دور المرأة الحيوي في المجتمع: لم ينظر بعين الاعتبار والتقدير على امتداد التاريخ إلى أهمية وظائف المرأة ودورها الخاص
دور المرأة الاجتماعي:
وهو يتجلى في خصائص المرأة الجسمية والروحية ووظائفها الخاصة بها، تلك الوظائف الحياتية والبناءة والمثمرة. وإنه لمن المؤسف أن نلاحظ أن أحداً لم ينظر بعين الاعتبار والتقدير على امتداد التاريخ- إما عن عمد وإما عن جهل- إلى أهمية وظائف المرأة ودورها الخاص، أو لجأ إلى التقليل من أهميتها واعتبارها أموراً مفروغاً منها كطلوع الشمس وغروبها وهطول المطر والثلوج.
وبما أن المرأة وخدماتها كانت دائماً متوفرة ولم تكن بعيدة عن متناول أي مجتمع بحيث إن فقدانها يكشف عن أهميتها وآثارها، لذلك لم تستطيع المرأة في أي مجتمع - حتى في عالمنا المتمدن اليوم- أن تنال اعترافاً بقيمتها وموقعها الحقيقي في المجتمع.
هنا من المناسب أن نشير إلى العلاقة بين "القيمة الاجتماعية" و"الدور الإجتماعي". فالقيمة الاجتماعية في مصطلح علم الاجتماع تعني المقام والمركز الذي يناله كل فرد في المجتمع استناداً إلى خصائصه ونفعه وتأثيره في تحسين مسيرة المجتمع (أو تأثيره الحسن أو السيئ في المجتمع). فالقادة الدينيون أو العسكريون أو السياسيون، والأطباء، والمعلمون، وحتى المخترعون والفنانون وأمثالهم، كانوا دائماً أعلى قيمة من سائر الناس، وتقدير هذه القيم يعود إلى الناس أنفسهم. وللأفكار والعقائد العامة تأثيره في ذلك التقدير. أما في المجتمع الإسلامي فلهذه القيم أصالتها وهي منتزعة من الإسلام والفطرة، وليست اعتبارية.
والمرأة تنال "قيمتها الاجتماعية" نتيجة لقيامها مع الرجل بتشكيل العائلة وأداء دورها و"مركزها الاجتماعي" الخاص. وهذه كلها لها دور حياتي ورئيس، وتعتبر من أكثر الوظائف أصالة وأهمية في المجتمع.
وعلى الرغم من أن قيمة المرأة لم تزل غير معترف بها- مثل دورها المشهود وغير قابل للإنكار، والذي لم يعترفوا به بسبب جهل المرأة نفسها وعدم نضجها الفكري وطبيعة الرجل العدوانية وحبه للتسلط، وكذلك لعدم تطبيق التعاليم الدينية، وخاصةً الإسلامية، ونسيانها بسبب ثقل الغرائز البشرية المخربة- فإننا بإعادة النظر بدقة وبإنصاف وبالتحليل العلمي العميق وعرض ذلك على أفكار أفراد المجتمع وآرائهم، وخاصة المرأة نفسها، نستطيع أن نخطو خطوات في طريق إحياء قيمة المرأة، كما فعل الإسلام بهذا الأسلوب التنويري.
دور المرأة الاجتماعي
إن الأدوار الرئيسة والحياتية التي تلعبها المرأة، نتيجة لقيامها بوظائفها الخاصة بها، يمكن إيجازها بما يلي:
أ. حفظ النوع وإدامته
دور المرأة في حفظ الجنس البشري من الزوال لا يمكن إنكاره. إننا هنا نلفت الأنظار إلى أهمية هذا الدور المنحصر بالمرأة على الصعيد الاجتماعي، إذ إننا لو اعتبرنا هذا الدور وحده للمرأة، لاعترفنا بأن تأثير ذلك في الطبيعة يعتبر أهم ركن من أركان وجود البشر.
ب. حضانة الأطفال وحمايتهم
رعاية الطفل وحمايته منذ ولادته حتى فطامه، وبعد ذلك أيضاً، تعتبر من أهم عوامل سلامة الأطفال وإدامة الجنس البشري. إنه دور "الأمومة" المقدس، الدور الحساس الذي كان دائماً على كاهل المرأة، وطبيعتها مجبولة عليه.
ج. دورها في تهدئة الرجل
قرأنا في الآية 21 من سورة الروم ذكر هذا الدور للمرأة «لتَسكُنُوا إلَيْهَا»، فهي التي تقوم بالترويح عن الرجل وتسكين خواطره وتهدئته. وثمة آية أخرى تصف أحضان المرأة العطوف بأنها مدعاة لتهدئة البشر والترويح عنهم. والمرأة طبيعياً تدعو إلى تلطيف الجو المحيط بها، وتهدئة الخواطر، شرط أن لا تكون قد انحرفت عن طبيعتها الأصيلة وفطرتها بسبب الجهل أو الضعف أو سوء التربية أو سوء معاملة زوجها لها.
د. تلطيف المحيط بالعواطف
جاء في الآية 21 من سورة الروم، أن الله خلق المرأة وجعل بينها وبين الرجل "المودة" و"الرحمة"، وهو بمعنى إسباغ نوع من الحميمية والدفء العاطفي على العائلة والمجتمع.
المرأة في القرآن، رسول المحبة والإيثار والسلام، ولولا عضوية المرأة في المجتمع لاجتاحته الفظاظة والعنف ولأصبحت الحياة شاقةً يصعب تحملها. إن هذه الخصيصة التي تتميز بها المرأة هي التي تلطف من غرائز الرجل العارمة الاعتدائية وتحيل الحياة إلى تركيبة مرغوبة، وتجعل المحيط لنفسها ولزوجها وللآخرين قابلاً للتحمل، وبالتوسل بمنطق الرجل ونفسيته تحول دون سيطرة عواطفها على العقل والمنطق.
