سد حاجاتها الأساسية؛ وهو تشريع تفتقده النظرية الرأسمالية تماماً.
فإذا تمّ الطلاق حسب النظرية الرأسمالية، فإن المطلَّقين يتقاسمان الثروة التي جهدا في تحصيلها خلال سنوات الزواج، ولكن إذا بددت الثروة المالية خلال أيام الزواج لسبب من الأسباب، أو كان الزوج عاجزاً عن توفيرها، أصبحت المطلَّقة ريشة في مهب الرياح الاجتماعية، لا تملك لنفسها مالاً تشبع فيه حاجاتها الأساسية. ولما كانت النظرية الرأسمالية لا ترى في المهر حقاً من حقوق الزوجة الرئيسية ولا شرطاً في صحة الزواج، انحدرت أغلب المطلقات وأولادهن إلى مستوى الطبقة الفقيرة. ولذلك، فإنك ترى أنّ أغلب فقراء النظام الرأسمالي هم من المطلَّقات، والأرامل، والأولاد من العوائل المطلَّقة.
ثالثاً: إن الشروط الشرعية التي يشترطها الزوج أو الزوجة ضمن العقد، في النظام الإسلامي، ليس لها ما يقابلها في النظام العائلي الرأسمالي. فالشروط الصحيحة التي لا تفسخ العقد يترتب عليها الإلزام وصحة العقد، كاشتراط الصفات الجسدية أو الخلقية في أحدهما، فيثبت خيار الفسخ مع تخلف تلك الصفات، لعموم "المؤمنون عند شروطهم". أما الشروط غير  الشرعية فهي إما أن تبطل العقد كالإقالة، أو تبطل الشرط ويبقى العقد صحيحاً كاشتراط عدم المس مطلقاً. وبالجملة، فإن الشروط الشرعية ضمن عقد الزواج، توفر للزوج أو الزوجة ضماناً أخلاقياً أو جسدياً يساهم في إدامة البيت الزوجي، وتحقيق سعادته ضمن إطار النظام الاجتماعي.
رابعاً: لا يصح الزواج، حسب الشريعة الإسلامية، إلا بالخلو من المحرمات النسبية والسببية للزوج والزوجة. ومع أنّ النظريتين، الرأسمالية والإسلامية، تتطابقان في حرمة التزاوج بسبب المحرمات النسبية كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت. إلا أنهما يفترقان في المحرمات السببية. ففي حين توجب النظرية الإسلامية حرمة التزويج بسبب آثار المصاهرة، كحرمة زوجة الأب على الابن، وزوجة الابن على الأب، وأم الزوجة على زوج ابنتها وبنت الزوجة على الزوج؛ وحرمة التزويج بسبب آثار الزنا، فليس لأبيه ولا لابنه العقد على الزانية التي زنى بها: والحرمة المؤبدة للدخول بالمعتدة والمتزوجة؛ وحرمة الجمع بين الأختين المتولدتين من أب وأم، أو لأحدهما؛ وحرمة الرجوع بعد التطليقة الثالثة ما لم تنكح زوجاً غيره، ونحوها؛ ففي كل هذه الحالات تنفرد النظرية الإسلامية عن بقية النظريات الاجتماعية في الاهتمام بنظافة العلاقات الاجتماعية والأسرية المبنية على طهارة النسل وعدم اختلاط الأنساب. وهذا يفضي بالتأكيد إلى صلابة البنية التحتية للمجتمع الإسلامي، حيث تشكل سلامة الأسرة وصحة مقوماتها، سلامة النظام الاجتماعي كلياً.
خامساً: العيوب الموجبة للخيار بين فسخ العقد وإمضائه، وهي العيوب المكتشفة بعد تمام إجراء العقد كالاضطراب العقلي والخصاء والجب والعنن بالنسبة للرجل، والاضطراب العقلي والبرص والجذام والعمى والعرج والقرن والعفل والإفضاء والرتق بالنسبة للمرأة؛ فيثبت في هذه الحالات، حسب النظرية الإسلامية، خيار الفسخ على الفور. وكذلك الخيار بالتدليس وهو التمويه بإخفاء نقص، أو عيب موجود، أو ادّعاء كمال غير متحقق قبل إتمام العقد. وكذلك الخيار لتخلف الشروط، كأن تكون صفة عدم النقص من شروط العقد، أو كون عدم النقص وصفاً لا شرطاً، أو كون العقد مبنياً على أساس عدم النقص. ولكن إذا لم يبادر أحدهما إلى الفسخ لزمه العقد. ولاشك أن هذا التشريع يعكس عدالة النظام القضائي الإسلامي بين الرجل والمرأة تماماً، على عكس ما يروجه أعداء النظرية الدينية ويتهمون فيها الإسلام بعدم المساواة بينهما في القضايا الزوجية.
