مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المرأة في سيرة الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وسلم

المسلمات الأوائل ودور المرأة في مجتمع الدعوة الإسلامية

من خلال قراءة التأريخ العملي، ودراسة المجتمع الإسلامي، نجد الصورة الواقعية للتعامل مع المرأة في ظل المفهوم الإسلامي في عهد الرسالة، في تعامل الرسول (ص) معها، فإنّها الصورة الناصعة لتحرير المرأة من النظرة الإحتقارية، والتعامل الإستعلائي، ومفهوم الإسترقاق، ومنحها الحقوق المدنية والسياسية.
لقد انطلقت المرأة إلى جنب الرجل في عملية التغيير الإجتماعي والفكري الذي حملته الدعوة الإسلامية، فاستجابت لخطاب الدعوة، وآمنت وجاهدت وهاجرت إلى جنب الرجل من غير تفريق، أو نظرة استعلاء من الرجال الذين آمنوا بالإسلام عقيدة ونظاماً، وفهماً جديداً للحياة.
فكان منهنّ الطليعة في الدعوة والبيعة والهجرة والجهاد والثقافة والمعرفة، كما كان منهنّ المتعلمات اللواتي يلجأ إليهنّ الرجال في أخذ علوم الشريعة وأحكامها.
نذكر منهنّ: أُمّ المؤمنين الكبرى خديجة بنت خويلد (رحمها الله)، فقد كان أوّل مَن آمن بالنّبي (ص) وصدّقه ثلاثة: الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وخديجة بنت خويلد، وزيد بن حارثة. وكانت خديجة من أثرى أثرياء قريش، فصرفت أموالها في سبيل الله حتى تحولت من ثرية موسرة إلى فقيرة لا تملك شيئاً. لذا كان لها من المقام الرفيع، والكرامة الموفورة عند الله سبحانه ورسوله (ص) ما أوصلها إلى استحقاق تحية الرب يحملها جبرائيل (ع) إليها بواسطة النّبي (ص).
ونقرأ في تأريخ الدعوة والسير الشخصية لذلك الجيل الرائد. نقرأ دور المرأة في بناء المجتمع، ومساهمتها مع الرجل في بناء الحضارة الإسلامية التي غيّرت وجه التأريخ. ساهمت داعية ومهاجرة ومجاهدة، تحملت التعذيب والقتل، وشاركت في ميدان القتال، وكانت شاعرة وعالمة في ظل الإيمان، وقيم الإسلام، إلى جنب شقيقها الرجل، ذات شخصية وكيان إنساني ومكرَّم. نذكر نماذج ومصاديق لتلك المفاهيم والقيم، فمنهنّ سميّة، أُم عمار بن ياسر، من السابقات للإسلام، عُذبت هي وابنها وزوجها ياسر.
عذَّبها المشركون فماتت تحت التعذيب، ولم تتراجع عن عقيدتها وموقفها فكانت أوّل شهيدة في الإسلام. والرسول (ص) يمر عليهم وهو يعذبون، ولا يستطيع الدفاع عنهم، فيخاطبهم بقوله الخالد: "صبراً آل ياسر، إن موعدكم الجنّة". لقد كانت سمية شهيدة الدفاع عن حرِّية الإنسان المضطهد في تلك الفترة العصيبة.
 ومن المعذبات في العقيدة وحرِّية الفكر زنيرة، والنهدية، أُم عبيس، ولبيبة، وقد عُذبت هؤلاء النسوة المضطهدات الباحثات عن الحرِّية، وكرامة الإنسان، فصبرن على الأذى والتعذيب، وقد كُنَّ إماء مملوكات فحرَّرهنّ الإسلام من ربق الإضطهاد والعبودية.
وذكر المؤرخون أنّ المهاجرين في الهجرة الأولى إلى الحبشة كانوا أحد عشر رجلاً، وأربع نسوة. وجاء في سيرة ابن هشام إن وفد أهل المدينة - الذي لقي رسول الله (ص) في العقبة الثانية - كان مكوّناً من ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين للتفاهم مع رسول الله ومبايعته، فكنّ من عناصر الوفد الممثل لأهل المدينة، جاء في هذه الرواية إن كعب بن مالك أحد الحاضرين في هذا الوفد، قال فيما بعد: " حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا إلى رسول الله (ص)، تسلل القطا، مستخفين، اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب (أُم عمارة) إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي".
وينقل لنا المؤرخون مشاركة المرأة المسلمة مع الرجال في المعارك ومواقع القتال، يساهمن في إعانة الجيش وتقديم الخدمات، والتمريض، وفي الإعلام الحربي حسب ظروف العصر وآلياته المناسبة عن طريق إنشاد الشعر، وتشجيع المقاتلين، والرد على الشعر المعادي، والمساهمة الفعلية في ساحات القتال. فمنهنّ: أُم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وأُمّ عامر الأشهلية، ومعاذة الغفارية، وأُم منيع بنت عمر بن عدي، وهند بنت عمر بن حرام، وأُميّة بنت قيس بن الصلت، وحمنة بنت جحش، وبرزة بنت مسعود الثقفية، وأُم زياد الأشجعية، وأُم سليط، وأُم سنان الأسلمية.