وإذا رأينا المرأة في البيت وفي المجتمع- بدلاً من أن تنشر المحبة والوفاق وتطفئ لهيب الاختلاف والشقاق وإيجاد الجو العاطفي السليم- تصبح هي نفسها سبب النزاع والغضب والفظاظة، فهذا يعني أنها قد هجرت فطرتها وابتعدت عنها، ويكون عليها عندئذ أن تبادر إلى علاج نفسها لتعود إلى طبيعتها الأصيلة.
هـ. رفع معنويات الرجل
حضور المرأة في المجتمع يوقظ في الرجل الشعور بالمسؤولية، ويحفز فيه الطبائع والغرائز الخفية، مثل الشجاعة والسخاء والصدق وأمثالها، لحماية العائلة والدفاع عنها، وكثير من الرجال قد تغيرت طباعهم وسلوكهم بحيث إن ذلك كان جلياً أمام الناس.
و. نقل الثقافة واللغة
في المحيط العائلي وفيما بين الأولاد والبنات المتفتحين للحياة، تكون المرأة أفضل وسيلة لتعليمهم اللغة ونقل الثقافة إليهم. إن ثقافة كل مجتمع تعتبر واحدةً من خصائص ذلك المجتمع تميّزه وتضمن استقلاله وتعلن هويته. وجانب كبير من هذه الثقافة -إن لم نقل كلها- ينتقل عملياً من الأم إلى أبنائها. وهذا واحد من أهم الوظائف الاجتماعية الملقاة على عاتق المجتمع الذي يحتاج إلى كثير من المؤسسات والمناهج المعقدة، غير أن المرأة في البيت، وبالاستعانة بالمشاعر العاطفية وبتربيتها أطفالها تؤدي هذه الوظيفة بكل سهولة. وإذا كانت المرأة قد تلقت هي نفسها تربية إسلامية رفيعة، يكون من السهل عليها أن تميّز التقاليد والأعراف الجاهلية الخاطئة من الصحيحة والسليمة، وتحول دون وصول الخطأ إلى أفكار صغارها وعقولهم.
ز. التربية وتنمية العواطف
الأسس الأصيلة في نفسية الإنسان هي العواطف التي تبني شخصيته ومزاجه، ومنها ينشأ كل سلوك إنساني. إن الأخلاق، التي كانت دائماً محط عناية الإسلام والأديان والفلسفات الروحية، تربو وتتكامل بفضل هذه العواطف. وما مقام الشخص وقيمته وحكم الآخرين عليه إلا من نتاج سلوكه وخصائصه الداخلية التي أنشئ عليها.
ثمة عواطف إنسانية ينبغي لها أن تتربى وتنمو لتبلغ الرشد في كامل زينتها وازدهارها. وجانب من هذه العواطف يجب أن يتربى بإدارة الدولة خلال مراحل تكامل الإنسان طوال حياته، إلا أن جانباً مهماً وأولياً من هذه العواطف يجب أن يترعرع وينمو في مرحلة الطفولة في أحضان الأم والأب، وعلى الأخص الأم، وإلاّ فإنّ الآثار المدمرة والمشؤومة لضعف قدرة الأم على التربية- والتي قد تؤدي أحياناً إلى موت تلك العواطف- تظهر الكبر، لتخلق أشخاصاً مرضى في نفوسهم ينساقون إلى حيث يقفون ضد المجتمع وضد الإنسان عموماً.
المدرسة الأولى للطفل هي أحضان الأم، حيث لا يتعلم الطفل لغة القول وخطوات السير فحسب، بل إنّ اللبنات الأولى في بناء شخصيته الفكرية والروحية يتم رصفها وتثبيتها في تلك الأحضان. وبعد ذلك تظل تربية الأم تواكب تربية المحيط والمدرسة والمجتمع في ما يتعلمه الطفل من الأب والمعلم والأستاذ. إنّ تربية الأم تمشي مع الطفل في كل تلك المراحل ويكون لها تأثير فيه، فقد تقوي ما يأخذه من خارج محيط البيت، وقد تضعفه.
يتعلّم الطفل أول دروسه في الحياة بالنظر إلى أمه. إن أهم دروس الأم التربوية يتلقاها الطفل بصورة غير مباشرة عن طريق قيام الأطفال بتقليد الأم تقليداً لا إرادياً أو بالتلقين اللا- إرادي وتأثيره ذلك في نفوسهم الطرية. ويكون تأثير ذلك في البنت أكبر كثيراً من الولد، حتى أصبح من المألوف القول بأن البنت تتشبه بأمها دائماً. فإذا تصورنا الأدوار المستقبلية لهؤلاء البنات، اللواتي هنّ أمهات المستقبل، اتضح لنا التأثير التصاعدي لهذه التربية، البناءة أو المخربة، في الأفراد، ومن ثم في المجتمع.
بديهي أن الأم التي لم تتلقَّ هي نفسها تربية صالحة، تكون لتربيتها أولادها آثار مدمرة على المجتمع وتصيب البشر بأضرار بليغة جداً.
ح. المساهمة في تنظيم العائلة
العائلة "المنظمة" تختلف، في نظرنا، عن العائلة "الطبيعية"، وعما هو شائع في مصطلحات علم الاجتماع. يرى بعض الباحثين الاجتماعيين أنّ كل طبيعة عائلية هي "العائلة الطبيعية" في المجتمع.