أما في النظام الرأسمالي، فان خيار الفسخ مرهون بحكم قضاة المحاكم البلدية، حيث يرجعون إلى العرف وأهل الخبرة في تحديد ذلك، ولا يوجد في القانون الرأسمالي ما يشير إلى دقة تفاصيل العيوب الموجبة للخيار بين فسخ العقد وإمضائه، كما هو معمول به في النظرية الإسلامية.
سادساً: إن عقد الزواج والصداق في الإسلام لا يقصد منه المعاوضة التي لا بدّ فيها من العلم الرافع للغرر. ففي المعاملات التجارية والبيع والشراء يجوز للفرد فحص المادة المراد شراؤها بأغلب الأوجه المتعارف عليها اجتماعيا، حتى تكتمل قناعة ذلك الفرد بالشراء. إلا أن الإسلام لما أرجع للمرأة حقوقها، حرّم ذلك في الزواج، لأن ذلك العلم الرافع للغرر يهين المرأة ويضع المجتمع أمام اضطراب أخلاقي خطير؛ ولكنه في نفس الوقت نظّم حدود العيوب الموجبة لخيار الفسخ والخيار بالتدليس. ومن الملفت للنظر أن العرف الغربي الحديث في الوقت الذي استنكر فيه على الإسلام تشريعه لصداق المرأة بزعم أنها تعكس الطبيعة التجارية للزواج، أقر في قضايا الزواج بين أفراد نظامه بالمعاوضة التي لا بدّ فيها من العلم الرافع للغرر: وهو ما يشجع الفرد على الاختبار الجسدي والنفسي للشريك المتوقع حتى قبل مجرد التفكير بالعقد.
سابعاً: ولاشك أن للعقد المنقطع الذي شرعه الإسلام، أهمية كبرى في حل المشاكل الاجتماعية في المجتمع الصناعي، بسبب انتقال الأفراد المستمر بحثاً عن الأعمال. فللعقد المنقطع هدفان، الأول: الاستعفاف به لمن لم يرزق النكاح الدائم لسبب من الأسباب. والثاني: محاربة الرذيلة والفجور في المجتمع الإنساني. ولا يختلف الزواج المنقطع عن الدائم إلا في ذكر الأجل، وتحديد المهر، والعدة، والتوارث، والنفقة. بمعنى آخر إن الزواج المنقطع والدائم يشتركان في خلو الموانع النسبية والسببية، وصيغة العقد، ونشر الحرمة، وحقوق الولد ولحوقه بالأب، وقيمة المهر، والعدة بعد الدخول، والشروط السائغة في العقد. وهو يمثل نظرة الإسلام الرحيمة تجاه العلاقات الغريزية الشرعية بين الرجل والمرأة، وحلا للمشاكل الاجتماعية التي يتعرض لها النظام الاجتماعي في الظروف الاستثنائية. ولما كان الشرع يسلط عيناً فاحصة على هذه العملية، فإن العديد من حالات العقد المنقطع تنتهي إلى عقد دائم وسعادة أسرية. ولكن لا بدّ من التأكيد على نقطة مهمة وإعادتها مراراً، وهي أن العقد المنقطع يمثل استثناءً في عملية التزاوج الإنساني وليس الأصل، لأن الأصل هو العقد الدائم في النظرية الإسلامية.