فيما يلي نقرأ نصوصاً من وثائق التأريخ الشاهدة بتلك المواقف، لا سيما في معركة اُحُد وخيبر.
قال ابن هشام: "وقاتلت أُم عمارة، نسيبة بنت كعب المازنية يوم اُحُد. فذكر بصير بن أبي زيد الأنصاري: أنّ أُم سعد بنت الربيع كانت تقول: دخلت على أُم عمارة، فقلت لها: يا خالة! اخبريني خبرك، فقالت: خرجت أوّل النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله (ص) وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلمّا انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله (ص)، فقمت أباشر القتال، وأذُب عنه بالسيف، أرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إليَّ، قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور، فقلت: مَن أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة، أقمأه الله. لمّا ولّى الناس عن رسول الله (ص) أقبل يقول: دلوني على محمّد، فلا نجوت إن نجاء، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممّن ثبت مع رسول الله (ص)، فضربني هذه الضربة، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان"(1).
إنّ مشاركة أُم عمارة في معركة اُحُد لتقدّم الماء للمقاتلين، ومشاركتها في القتال للدفاع عن رسول الله (ص) عندما رأت هجوم العدو على شخصه الكريم (ص)، لدليل على إيجابية نظرة الإسلام للمرأة وفسحه المجال أمامها في كل ميادين الحياة. بما فيها ميدان الدفاع المسلح عن الحقّ، ومحاربة الظلم والطغيان.
وبالرجوع إلى أحكام القتال في الشريعة الإسلامية، نجد الفقهاء يفتون بوجوب الجهاد الدفاعي على المرأة، كما هو واجب على الرجل؛ ومشاركة أُم عمارة في هذه المعركة دفاعاً عن رسول الله (ص) عندما رأت الخطر محدقاً به (ص) دليل عملي من السيرة النبوية على ذلك.
ويحدِّثنا ابن سعد في الطبقات الكبرى(2) عن جيل من النساء السابقات إلى الهجرة وبيعة الرسول (ص) والعلم والثقافة والمساهمة في ميادين القتال، قال: "أسلمت أُم عامر، وبايعت رسول الله (ص)، وروت عنه أحاديث، وشهدت معه بعض المشاهد".
ثمّ حدّثنا عن كعبة بنت سعد الأسلمية، فقال: "بايعت بعد الهجرة، وهي التي تكون في المسجد لها خيمة تداوي المرضى والجرحى، وكان سعد بن معاذ حين رمي، يوم الخندق، عندها تداوي جرحه حتى مات".
ونقل لنا أن: "أُم مطاع الأسلمية، أسلمت بعد الهجرة، وبايعت، وشهدت خيبر مع رسول الله (ص)".
وأن: "أُم سنان الأسلمية: أسلمت وبايعت بعد الهجرة، قالت أُم سنان: لمّا أراد رسول الله (ص) الخروج إلى خيبر، جئت، فقلت: يا رسول الله (ص) أخرج معك في وجهك هذا، أخرز السقاء، وأداوي المريض والجريح، إن كانت جراح، ولا تكون وأبصر الرّحل، فقال رسول الله (ص): اخرجي على بركة الله، فإنّ لك صواحب قد كلّمنني، وأذنت لهنّ من قومك، ومن غيرهم، فإن شئت فمع قومك، وإن شئت فمعنا، قلت: معك، قال: فكوني مع أُم سلمة زوجتي، قالت: فكنت معها".
ومنهنّ اُميّة بنت قيس بن أبي الصلت الغفارية: أسلمت وبايعت بعد الهجرة، وشهدت مع رسول الله (ص) خيبر، قالت أمية: "جئت رسول الله (ص) في نسوة من بني غفار، فقلنا: إنّا نريد يا رسول الله (ص) أن نخرج معك إلى وجهك هذا، نعني خيبر، فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، وكنت جارية حديثاً سني، واردفني رسول الله (ص) حقيبة رحله. فلمّا فتح الله لنا خيبر، ورضخ من الفيء، ولم يسهم لنا، أخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي، فأعطانيها وعلّقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبداً.".
ومنهنّ أُم ورقة المهاجرة والمجاهدة والعالمة، والتي سجل لها التأريخ أنّها ممّن جمع القرآن. قال ابن سعد في طبقاته: "أُم ورقة بنت عبدالله بن حارث أسلمت وبايعت رسول الله (ص) وردت عنه، أخبرنا الفضل بن دكين، حدّثنا الوليد بن عبدالله جميع، قال: حدّثتني جدّتي عن أُم ورقة بنت عبدالله بن الحارث، وكان رسول الله (ص) يزورها ويُسمِّيها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن، وكان رسول الله حين غزا بدر، قالت له: تأذن لي فأخرج معك، أداوي جرحاكم، وأمرض مرضاكم، لعل الله يهدي لي شهادة، قال: إنّ الله مهد لك شهادة، فكان يُسمِّيها الشهيدة، وكان النبيّ (ص) قد أمرها أن تؤمّ أهل دارها، وكان لها مؤذن، وكانت تؤم أهل دارها، حتى غمها غلام لها، وجارية لها كانت دبرتهما، فقتلاها في إمارة عمر، فقيل إنّ أُم ورقة غمها غلامها وجاريتها فقتلاها، وإنّهما هربا فأتي بهما فصلبهما، فكانا أوّل مصلوبين بالمدينة، وقال عمر: صدق رسول الله (ص)، كان يقول: انطلقوا بنا نزور الشهيدة".