عندنا أن "العائلة الطبيعية" مثل كثير من البنى الاجتماعية، أمر طبيعي ذاتي النشوء بحكم الطبيعة، لا بإرادة المجتمع وتصميمه، بينما نجد أن "العائلة المنظمة" لا تكون إلا وفق نظام متفق عليه وعمليات إرادية يشترط فيها توفر كل عناصر الإدارة والتنظيم، بالإضافة إلى الاقتراح والتنفيذ والإشراف والقيادة والمعالجات المناسبة.
ولكي نحوّل "الطبيعية" إلى "المنظمة" لا بد من برنامج انتقالي وتنفيذي. ولا يمكن اعتبار العائلة الطبيعية "منظمة" إلا بعد استعادة الظروف الخاصة بها، وبعد إدارتها وفق نظام خاص وقدوة معينة. وهذا لا يكون إلا في العائلات التي تتبع في تدبير أمورها قدوةً إسلاميةً، أو مذهباً، أو قانوناً معيناً.
واستناداً إلى هذا الاختلاف، إذا لم يكن للمرأة في عائلة طبيعية (وهي الشائعة في سائر أرجاء العالم) أي دور في "التدبير"، ففي العائلة الشرعية والقانونية (الإسلامية) لا بد للمرأة من أن تكون هي المنظمة والمدبرة والمديرة، حيث تسير وفق الأصول الإدارية (التي هي شرط في كل منظمة) وتنفذ المقترحات التي يعرضها الدين (القانون). وهذا دور من الأدوار التي تلعبها المرأة النموذجية التي يقدمها الإسلام.
إن هذا التنظيم يعتبر بذاته خطةً سامية لا تتطلب إرادةً صلبةً وإدارةً قويةً فحسب، بل لا بد لها من أن تسندها ثقافة إسلامية ونظرة سليمة إلى المجتمع، والفرد، والأخلاق، ويعضدها منظور توحيدي، ورؤية واقعية، لكي تستطيع القيام بهذه المهمة الصعبة.
ط. التعاون مع الرجل
من خلال نظرة سليمة، وباعتبار فلسفة الخلق، ندرك أن المرأة مسؤولة عن التعاون مع الرجل في ميدان الصراع الاجتماعي.
إن المرأة، بسلوكها الدقيق والمنطقي الممزوج بالعاطفة، وبرقتها ولطفها الأنثوي الخاص بها، تحثّ الرجل على القيام بواجباته، أو حسن القيام بها، وكأنه الرصاصة المنطلقة من البندقية نحو الهدف، بقوة معنوية وعزم حديد لا يلين.
عند دراسة الآثار السلبية والإجابية للرجل خارج البيت، في محيط عمله ومجتمعه العام، وتقويم نتائج تعامله وتأثيره تقويماً هندسياً تصاعدياً، وتصنيف هذه الآثار المختلفة (التي غيّرت في بعض الحالات مصير مجتمع أو بلد)، نستطيع أن ندرك عمق هذا الدور الحياتي، فإضافة إلى دور المرأة المباشر في تقديم العون للرجل في شؤونه الخاصة، يمكن ملاحظة دورها غير المباشر، البناء أو المدمر، في المجتمع.
كثيرٌ من شخصيات العالم الكبيرة من القادة والسياسيين والعلماء والفنانين والشعراء والأدباء والزعماء والملوك، مدنيون بما وصلوا إليه من مقام عالٍ إلى التربية النفسية والتعاون المعنوي اللذين قدمتهما المرأة لهم.
في سيرة النبي صلى الله عليه وآله نستطيع نستطيع رؤية آثار الدور الذي لعبته السيدتان خديجة وفاطمة الزهراء عليهما السلام، حتى يمكن القول بأنه لولاهما ربما لم يصل الإسلام إلى ما وصل إليه من النمو والإنتشار، وربما ظهر التاريخ بصورة أخرى.
وفي الجهة المعاكسة يؤثر سوء خلق المرأة وعدم اهتمامها بدور الرجل في أداء واجباته الخارجية تأثيراً سيئاً عليه، مما يدفع إلى المجتمع بمجرمين خطرين ينشرون الجريمة والفساد والخراب، أو قد ترتكب المرأة عملاً سيئاً من دون أن تدري فيسبب ذلك تعطل الرجل عن أداء وظيفته وامتناعه عن القيام بما ينتظره المجتمع منه من دور بنّاء.
ثم إن للمرأة دوراً مادياً واقتصادياً في الحياة العائلية والتعاون مع الرجل. فمنهنّ من تقوم في البيت بعمل اقتصادي تزيد به من دخل الرجل، وبعضهنّ باتباع الاقتصاد في المصروفات والمحافظة على أموال الرجل من التلف، أو بأشكال أخرى ينمّين واردات العائلة، أو يقلّلن من ميزان المصروفات.
القيام بالأعمال المنزلية يعتبر أيضاً من ضمن الأدوار المادية والمعنوية المهمة التي تلعبها المرأة. إذ إنّ رفيقة الرجل ومؤنسته وأم فلاذ كبده عندما تنهض للقيام بإدارة المنزل تنقلب خادمةً وطباخةً وغسالةً وخياطةً وحاضنةً ومحافظةً وحارسةً على البيت وعلى الأموال وعوناً دائماً، من دون أن تطالب لقاء كل تلك الأتعاب والنعاناة والعمل بأي أجرة، أو أن تحاول التهرب من العمل.
إن لرغبة المرأة في العمل في البيت جذوراً عميقة. وعلى الرغم من أن الإسلام يكلف الرجل بضمان رفاهة المرأة، ولكن عدم اشتغال المرأة في البيت يعتبر بالنسبة إليها أمراً أليماً وعذاباً نفسياً لا قبل لها بتحمله. وقد جاء في حديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، ولصهره علي بن أبي طالب عليه السلام أن إدارة شؤون البيت حتى الباب تكون بعهدة المرأة، وما وراء الباب يكون بعهدة الرجل.