أما النظرية الاجتماعية الرأسمالية، فإنها تدعو إلى احترام حرية الفرد في إنشاء علاقات خاصة مع الجنس الآخر دون توجيه الضابط الاجتماعي لفحص شرعية تلك العلاقات؛ بمعنى آخر: إن «المذهب الفردي» والنظرية الرأسمالية تدعوان الأفراد إلى ممارسة الزنا والانحرافات الجنسية الأخرى، خلافاً للفكرة الدينية التي تدعو إلى التمسك بالزواج فيما يخص العلاقات الجنسية بين الذكور والإناث. فليس غريباً إذن، أن تعاني ثلاثة أرباع الحالات الزوجية الأمريكية في نهاية القرن العشرين من خيانات زوجية من كلا الطرفين في العائلة الواحدة، بسبب اعتناق فكرة «المذهب الفردي». وبسبب انتشار المصانع في رقعة جغرافية واسعة، وانتقال الأفراد بشكل مستمر نحو العمل، وضعف الرقابة الاجتماعية على الأفراد، فإن الإطار الشرعي الذي جاء به الإسلام في العقد المنقطع يعتبر أسلم الطرق نحو تحقيق السعادة الزوجية في المجتمع الصناعي المعاصر. ولما كان الإسلام تشريعاً عالمياً ، فإن العقد المنقطع قد يخدم المجتمع الغربي أكثر مما يخدم المجتمع الشرقي بسبب الأعراف المتباينة بين المجتمعات الإنسانية. ولا ريب أن تجويزه من قبل الإسلام يعطي الفرد حرية الاختيار بما يناسب المشاكل الاجتماعية التي يواجهها ذلك الفرد في المجتمع الذي يعيش فيه.
ثامناً: وحفظاً لسلامة الأنساب وطهارتها، فإن الشريعة الإسلامية، تلحق المولود بالزوج بسبب الفراش لا مجرد العقد، استناداً على قاعدة (إمكان الإلحاق) التي تسالم الفقهاء على صحتها. وكذلك المولود بسبب وطء الشبهة، فيلحق بالزوج، إن كانت شبهة العقد مع الوطء، أو شبهة الوطء من غير عقد. ولا يكون الالتقاط وهو ضم الفرد الملتقط إلى الملتقط نسباً، ولا التبني وهو نسبة ولد معروف النسب إلى نفسه، عملاً شرعياً. فقد حرمت النظرية الإسلامية، فسخ النسب الأصلي للفرد وما يتبعه من التوارث المالي عن طريق التبني أو الالتقاط، إكراماً للفرد ولأبويه.
وهذا التشريع الإسلامي يناقض تماماً قانون النظرية القضائية الرأسمالية في التبني. حيث تقر شرعية فسخ النسب الأصلي للفرد، وما يتبعه من التوارث المالي، فتزعم بأن الأبوة المعترف بها هي الأبوة القانونية وليس الأبوة البيولوجية. فلو وجد الفرد طفلاً رضيعاً متروكاً على قارعة الطريق مثلاً، فله مطلق الحق في تبنيه ونسبته إلى نفسه، فتترتب على ذلك العمل حينئذٍ، كل الآثار القانونية الملزمة للأبوين القانونيين. أما المولود بسبب وطء الشبهة، فان تشخيص نسبه عن طريق الجينات الوراثية قد أصبح عملاً ممكناً من الناحية المختبرية الحديثة، ولذلك فهو ينسب إلى أبيه البيولوجي. وبطبيعة الحال، إن انتشار ظاهرة التبني، مع أنها خففت عاطفياً واقتصادياً عن الأطفال المشردين، إلا أنها ساهمت من جانب آخر في تمزيق النظام العائلي والعشائري في المجتمع الصناعي بسبب ضياع الأنساب أولاً، واستحالة احتلال الأب القانوني دور الأب البيولوجي في شخصية الفرد المتبنى ثانياً.
تاسعاً: النسب، حسب النظرية الإسلامية، هو حق ثابت لكل شخص. والإقرار به هو اعتراف صريح بذلك الحق. فالإقرار بالنسب هو ثبوت نسب الفرد إلى فرد آخر. ويشترط في الإقرار أن يكون بين المولود والمقر تفاوت صحيح في السن، كالتفاوت العرفي بين الأب والابن، وأن يكون الصغير مجهول النسب، وأن لا ينازع المقر في إقراره بنوة الصغير منازع آخر، وإلا حكم بالولد لصاحب البينة. ومن الطبيعي، فإن الإقرار بالنسب يعتبر شكلاً آخراً من أشكال ترسيخ العلاقات الأسرية والاجتماعية بين الأفراد، وتأكيداً على رابطة الدم والولاء في النظام الاجتماعي الإسلامي.
أما في النظرية الاجتماعية الغربية، فإنّ الإقرار وحده لا يعتبر إثباتاً لنسب المقر. ويرجع الحكم في ذلك إلى قضاة المحاكم البلدية.
