مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الاختلاف العاطفي بين الجنسين: جذور الطفولة

الاختلاف العاطفي بين الجنسين: جذور الطفولة

أذكر مشهداً رأيته ذات يوم قريب، في أثناء دخولي أحد المطاعم. شاب يخرج من الباب وعلى وجهه تعبير يجمع بين التحجر والتجهم معاً. اندفعت خلف سيدة شابة تجري نحوه وأخذت تضرب ظهره بقبضة يدها وهي في حالة يأس تصرخ قائلة: "لعنة الله عليك... ارجع هنا وكن لطيفاً معي...!". هذا المشهد اللاذع للتوسل المتناقض ذاتياً، المستهدف استعادة ما يلخص صورة مصغرة لنموذج الأزواج الشائع ممن تتسم علاقتهم الزوجية بالهموم والمنغصات. فالزوجة في هذا المشهد تسعى لإغراء زوجها بالتحدث معها، وهو ينسحب من صحبتها ضيقا من طلباتها غير المعقولة وثوراتها المتفجرة، بينما هي تندب حظها بعدم اكتراثه لما تقول. تعكس اللعبة الزوجية هذه، حقيقة وجود واقعين عاطفيين لكل من طرفي الزواج... واقعها العاطفي -جزئيّاً- اختلافا بيولوجيا، يرجع إلى الطفولة، وإلى العوامل الشعوريّة المنفصلة التي سكنت الكيان النفسي للبنان والأولاد وهم يكبرون يوما بعد يوم. وهناك الآن عدد كبير من الأبحاث عن هذه العوالم العاطفية المختلفة والمنفصلة، وما بينها من الحواجز، التي تتزايد لا لمجرد اختلاف الألعاب التي يفضلها البنات والأولاد، ولكن لأن الأطفال الصغار يخشون أن يقال لأي منهم (بنتا أو ولدا) إن له صديقاً أو صديقة من الجنس الآخر. وفي دراسة حول صداقات الأطفال تبين أنّ الأطفال وهم في عمر ثلاث سنوات يزعمون أنّ نصف أصحابهم من الجنس الآخر. وفي دراسة حول صداقات الأطفال تبين أنّ الأطفال وهم في عمر ثلاث سنوات يزعمون أنّ نصف أصحابهم من الجنس الآخر، وفي عمر خمس سنوات تنخفض النسبة إلى 20 في المائة، وعندما يبلغون السابعة من العمر، يتوقف كل من البنات والأولاد تقريبا عن القول إن لهم أصحابا من الجنس الآخر. هذه العوالم الاجتماعية المختلفة تظل في حالة التباين حتى بداية سن المراهقة.
في الوقت نفسه يتعلم البنات والأولاد دروساً مختلفة عن كيفية التعامل مع المشاعر، إذ يناقش الآباء عموما الانفعالات –باستثناء الغضب- مع بناتهم أكثر من أولادهم. وتحتاج البنات إلى التعرف على معلومات تتعلق بالعواطف أكثر من الأولاد، وعندما يحكي الآباء حكايات لأطفالهم وهم في سن الحضانة، يستخدمون الكلمات العاطفية مع البنات أكثر من الأولاد.
وعندما تلعب الأمهات مع أطفالهن الرضع، يبرزن مجموعة الحكايات العاطفية الواسعة للبنات أكثر من الأولاد، وعندما تتحدث الأمهات مع البنات عن العواطف، يناقشن الحالة العاطفية نفسها بتفاصيل أكبر عن أسباب ونتائج الانفعالات مثل الغضب، (ربما بغرض التحذير).
وقد قامت كل من "ليسلي برودي" Leslie Brody و"جوديث هول" Judith Hall، بتلخيص بحث حول الاختلاف في العواطف بين الجنسين. وترى كل منهما "أنّ البنات يتطورن في اللغة بسهولة وسرعة عن الأولاد، وهذا ما يجعل البنات أكثر حدة في إظهار مشاعرهن، وأكثر مهارة من الأولاد في استخدام الكلمات ليكشفن ردود الأفعال العاطفية، بديلاً عن المعارك الجسدية. وعلى النقيض من ذلك، لاحظت الباحثتان، أنّ الأولاد ممن لا يتلقون تأكيداً لفظياً للمؤثرات التي يواجهونها، قد لا يدركون كثيراً حالتهم الانفعالية، أو حالة غيرهم".