ي. تهدئة الغريزة
إن الله تعالى قد جعل غرائز الرجل اعتدائيةً سلطويةً متناسبةً والواجبات التي تنتظرها منه طبيعة العالم، والمرأة هي العامل الوحيد في تهدئة الرجل وإيجاد التعادل في سلوكه بموجب ما خلقت له، بحيث يمكن تسميتها "بانية العائلة"، ومن مميزات هذه الطبيعة في المرأة أنها تشبع غريزة الرجل الجنسية الاعتدائية. إن الله عز وجل قد جعل هذه الغريزة، التي تختلف وظائفها في الرجل عنها في المرأة، أو قل أنهما متضادتان، سبباً في جميع الكائنات الحية للتناسل وحفظ النوع.
إن الخلل الطبيعي قد يكون متعمداً ومقصوداً من قبل الإنسان، رجلاً أو المرأة، وهذا إخلال بالنظام الطبيعي، وإن كان ضرورياً أحياناً في الرجل أوالمرأة، إلا أنه يسبب الكثير من الخسائر المادية والمعنوية تظهر بصورة تفشي الفساد والفحشاء والانحراف والعقد والأمراض النفسية والجسمية الصعبة.
إلا أن المرأة ليست مجرد وسيلة لإطفاء غريزة الرجل الشهوانية، بل إن امتزاج الغريزة الجنسية بالعواطف الأنثوية وروح المرأة اللطيفة وسلوكها الجميل يمكن أن يكون أمراً حيوياً وظلاً ظليلاً من الهدوء والراحة واللذة يظللهما معاً، مما يعود أيضاً بالنفع النفسي والجسمي على المرأة فيملأ حياتها بهجة وسروراً.
إن ما يهبط بالمرأة إلى أدنى مراحل دورها الطبيعي والاجتماعي هو أن ترى نفسها مجرد وسيلة لإطفاء شهوة الرجل، فتقصر كل جهودها ومهاراتها على تجميل نفسها وتزيينها لتستثير شهوة الرجال وتشبع رغباتهم الآنية، مكتفية بهذا الدور الحيواني الأنثوي فحسب.
لا شك في أن مجرد الاستجابة لغرائز الرجل، على الرغم من أهميتها الحيوية، لا يمكن أن تبني وحدها شخصية المرأة وتعرضها على الأنظار بتلك الشخصية التي أرادها الله تعالى لها.
إن تزين المرأة لغير زوجها، وعدم تحجبها وعرض مفاتنها لتحريك شهوة الرجال واجتذابهم، والاستمتاع بطرق غير طريق الزواج، يعتبر نوعاً من مسخ المرأة، ونتيجة لتخلف المرأة عن الاضطلاع بدورها الحقيقي، وتحولها إلى مجرد "أنثى" لا يمكن أن تناسب شخصية المرأة وكرامتها الإنسانية ولا تشبهها.
ك. التطلع إلى الكمال والتكامل
التكامل قانون طبيعي ثابت في العالم، والإنسان يمثل جزءاً منه وتابعاً له بناءً على الفطرة التي خلق عليها.
والإنسان من حيث كونه جسماً ومادةً، لا بد له من السير في طريقه نحو التكامل. ولكنه من حيث إنسانيته، ومن أجل أن يصل إلى النضج الخلقي والعقلي وإلى تنمية مداركه ونظرته إلى العالم وإلى نفسه وإلى الله (والتي يطلقون عليها اسم: وجهة نظر عالمية وعقائدية، وتعبيرها الآخر هو أصول الدين) وبهدف بلوغه كماله النهائي، مقام القرب من الله، أو وصاله، أو لقائه (وهو ما يصطلح عليه: السير إلى الله والأسفار المعنوية)، فإنه يحتاج إلى العزيمة والإرادة. إن إرادة الإنسان وسعيه المستمر لطيّ هذه المسيرة التكاملية لازمان وضروريان، فيما تقوم الفطرة والطبيعة بتسهيل أمر التكامل وتمهيد طريقه.
التكامل المادي يشمل مرحلة الطفولة، فالبلوغ، فالشباب، فالاعتدال الطبيعي، وهو تكامل حيواني ونباتي. أما التكامل المعنوي فهو تكامل إنسانية الإنسان، والشروع فيه يستدعي تجاوز الدرجة الأولى من سلم الحياة. أي الحياة الحيوانية، والشروع بالمسير بالاعتماد على عوامل ثلاثة، هي الإرادة، والبرمجة، والسعي (أو الجهاد) ليرقى إلى مدارج اللامتناهية التالية.
إن طيّ هذه المدارج الروحية، أي تكامل الإنسان المعنوي، في حياة عائلية ضيقة، لا يمكن أن يتحقق من دون مساعدة الزوجة وتعاونها. إن الزوجة غير مناسبة، أو غير مدركة، أو لا هدف لها، ستكون دائماً حجر عثرة في الطريق وعائقاً أشبه بالقيد الثقيل يكبل قدمي الرجل فيمنع تحركه المستمر المثمر.
هنا يتبين دور المرأة في طيّ مراحل هذا الطريق المعنوي وتسريع تكاملها وتكامل زوجها، أو في أن تثقل على زوجها كصخرة فتمنعه من التحرك، وبتعبير سعدي في شعره القائل: "المرأة الخبيثة في بيت الرجل الطيب جحيمه في هذه الدنيا".