عاشراً: الرضاع في النظرية الإسلامية هو امتصاص الرضيع اللبن من ثدي أمه أو مرضعته. وآثاره الشرعية، هو أن الرضاع من غير الأم ينشر تحريماً للزواج، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. بالشروط التالية:
1- أن تكون المرضعة، متزوجة زوجاً شرعياً.
2- أن تدره بسبب الحمل أو الولادة.
3- أن يمتص الرضيع اللبن من ثديها مباشرة.
4- أن يؤدي الرضاع إلى شد العظم وإنبات اللحم، وهو إما خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد أو رضاع يوم وليلة.
5- واستيفاء المرتضع عدد الرضعات الشرعية قبل أن يكمل الحولين.
6- وحياة المرضعة عند جميع الرضعات.
7- وأن يكون اللبن لفحل واحد وهو زوج المرضعة.
ولا يوجد في النظرية القضائية الرأسمالية ما يشير إلى تفصيل الرضاع وآثاره الشرعية المذكورة آنفاً.
حادي عشر: الحضانة، وهي رعاية مصلحة الصبي، للأم والأب ما لم يقع الطلاق. فإذا وقع الطلاق أصبحت الأم أحق بالولد. ويرجع في تحديد عمر مستحق الحضانة لأحد الأبوين، إلى الحاكم الشرعي؛ لأنه هو القادر على تشخيص المصلحة الشخصية للصبي أو الصبية دون تحيز. ويشترط في الحاضنة أن تكون حرة، مسلمة، عاقلة، وغير متزوجة بعد طلاقها من الزوج الأول. فإذا تزوجت سقطت حضانتها، لأن الاهتمام بحقوق الزوج الجديد أولى من اهتمامها بولدها، فتنتقل عندها حضانة الطفل إلى الأب.
ولا تختلف النظرية الرأسمالية عن الإسلامية في ذلك، إلا في مسالة زواج الحاضنة، حيث يبقى الولد مع الأم حتى مع زوجها الجديد، إلا أن يحدد القاضي ما يبرر وجوب انتقال الحضانة إلى الأب.
ثاني عشر: أحكام الصبي في النظرية الإسلامية، تشمل حقوقاً في الولاية والوصاية والمعاملات والعبادات. فعلى صعيد العبادات، فإن عبادة الصبي عند فقهاء الإمامية شرعية لا تمرينية، ووصيته وصدقته جائزة وصحيحة إذا بلغ حد التمييز. وعلى صعيد المعاملات، فله أن يتملك ما يحوزه من المباحثات، ويغرم في ماله ما يحدثه في مال الغير من تلف أو عيب لأنها من الأحكام الوضعية. والصغير غير المميز يمنع من التصرفات المالية حتى يحصل له البلوغ والرشد، وهو ما يسمى شرعاً بالحجر الشرعي.
وعلى صعيد الولاية الشرعية، فإن الحجر لا يتم إلا بوجود ولي يرعى مصلحة الصبي. وتثبت الولاية أولاً للأب والجد في مرتبة واحدة. وإذا فقدا معاً تكون الولاية لوصي أحدهما. ويشترط في الولي البلوغ والرشد والاتحاد في الدين، وعليه مراعاة مصلحة القاصر مراعاة تامة. وعلى صعيد الوصاية العهدية، فإن الولي ينصب قبل موته وصياً قيماً على أطفاله لرعايتهم بعد الممات، فتصبح الوصاية ملزمة للوصي إذا علم بها ولم يعارضها، ويشترط فيه نفس ما يشترط في الولي. ولكن إذا خان الوصي لسبب من الأسباب، فقد انعزل تلقائياً وبطلت جميع تصرفاته دون تدخل الحاكم الشرعي. وعلى صعيد آخر، فإذا مات الأب بلا وصية، أو مات الوصي، أرجع أمر الأطفال إلى الحاكم الشرعي، لأنه ولي من لا ولي له.
أما أحكام الصبي في النظرية الاجتماعية الرأسمالية، فإنها تتعلق بالولاية القانونية فقط، دون الوصاية والعبادات والمعاملات. فبعد موت الأب، تصبح الأم ولياً شرعياً على الأطفال. وإذا ماتت الأم، انتقلت الولاية إلى العائلة الجديدة التي تعيل هؤلاء الأطفال. فإذا تم التبني، فإنهم يلتحقون نسباً، بالأب في الأسرة الجديدة. وهو ما يؤدي بالتأكيد إلى ضياع الأنساب في الأجيال اللاحقة. أما معاملات الصبي، فإنها غير نافذة، ما عدا التملك، حيث يحفظ له المال الخاص به إلى حد البلوغ القانوني وهو سن الثامنة عشرة بالنسبة للذكر والأنثى على حد سواء.