ولنا أن نقف عند قول الرسول (ص): "انطلقوا بنا نزور الشهيدة" فإنّها تصور لنا مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي، فالرسول (ص) يدعو صحبه ليرافقوه في زيارته لهذه المرأة الفاضلة؛ إنّه التكريم والاحترام النبوي للمرأة المسلمة، وكما كانت كالمساهمة في جنب الدعوة والهجرة والجهاد، ساهمت في الحياة السياسية.
فقد رأينا فيما مضى أن النساء بايعن رسول الله (ص) كما بايعنه يوم فتح مكة، وهذه سيِّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت الرسول الأكرم محمّد (ص) تقف إلى جانب زوجها الإمام علي (ع)، بعد وفاة أبيها (ص)/ ترفض بيعة السقيفة لأبي بكر، وإلى جنبهما العديد من المهاجرين والأنصار، وتقوم بالاتصال بالأنصار، وتزورهم مع علي (ع) في بيوتهم، وتحاورهم في أمر الخلافة، وتدعوهم إلى العدول عن بيعة أبي بكر، والبيعة لعلي (ع).
واستمرت طيلة فترة حياتها الوجيزة بعد أبيها، تساهم في قيادة المعارضة، لخلافة أبي بكر وتناقش فيها، وقد تحملت من أجل ذلك أذىً كثيراً وتهديداً، كما تحمل زوجها الإمام علي (ع) مثل ذلك.
قال ابن قتيبة: "وخرج علي (كرّم الله وجهه) يحمل فاطمة بنت رسول الله (ص) على دابة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجكِ وابن عمّكِ سبق إلينا قبل أبي بكر، ما عدلنا به، فيقول علي (كرّم الله وجهه): أفكنت أدَعُ رسول الله (ص) في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟
فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا، ما لله حسيبهم وطالبهم"(3).
وكانت فاطمة (ع) هي المثل الأعلى في العلم والمعرفة التي وعتها عن أبيها (ص)، فقد روت الكثير من الأحاديث والروايات عن أبيها (ص)، وروى عنها ذلك الجيل تلك الأحاديث والروايات، كما كانت لها مساهمات خالدة في أيام الدعوة والاضطهاد إلى جنب أبيها وأمّها خديجة الكبرى في مكة المكرمة.
ومثلها كانت ابنتها زينب بنت علي بن أبي طالب (ع) يوم حملت لواء المقاومة لسلطة يزيد بن معاوية بعد استشهاد أخيها الحسين بن علي (ع) في كربلاء، والقائها الخطب العديدة في الكوفة وفي الشام مدافعة عن حقوق آل البيت الكرام وظلامتهم.
وهناك الكثير من النساء اللواتي حملن الرواية والحديث عن رسول الله (ص)، إذ كانت السنّة النبويّة والقرآن الكريم هما المادة الأساسية للمعرفة والثقافة في تلك الفترة، وروى عنهنّ الرجال، كعائشة زوج الرسول (ص) وغيرها من النساء، أي كانت تلك النساء مصدراً للثقافة والمعرفة، كما هو وضع الرجال الرواة والمفسرين، بل وأجزن (*) بعض الرجال في الرواية والحديث، كما يذكر المؤرخون ذلك.
وإذا تكوّنت لدينا تلك الصورة المشرقة عن المرأة المسلمة في مجتمع الدعوة الإسلامية، فلنقرأ ما ثبته الرسول من أوامر ووصايا، وحثّ على حب المرأة واحترامها ورعاية حقوقها، نذكر من تلك النصوص النبوية قوله (ص):
"ألا خيركم خيركم لنسائه، وأنا خير كم لأهلي".
"من أخلاق الأنبياء حبّ النساء".
أقوال الرسول(ص) في خديجة في هذه النصوص، وفي العشرات من النصوص الأخرى، وفي سيرة الرسول (ص) العملية، وتعامله مع المرأة في المجتمع ومع زوجاته وبناته، وذوي رحمه من النساء، نعرف حقوق المرأة وقيمتها في الإسلام.

- الهوامش:
(1) سيرة ابن هشام، ج3، ص86، ط. دار إحياء التُراث العربي، بيروت – لبنان.
(2) الطبقات الكبرى، ابن سعد، المجلد الثامن، دار الفكر، بيروت – لبنان.
(3) الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ج1، ص12.
(*) الإجازة في الحديث: هي منح الشهادة من المجيز إلى المجاز بأهليته لرواية الحديث وتحمله وهي تعبِّر عن مقام الأستاذية في علم الحديث.

المصدر:
www.balagh.com
 http://www.islamwomen.org

التعليقات (0)

اترك تعليق