ل. دور المرأة في التاريخ
قلنا إن حضور المرأة الدائم في المجتمع البشري بأعداد كبيرة قد جعل منها كائناً رخيص الثمن وعديم الأهمية، مستصغراً دورها في المجتمع. يعتقد الناس أن عمل المرأة هو إشباع الحاجة الجنسية، وإنجاب الأطفال وتربيتهم، والقيام بأعمال المنزل وخدمة الرجل. وهذا الاعتقاد تحمله المرأة عن نفسها. بعض النسوة يحسبن أنهن مؤنسات وحدة الرجل، أو أنهنّ يخدمنه، وفي بعض المجتمعات تصور المرأة أنها ملك يمين الرجل، لا أكثر. وفي غضون ذلك خفيت على الجميع- باستثناء قادة البشرية الأنبياء وأوصيائهم- الأدوار الأخرى للمرأة، بما فيه دورها في الطبيعة وفي التاريخ.
وإذا ما تغاضينا عن دور المرأة في إدامة بقاء النوع، وعن دورها في تربية الأطفال، وعن تأثيرها في الزوج والرجل وفي جميع التطورات الاجتماعية، فإننا بمحاسبة قصيرة ولكن دقيقة، نلاحظ أن للمرأة دوراً مهماً آخر، وهو دور "ولادة التاريخ".
إن المرأة "أم التاريخ"، فما التاريخ إلا حركة المجتمعات البشرية المستمرة الموصولة، وجماع المنحنيات الأفقية والعمودية وظاهرات الإنسان الإيجابية والسلبية. ولولا المجتمعات لما كان للتاريخ معنى، ولولا الفرد أو العائلة- وهما لبنة بناء المجتمع- لما كان هناك مجتمع، ولما كان هناك هذا الوجود العجيب المليء بالأشياء والأحداث.
فأي دور أعلى من إنجاب الإنسان، المحور الذي يدور حوله التاريخ، وإعداد هذا الإنسان، وصقله وتربيته (سواء أكان ابناً أم زوجاً يصنع التاريخ).
كل الأنبياء والقادة والعلماء والمفكرين والذين خدموا الإنسان قد ولدتهم الأمهات، وفي كل الخطوط التي تصور حياتهم ترى آثار دور الأم المشهود. والرجال الذين كانوا عار الإنسانية وسوّدوا صفحات التاريخ كانوا أيضاً لأمهات ولدنهم واستلهموا منهن دوافعهم.
هنا يمكن إدراك دور الأم الصالحة والطالحة، بصرف النظر عن النسوة اللواتي كن بذواتهن محور تحرك المجتمع والتاريخ وغيرن مسيرته، وكن أحياناً أجدر من كثير من رجالات زمانهن.
إلا أن التاريخ نفسه، بالرغم من هذا كله، مثل أكثر أبناء هذه الأم- أعني المرأة- لم يحفظ الجميل لكل هذا الإحسان والعون والخدمة، فبعد مرور قرون من عمر التاريخ، ما تزال المرأة هي تلك المرأة التي كانت تقبع بالقرب من مهد التاريخ تهزّه في خضوع الأمة، تهمهم لوليدها ألحان المحبة والحنان.
كان هذا موجزاً عن دور المرأة، وهو وليد ذلك الاختلاف النفسي والجسمي والطبيعي بينها وبين الرجل. إن أدوار المرأة الاجتماعية هي معيار تقويم شخصية المرأة وتقدير "قيمتها الاجتماعية" ومكانها الطبيعي. وهذا المعيار هو الذي يحدو بالمقنّنين والمشرعين أن يضعوا الحدود اللازمة بين حقوقها وتكاليفها وحقوق الرجل وتكاليفه في المجتمع، ويسقطوا نظرية المساواة المطلقة والعمياء بين حقوق المرأة والرجل باعتبارها أقل النظريات نضجاً وأضعفها دفاعاً عن المرأة.
1- «وَمِن آياتِهِ أنْ خلَقَ لكُم منْ أنفُسِكُم أزوَاجَاً لتسكُنُوا إليها وجعَلَ بينَكُم مودَّةً ورحمَةً إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يتفكَّرُونَ» سورة الروم، الآية 21.
2- «حملتْهُ أمُّهُ وَهناً على وَهْنٍ» سورة لقمان، الآية 14؛ «حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً» سورة الأحقاف، الآية 15.
المصدر:
فلسفة الأنوثة (مقدمة لحقوق المرأة في الإسلام)، محمد الخامنئي، ترجمة حيدر نجف، دار المعارف الحكمية، ط1، 2015م، بيروت- لبنان.
وهو يتجلى في خصائص المرأة الجسمية والروحية ووظائفها الخاصة بها، تلك الوظائف الحياتية والبناءة والمثمرة. وإنه لمن المؤسف أن نلاحظ أن أحداً لم ينظر بعين الاعتبار والتقدير على امتداد التاريخ- إما عن عمد وإما عن جهل- إلى أهمية وظائف المرأة ودورها الخاص، أو لجأ إلى التقليل من أهميتها واعتبارها أموراً مفروغاً منها كطلوع الشمس وغروبها وهطول المطر والثلوج.
وبما أن المرأة وخدماتها كانت دائماً متوفرة ولم تكن بعيدة عن متناول أي مجتمع بحيث إن فقدانها يكشف عن أهميتها وآثارها، لذلك لم تستطيع المرأة في أي مجتمع - حتى في عالمنا المتمدن اليوم- أن تنال اعترافاً بقيمتها وموقعها الحقيقي في المجتمع.
هنا من المناسب أن نشير إلى العلاقة بين "القيمة الاجتماعية" و"الدور الإجتماعي". فالقيمة الاجتماعية في مصطلح علم الاجتماع تعني المقام والمركز الذي يناله كل فرد في المجتمع استناداً إلى خصائصه ونفعه وتأثيره في تحسين مسيرة المجتمع (أو تأثيره الحسن أو السيئ في المجتمع). فالقادة الدينيون أو العسكريون أو السياسيون، والأطباء، والمعلمون، وحتى المخترعون والفنانون وأمثالهم، كانوا دائماً أعلى قيمة من سائر الناس، وتقدير هذه القيم يعود إلى الناس أنفسهم. وللأفكار والعقائد العامة تأثيره في ذلك التقدير. أما في المجتمع الإسلامي فلهذه القيم أصالتها وهي منتزعة من الإسلام والفطرة، وليست اعتبارية.