ثالث عشر: الولاية الشرعية في الزواج، حسب النظرية الإسلامية، مختصة فقط بالصغير والسفيه والمجنون من الذكور والإناث. بمعنى أن البالغة الرشيدة والبالغ الرشيد يستقل في زواجه أو زواجها ولا ولاية لأحد عليه أو عليها. وهذا الاستقلال يعكس احترام الإسلام للمرأة، ورأيها في اختيار شريك حياتها. ولا شك أن الإطار الأخلاقي العام الذي جاء به الإسلام يضمن عفة المرأة، ويجعلها في موضع اجتماعي أفضل لخدمة حياتها الزوجية اللاحقة.
وفي هذا الحقل تؤيد النظرية الاجتماعية الرأسمالية، إقرار الشريعة الإسلامية استقلال البالغين في اختيار شركاء حياتهم الزوجية. ولكنها تنحرف لاحقاً، وتقر استقلال المنحرفين جنسياً في اختيار شركاء حياتهم الزوجية من نفس الجنس أيضا. بمعنى أنها لا تمانع من قانونية اللواط والسحق بدعوى الإيمان بـ «المذهب الفردي»، وتزعم بأن للأفراد مطلق الحرية في اختيار شركاء حياتهم حتى لو كانوا من جنس واحد.
رابع عشر: الوصية الشرعية، حسب النظرية الإسلامية، تفويض الفرد بتصرف معين بعد موت الولي. وهي عهدية وتمليكية، فالعهدية إيقاع يوصي به لآخر برعاية أطفاله ووفاء ديونه أو استيفائها ونحوها، والتمليكية عقد يتم من خلاله تمليك فرد آخر بمال منقول أو غير منقول. ويشترط في الموصي أن يكون أهلاً للتصرفات المالية، فلا تصح من الصغير ولا المجنون ولا المكره ولا السفيه لأنهم ليسوا أهلاً لها لانعدام إرادتهم وفقدان قدرتهم على التمييز ما بين المصلحة والمفسدة الشخصية والعائلية. وتخرج الوصية من أصل التركة إذا كانت واجباً مالياً كالزكاة والخمس ورد المظالم والكفارات والديون، أو واجباً مالياًـ بدنيا كالحج. وتخرج من الثلث فقط في الواجب البدني كالصوم والزكاة. وإذا كانت الوصية على وجه من وجوه التبرع والمحاباة، فإنها تنفذ بمقدار الثلث فقط مع وجود الوارث. وهذا التشريع يحفظ للورثة من المراتب الثلاث حقوقهم الشرعية في ثلثي الثروة المتروكة. فالزوجة تشترك في استلام جزء من الإرث مع جميع المراتب، وهو ضمان مالي آخر لها بعد وفاة الزوج. وتضمن المرتبة الأولى وتضم الأولاد والوالدين بالإضافة إلى الزوجة بحجبها بقية المراتب، مبلغاً مالياً يعينها على العيش ما بعد وفاة رب الأسرة.
أما النظرية الاجتماعية الرأسمالية، فإنها تترك للزوج حرية تقرير حجم الوصية ومصيرها قبل الموت عن طريق كاتب عدل معترف به رسمياً. فيستطيع الزوج، عملياً، أن يوصي بكامل تركته لفرد واحد من الأسرة التي ينتمي لها أو من غيرها، مسبباً بذلك حرمان بقية الأفراد من أسرته من استلام التركة المالية التي تساعدهم على ضمان مستقبلهم المالي لاحقاً.
خامس عشر: أحكام الإرث في النظرية الإسلامية، تعكس اهتمام الإسلام بالجانب الاجتماعي، فبعد إخراج مصاريف الكفن والغسل والدفن، تخرج الديون الواجب وفاؤها، ثم تقسم التركة بعد ذلك أثلاثاً، فتخرج الوصايا بغير الواجب لمالي من الثلث، ويقسم الثلثان بين الورثة. فالقرابة أو النسب لها ثلاث مراتب غير متداخلة وهي أولاً: الأبوان والأولاد. ثانياً: الأجداد والأخوة. ثالثاً: الأعمام والأخوال. وفي السبب، فإن الزوجية تجتمع في الميراث مع جميع المراتب.