وثمة نسبة واحدة تقريباً، اشترك فيها كل من البنات والأولاد في سن العاشرة، عندما يقومون بالعدوان الصريح والمواجهة المفتوحة في حالة الغضب، لكن مع بلوغهم الثالثة عشرة، يبدو الاختلاف الشديد بين الجنسين. فالبنات يصبحن أكثر خبرة وتجربة من الأولاد في "التكتيكات" العدوانية الفنية، مثل نبذ من يخاصمهن، وفي النميمة الشريرة، والثأر غير المباشر. أما الأولاد فيواصلون مواجهاتهم المباشرة عند غضبهم، وهم أكثر نسياناً من البنات لتلك الخطط الفنية. وهذا مجرد أحد الأساليب الكثيرة التي يصبح فيها الأولاد -الرجال فيما بعد- أقل تطوراً عن الجنس الآخر في استخدام الأساليب غير المباشرة للحياة العاطفية.
كما يلاحظ أيضاً أنّ البنات عندما يلعبن معاً، يحرصن على اللعب في مجموعات صديقة قليلة العدد، مع التركيز على تقليل الخلافات، وزيادة التعاون فيما بينهن إلى أقصى درجة، بينما يلعب الأولاد في مجموعات أكبر مع التركيز على المنافسة. ويمكن ملاحظة بعض الاختلافات الأساسية فيما يحدث في أثناء لعب الأولاد أو البنات لعبة جماعية، وتتعطل اللعبة بسبب جرح أحدهم. وإذا كان الجريح ولداً وأخذ يعبر عن ألمه بالبكاء، فسنجد أنّ زملاءه في اللعب يزيحونه بعيداً عن مكان اللعب، ويتوقف الولد عن البكاء وتستمر اللعبة. أما إذا حدث الشيء نفسه بين مجموعة من البنات يلعبن معا، فسيتوقف اللعب، وتتجمع البنات حول زميلتهن التي تبكي لمساعدتها. هذا الاختلاف بين البنات والأولاد في مجال اللعب، يعطي صورة مصغرة عما أشارت إليه "كارول جيليجان" من جامعة هارفارد، بوصفه اختلافاً أساسياً بين الجنسين. فالأولاد يشعرون بالفخر بفرديتهم، وتفكيرهم العقلاني الخشن المستقل ذاتياً، بينما ترى البنات أنفسهن جزءاً من مجموعة مترابطة فيما بينهن. ومن ثم، يشعر الأولاد أنهم مهددون من أي شيء يمكن أن يتحدى استقلاليتهم، بينما تشعر البنات بالتهديد إذا حدث انشقاق في علاقاتهن. وكما أشارت "ديبورا تانين" Dwbora Tannen في كتابها "غاية ما في الأمر أنك لم تفهم"، إلى أنّ هذه المفاهيم المختلفة تعني أنّ كلا من الرجال والنساء يريد ويتوقع كل منهم أشياء مختلفة جداً من أي حديث يدور معهم، فالرجال يهتمون بالمضمون ويتحدثون عن "المسائل والأفكار"، بينما النساء يبحثن ويسعين إلى التواصل العاطفي.
وهكذا يمكن القول إنّ هذه التناقضات في تعليم العواطف تنشئ مهارات مختلفة تماماً، إذ نجد أنّ البنات يصبحن خبيرات في قراءة الإشارات العاطفية اللفظية وغير اللفظية، وفي التعبير عن مشاعرهن وتوصيلها للآخرين، أما الأولاد فيصبحون خبراء في الحد من الانفعالات التي تعرضهم للانتقاد، أو انفعالات الشعور بالذنب، أو الخوف أو الأذى. وتظهر المواقف العقلانية العاطفية المختلفة بين الجنسين قوية جداً في الإنتاج العلمي، فقد انتهت مئات من الدراسات أنّ النساء أكثر تعاطفاً من الرجال -على الأقل- بسبب قدرتهن على قراءة المشاعر الدفينة لشخص آخر ن تعبيرات وجهه وصوته، وغيرها من التلميحات الخرساء. ومن السهل أيضاً بصفة عامة أن تقدم النساء على الزواج وهنّ مهيآت للحياة مع من يلعب معهن دور المدير العاطفي، أما الرجال فهم لا يعطون تقديراً وأهمية لهذا الدور المساعد لإنعاش العلاقة بينهم وبين زوجاتهم. وقد جاء في تقرير حول دراسة أجريت على 264 حالة زوجية، أنّ أكثر العناصر أهمية بالنسبة للمرأة لتشعر بالرضا عن علاقتها الزوجية، هي إحساسها بتواصلها الجيد مع زوجها. وفي دراسة لحالات زوجية في عمقها، وجد "تيد هاستون" Ted Huston، أنّ الحميمية عند النساء تعني التحدث بصراحة، وخاصة الحديث عن العلاقة الزوجية نفسها، أما معظم الرجال، فهم عموماً لا