والمرأة تنال "قيمتها الاجتماعية" نتيجة لقيامها مع الرجل بتشكيل العائلة وأداء دورها و"مركزها الاجتماعي" الخاص. وهذه كلها لها دور حياتي ورئيس، وتعتبر من أكثر الوظائف أصالة وأهمية في المجتمع.
وعلى الرغم من أن قيمة المرأة لم تزل غير معترف بها- مثل دورها المشهود وغير قابل للإنكار، والذي لم يعترفوا به بسبب جهل المرأة نفسها وعدم نضجها الفكري وطبيعة الرجل العدوانية وحبه للتسلط، وكذلك لعدم تطبيق التعاليم الدينية، وخاصةً الإسلامية، ونسيانها بسبب ثقل الغرائز البشرية المخربة- فإننا بإعادة النظر بدقة وبإنصاف وبالتحليل العلمي العميق وعرض ذلك على أفكار أفراد المجتمع وآرائهم، وخاصة المرأة نفسها، نستطيع أن نخطو خطوات في طريق إحياء قيمة المرأة، كما فعل الإسلام بهذا الأسلوب التنويري.
دور المرأة الاجتماعي
إن الأدوار الرئيسة والحياتية التي تلعبها المرأة، نتيجة لقيامها بوظائفها الخاصة بها، يمكن إيجازها بما يلي:
أ. حفظ النوع وإدامته
دور المرأة في حفظ الجنس البشري من الزوال لا يمكن إنكاره. إننا هنا نلفت الأنظار إلى أهمية هذا الدور المنحصر بالمرأة على الصعيد الاجتماعي، إذ إننا لو اعتبرنا هذا الدور وحده للمرأة، لاعترفنا بأن تأثير ذلك في الطبيعة يعتبر أهم ركن من أركان وجود البشر.
ب. حضانة الأطفال وحمايتهم
رعاية الطفل وحمايته منذ ولادته حتى فطامه، وبعد ذلك أيضاً، تعتبر من أهم عوامل سلامة الأطفال وإدامة الجنس البشري. إنه دور "الأمومة" المقدس، الدور الحساس الذي كان دائماً على كاهل المرأة، وطبيعتها مجبولة عليه.
ج. دورها في تهدئة الرجل
قرأنا في الآية 21 من سورة الروم ذكر هذا الدور للمرأة «لتَسكُنُوا إلَيْهَا»، فهي التي تقوم بالترويح عن الرجل وتسكين خواطره وتهدئته. وثمة آية أخرى تصف أحضان المرأة العطوف بأنها مدعاة لتهدئة البشر والترويح عنهم. والمرأة طبيعياً تدعو إلى تلطيف الجو المحيط بها، وتهدئة الخواطر، شرط أن لا تكون قد انحرفت عن طبيعتها الأصيلة وفطرتها بسبب الجهل أو الضعف أو سوء التربية أو سوء معاملة زوجها لها.
د. تلطيف المحيط بالعواطف
جاء في الآية 21 من سورة الروم، أن الله خلق المرأة وجعل بينها وبين الرجل "المودة" و"الرحمة"، وهو بمعنى إسباغ نوع من الحميمية والدفء العاطفي على العائلة والمجتمع.
المرأة في القرآن، رسول المحبة والإيثار والسلام، ولولا عضوية المرأة في المجتمع لاجتاحته الفظاظة والعنف ولأصبحت الحياة شاقةً يصعب تحملها. إن هذه الخصيصة التي تتميز بها المرأة هي التي تلطف من غرائز الرجل العارمة الاعتدائية وتحيل الحياة إلى تركيبة مرغوبة، وتجعل المحيط لنفسها ولزوجها وللآخرين قابلاً للتحمل، وبالتوسل بمنطق الرجل ونفسيته تحول دون سيطرة عواطفها على العقل والمنطق.
وإذا رأينا المرأة في البيت وفي المجتمع- بدلاً من أن تنشر المحبة والوفاق وتطفئ لهيب الاختلاف والشقاق وإيجاد الجو العاطفي السليم- تصبح هي نفسها سبب النزاع والغضب والفظاظة، فهذا يعني أنها قد هجرت فطرتها وابتعدت عنها، ويكون عليها عندئذ أن تبادر إلى علاج نفسها لتعود إلى طبيعتها الأصيلة.
هـ. رفع معنويات الرجل
حضور المرأة في المجتمع يوقظ في الرجل الشعور بالمسؤولية، ويحفز فيه الطبائع والغرائز الخفية، مثل الشجاعة والسخاء والصدق وأمثالها، لحماية العائلة والدفاع عنها، وكثير من الرجال قد تغيرت طباعهم وسلوكهم بحيث إن ذلك كان جلياً أمام الناس.
و. نقل الثقافة واللغة
في المحيط العائلي وفيما بين الأولاد والبنات المتفتحين للحياة، تكون المرأة أفضل وسيلة لتعليمهم اللغة ونقل الثقافة إليهم. إن ثقافة كل مجتمع تعتبر واحدةً من خصائص ذلك المجتمع تميّزه وتضمن استقلاله وتعلن هويته. وجانب كبير من هذه الثقافة -إن لم نقل كلها- ينتقل عملياً من الأم إلى أبنائها. وهذا واحد من أهم الوظائف الاجتماعية الملقاة على عاتق المجتمع الذي يحتاج إلى كثير من المؤسسات والمناهج المعقدة، غير أن المرأة في البيت، وبالاستعانة بالمشاعر العاطفية وبتربيتها أطفالها تؤدي هذه الوظيفة بكل سهولة. وإذا كانت المرأة قد تلقت هي نفسها تربية إسلامية رفيعة، يكون من السهل عليها أن تميّز التقاليد والأعراف الجاهلية الخاطئة من الصحيحة والسليمة، وتحول دون وصول الخطأ إلى أفكار صغارها وعقولهم.