ولاشك أن النظام الدقيق في الإرث يضمن قضيتين في غاية الأهمية في النظام الاجتماعي: الأولى: حرمة كنز المال بين الأجيال المتعاقبة، بمعنى أن الجهود العضلية والفكرية التي يبذلها الجيل السابق لا بدّ وأن تصب في خدمة الجيل اللاحق، اختياراً أو إجباراً؛ لأن المال المتروك، لا بدّ وأن يوزع على المستحقين من الورثة، عن طريق الوصية والإرث. الثانية: إن المراتب الثلاث في الإرث والزوجية تحقق قدراً عظيماً من العدالة الاجتماعية بين الأفراد في توزيع التركة المالية، خصوصاً إذا ما لاحظنا أن المرتبة السابقة تحجب المرتبة اللاحقة في استلام الإرث.
أما أحكام الإرث في النظرية الاجتماعية الرأسمالية، فإنها متعلقة، كما ذكرنا سابقاً، بالوصية الرسمية التي يتركها الفرد. فله مطلق الحرية في محاباة من يشاء وحرمان من يشاء في وصيته.
سادس عشر: وأحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية لا تتم إلا بشروط خاصة بشخصية المطلِّق، وشخصية المطلَّقة. فينبغي أن يكون المطلِّق بالغاً عاقلاً، مختاراً، قاصداً نية الطلاق. وينبغي أن تكون المطلقة زوجة دائمة، معينة بالذات، وفي طهر لم يواقعها فيه. ولا يقع الطلاق إلا بحضور شاهدين عدلين من الذكور. وبسبب اختلاف الأسباب الداعية لانفصال الزوجين، فلا بدّ أن ينفسم الطلاق الشرعي على ضوء تلك الأسباب. فالطلاق في النظرية الإسلامية، رجعي وبائن خلعي وبائن مبارأة. فالرجعي، وهو الذي يملك فيه المطلِّق حق الرجوع إلى مطلَّقته المدخول بها ما دامت في العدة. والبائن الخلعي، وهو الناتج عن إبانة الزوجة على مالٍ تفتدي به نفسها بسبب كرهها له. والبائن المبارأة، وهو الناتج عن كراهية متبادلة بين الزوجين. ولا بد للمطلقة من إتمام العدة الشرعية حتى تستطيع الزواج مرة أخرى، وهي ثلاثة قروء للحائل، أو وضع الحمل بالنسبة للحامل. وعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام.
والأصل في العدة، طهارة الأنساب في الحالات الطبيعية للطلاق، واحترام الميت في حالة عدة الوفاة. ولا بدّ للزوج من الإنفاق على مطلقته الرجعية حتى انتهاء العدة. وهذه الأحكام الشرعية الخاصة بالطلاق، بالإضافة إلى تنظيمها سلوك الأفراد فيما يخص العلاقات الشرعية بين الرجال والنساء، تساهم في ضمان حقوقهم المعنوية والمالية في العلاقات الزوجية، وتعطي الحق لكليهما في الانفصال والبدء بحياة جديدة سعيدة، إذا فشلت الحياة الزوجية الأولى.
وتفتقر النظرية الاجتماعية الرأسمالية لتفاصيل مثل هذه الأحكام الشرعية: فلا تشترط في إجراء الطلاق شروطاً خاصة ما عدا القصد بنية الطلاق: لأن الطلاق من مسؤولية الزوجين الفردية لإيمانها بشرعية الحرية الفردية في الحياة الاجتماعية.
سابع عشر: إن فكرة تعدد الزوجات التي شرعها الإسلام، أفضل للنظام الاجتماعي من الزواج المتعدد، الذي لاحظنا مساوئه الاجتماعية في تمزيق العوائل المطلَّقة وما يتبعه من تشرذم الأطفال وتحطيم نفسياتهم وقابلياتهم الإبداعية. ولكن فكرة تعدد الزوجات استثنائية في الأساس، لأن الأصل هو الزوجة الواحدة، ولذلك فإن هذه الفكرة تعتبر حلاً آخر للمشاكل الاستثنائية التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية في العصور المتلاحقة.


المصدر: كتاب النظام العائلي ودور الأسرة في البناء الاجتماعي، د. زهير الأعرجي.

التعليقات (0)

اترك تعليق