يفهمون ماذا تريد زوجاتهم منهم. ويقول أحد الأزواج: "أنا أريد أن نفعل معاً شيئاً معا، أما هي فكل ما تريد أن نفعله هو التحدث". فقد وجد "هاستون" من خلال دراسته أنّ الرجال في أثناء التودد مع زوجاتهم، أو مغازلتهن، كانوا أكثر رغبة في قضاء وقت يتحدثون فيه معهن بأساليب تناسب حميمية العلاقة التي ترغبها الزوجات. لكن مع مرور الزمن على الأزواج –وخاصة بالنسبة للأزواج التقليديين- أصبح الوقت الذي يقضي فيه الزوج متحدثاً مع زوجته بهذا الأسلوب أقل كثيراً عن ذي قبل. فالتقارب بين الزوج وزوجته لا يشعران به إلا حين يفعلان شيئاً معاً، مثل تنسيق الحديقة معاً، أكثر من مجرد التحدث في موضوعات مختلفة.
ويرجع تزايد صمت الأزواج -نسبياً- إلى أنهم يعيشون حياتهم الزوجية في حالة من التفاؤل، بينما تظل زوجاتهم منسجمات مع الموضوعات المتصلة بالمشاكل. وبالفعل أظهرت إحدى الدراسات عن الحياة الزوجية، أنّ الرجال ينظرون للحياة نظرة وردية أكثر من زوجاتهم، وتشمل هذه النظرة الوردية أي شيء في علاقاتهم عموماً، من ممارسة الحب، إلى المسائل المالية، إلى التزامهم بالقوانين، وكيف يجيدون الاستماع إلى الآخرين، ومدى اهتمامهم بأخطائهم. أما النساء عموما فهنّ أكثر من أزواجهن تعبيراً عما يشكون منه بالكلام، خاصة بين الأزواج التعساء. وإذا ربطنا نظرة الرجال الوردية للزواج وكراهيتهم للمواجهات العاطفية، فسيتضح جلياً شكوى الزوجات دائماً من أنّ أزواجهن يحاولون دائماً التملص من الموضوعات التي تنغص حياتهما الزوجية (والجدير ذكره أنّ هذا الاختلاف بين الجنسين اختلاف عام لا ينطبق على جميع الحالات). أذكر في هذا الصدد -على سبيل المثال- ما قاله لي صديق طبيب نفسي، شاكياً زوجته التي تعترض على مناقشته معها في الأمور العاطفية التي يطرحها فيما بينهما.
ولا شك في أنّ عدم سرعة الرجال في طرح المشاكل التي تتعرض لها علاقة ما، مرتبط نسبياً بنقص مهارتهم في قراءة تعبيرات الوجه الخاصة بالمشاعر. لكن النساء أكثر حساسية في قراءة تعبير مشاعر الحزن على وجه الرجل، أكثر من حساسية الرجال في كشف مشاعر الحزن من تعبير على وجه امرأة. وهكذا يمكن أن تبدو المرأة أكثر حزناً من الرجل لوضوح تعبيرات وجهها في المقام الأول، بينما يتساءل الرجال لماذا تبدو هذه السيدة حزينة هكذا؟!
دعونا نفكر في النتائج المترتبة على هذه الفجوة العاطفية بين الذكر والأنثى، وكيف يتعامل الأزواج مع الشكوى والاختلافات التي لا مفر من حدوثها في أي علاقة حميمية. في الواقع، أنّ قضايا معينة لدى الأزواج،[...]، أو ما أسلوب تربيتهما لأطفالهما أو ما حجم ديونهما أو مدخراتهما التي تجعلهما يشعران بالأمان، كل هذه القضايا ليست سبب المحافظة على العلاقة الزوجية أو هدمها، إنما السبب هو الأسلوب الذي يناقشان به هذه القضايا الحساسة التي هي أكثر ما يهم مصير الزواج، فإذا توصل الزوجان –ببساطة- إلى اتفاق حول أسلوب مناقشة خلافاتهما، سيكون هذه هو مفتاح إنقاذ الحياة الزوجية. إذ ينبغي على الرجال والنساء للتغلب على الاختلافات الفطرية المتأصلة فيهم، أن يتفهموا مشاعرهم المزعزعة، فإذا فشلوا في هذا، من المحتمل -عندئذ- أن يتعرض الزوجان لتصدع عاطفي قد يؤدي في آخر الأمر إلى تمزق علاقتهما الزوجية. وسوف نوضح فيما بعد كيف تنمو هذه التصدعات وتتطور، إذا افتقر أحدهما أو كلاهما إلى الذكاء العاطفي.

المصدر: كتاب الذكاء العاطفي: دانييل جولمان، سلسلة عالم المعرفة.

التعليقات (0)

اترك تعليق