ز. التربية وتنمية العواطف
الأسس الأصيلة في نفسية الإنسان هي العواطف التي تبني شخصيته ومزاجه، ومنها ينشأ كل سلوك إنساني. إن الأخلاق، التي كانت دائماً محط عناية الإسلام والأديان والفلسفات الروحية، تربو وتتكامل بفضل هذه العواطف. وما مقام الشخص وقيمته وحكم الآخرين عليه إلا من نتاج سلوكه وخصائصه الداخلية التي أنشئ عليها.
ثمة عواطف إنسانية ينبغي لها أن تتربى وتنمو لتبلغ الرشد في كامل زينتها وازدهارها. وجانب من هذه العواطف يجب أن يتربى بإدارة الدولة خلال مراحل تكامل الإنسان طوال حياته، إلا أن جانباً مهماً وأولياً من هذه العواطف يجب أن يترعرع وينمو في مرحلة الطفولة في أحضان الأم والأب، وعلى الأخص الأم، وإلاّ فإنّ الآثار المدمرة والمشؤومة لضعف قدرة الأم على التربية- والتي قد تؤدي أحياناً إلى موت تلك العواطف- تظهر الكبر، لتخلق أشخاصاً مرضى في نفوسهم ينساقون إلى حيث يقفون ضد المجتمع وضد الإنسان عموماً.
المدرسة الأولى للطفل هي أحضان الأم، حيث لا يتعلم الطفل لغة القول وخطوات السير فحسب، بل إنّ اللبنات الأولى في بناء شخصيته الفكرية والروحية يتم رصفها وتثبيتها في تلك الأحضان. وبعد ذلك تظل تربية الأم تواكب تربية المحيط والمدرسة والمجتمع في ما يتعلمه الطفل من الأب والمعلم والأستاذ. إنّ تربية الأم تمشي مع الطفل في كل تلك المراحل ويكون لها تأثير فيه، فقد تقوي ما يأخذه من خارج محيط البيت، وقد تضعفه.
يتعلّم الطفل أول دروسه في الحياة بالنظر إلى أمه. إن أهم دروس الأم التربوية يتلقاها الطفل بصورة غير مباشرة عن طريق قيام الأطفال بتقليد الأم تقليداً لا إرادياً أو بالتلقين اللا- إرادي وتأثيره ذلك في نفوسهم الطرية. ويكون تأثير ذلك في البنت أكبر كثيراً من الولد، حتى أصبح من المألوف القول بأن البنت تتشبه بأمها دائماً. فإذا تصورنا الأدوار المستقبلية لهؤلاء البنات، اللواتي هنّ أمهات المستقبل، اتضح لنا التأثير التصاعدي لهذه التربية، البناءة أو المخربة، في الأفراد، ومن ثم في المجتمع.
بديهي أن الأم التي لم تتلقَّ هي نفسها تربية صالحة، تكون لتربيتها أولادها آثار مدمرة على المجتمع وتصيب البشر بأضرار بليغة جداً.
ح. المساهمة في تنظيم العائلة
العائلة "المنظمة" تختلف، في نظرنا، عن العائلة "الطبيعية"، وعما هو شائع في مصطلحات علم الاجتماع. يرى بعض الباحثين الاجتماعيين أنّ كل طبيعة عائلية هي "العائلة الطبيعية" في المجتمع.
عندنا أن "العائلة الطبيعية" مثل كثير من البنى الاجتماعية، أمر طبيعي ذاتي النشوء بحكم الطبيعة، لا بإرادة المجتمع وتصميمه، بينما نجد أن "العائلة المنظمة" لا تكون إلا وفق نظام متفق عليه وعمليات إرادية يشترط فيها توفر كل عناصر الإدارة والتنظيم، بالإضافة إلى الاقتراح والتنفيذ والإشراف والقيادة والمعالجات المناسبة.
ولكي نحوّل "الطبيعية" إلى "المنظمة" لا بد من برنامج انتقالي وتنفيذي. ولا يمكن اعتبار العائلة الطبيعية "منظمة" إلا بعد استعادة الظروف الخاصة بها، وبعد إدارتها وفق نظام خاص وقدوة معينة. وهذا لا يكون إلا في العائلات التي تتبع في تدبير أمورها قدوةً إسلاميةً، أو مذهباً، أو قانوناً معيناً.
واستناداً إلى هذا الاختلاف، إذا لم يكن للمرأة في عائلة طبيعية (وهي الشائعة في سائر أرجاء العالم) أي دور في "التدبير"، ففي العائلة الشرعية والقانونية (الإسلامية) لا بد للمرأة من أن تكون هي المنظمة والمدبرة والمديرة، حيث تسير وفق الأصول الإدارية (التي هي شرط في كل منظمة) وتنفذ المقترحات التي يعرضها الدين (القانون). وهذا دور من الأدوار التي تلعبها المرأة النموذجية التي يقدمها الإسلام.
إن هذا التنظيم يعتبر بذاته خطةً سامية لا تتطلب إرادةً صلبةً وإدارةً قويةً فحسب، بل لا بد لها من أن تسندها ثقافة إسلامية ونظرة سليمة إلى المجتمع، والفرد، والأخلاق، ويعضدها منظور توحيدي، ورؤية واقعية، لكي تستطيع القيام بهذه المهمة الصعبة.
ط. التعاون مع الرجل
من خلال نظرة سليمة، وباعتبار فلسفة الخلق، ندرك أن المرأة مسؤولة عن التعاون مع الرجل في ميدان الصراع الاجتماعي.
إن المرأة، بسلوكها الدقيق والمنطقي الممزوج بالعاطفة، وبرقتها ولطفها الأنثوي الخاص بها، تحثّ الرجل على القيام بواجباته، أو حسن القيام بها، وكأنه الرصاصة المنطلقة من البندقية نحو الهدف، بقوة معنوية وعزم حديد لا يلين.
عند دراسة الآثار السلبية والإجابية للرجل خارج البيت، في محيط عمله ومجتمعه العام، وتقويم نتائج تعامله وتأثيره تقويماً هندسياً تصاعدياً، وتصنيف هذه الآثار المختلفة (التي غيّرت في بعض الحالات مصير مجتمع أو بلد)، نستطيع أن ندرك عمق هذا الدور الحياتي، فإضافة إلى دور المرأة المباشر في تقديم العون للرجل في شؤونه الخاصة، يمكن ملاحظة دورها غير المباشر، البناء أو المدمر، في المجتمع.
كثيرٌ من شخصيات العالم الكبيرة من القادة والسياسيين والعلماء والفنانين والشعراء والأدباء والزعماء والملوك، مدنيون بما وصلوا إليه من مقام عالٍ إلى التربية النفسية والتعاون المعنوي اللذين قدمتهما المرأة لهم.
في سيرة النبي صلى الله عليه وآله نستطيع نستطيع رؤية آثار الدور الذي لعبته السيدتان خديجة وفاطمة الزهراء عليهما السلام، حتى يمكن القول بأنه لولاهما ربما لم يصل الإسلام إلى ما وصل إليه من النمو والإنتشار، وربما ظهر التاريخ بصورة أخرى.
وفي الجهة المعاكسة يؤثر سوء خلق المرأة وعدم اهتمامها بدور الرجل في أداء واجباته الخارجية تأثيراً سيئاً عليه، مما يدفع إلى المجتمع بمجرمين خطرين ينشرون الجريمة والفساد والخراب، أو قد ترتكب المرأة عملاً سيئاً من دون أن تدري فيسبب ذلك تعطل الرجل عن أداء وظيفته وامتناعه عن القيام بما ينتظره المجتمع منه من دور بنّاء.
ثم إن للمرأة دوراً مادياً واقتصادياً في الحياة العائلية والتعاون مع الرجل. فمنهنّ من تقوم في البيت بعمل اقتصادي تزيد به من دخل الرجل، وبعضهنّ باتباع الاقتصاد في المصروفات والمحافظة على أموال الرجل من التلف، أو بأشكال أخرى ينمّين واردات العائلة، أو يقلّلن من ميزان المصروفات.
القيام بالأعمال المنزلية يعتبر أيضاً من ضمن الأدوار المادية والمعنوية المهمة التي تلعبها المرأة. إذ إنّ رفيقة الرجل ومؤنسته وأم فلاذ كبده عندما تنهض للقيام بإدارة المنزل تنقلب خادمةً وطباخةً وغسالةً وخياطةً وحاضنةً ومحافظةً وحارسةً على البيت وعلى الأموال وعوناً دائماً، من دون أن تطالب لقاء كل تلك الأتعاب والنعاناة والعمل بأي أجرة، أو أن تحاول التهرب من العمل.
إن لرغبة المرأة في العمل في البيت جذوراً عميقة. وعلى الرغم من أن الإسلام يكلف الرجل بضمان رفاهة المرأة، ولكن عدم اشتغال المرأة في البيت يعتبر بالنسبة إليها أمراً أليماً وعذاباً نفسياً لا قبل لها بتحمله. وقد جاء في حديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، ولصهره علي بن أبي طالب عليه السلام أن إدارة شؤون البيت حتى الباب تكون بعهدة المرأة، وما وراء الباب يكون بعهدة الرجل.
ي. تهدئة الغريزة
إن الله تعالى قد جعل غرائز الرجل اعتدائيةً سلطويةً متناسبةً والواجبات التي تنتظرها منه طبيعة العالم، والمرأة هي العامل الوحيد في تهدئة الرجل وإيجاد التعادل في سلوكه بموجب ما خلقت له، بحيث يمكن تسميتها "بانية العائلة"، ومن مميزات هذه الطبيعة في المرأة أنها تشبع غريزة الرجل الجنسية الاعتدائية. إن الله عز وجل قد جعل هذه الغريزة، التي تختلف وظائفها في الرجل عنها في المرأة، أو قل أنهما متضادتان، سبباً في جميع الكائنات الحية للتناسل وحفظ النوع.
إن الخلل الطبيعي قد يكون متعمداً ومقصوداً من قبل الإنسان، رجلاً أو المرأة، وهذا إخلال بالنظام الطبيعي، وإن كان ضرورياً أحياناً في الرجل أوالمرأة، إلا أنه يسبب الكثير من الخسائر المادية والمعنوية تظهر بصورة تفشي الفساد والفحشاء والانحراف والعقد والأمراض النفسية والجسمية الصعبة.
إلا أن المرأة ليست مجرد وسيلة لإطفاء غريزة الرجل الشهوانية، بل إن امتزاج الغريزة الجنسية بالعواطف الأنثوية وروح المرأة اللطيفة وسلوكها الجميل يمكن أن يكون أمراً حيوياً وظلاً ظليلاً من الهدوء والراحة واللذة يظللهما معاً، مما يعود أيضاً بالنفع النفسي والجسمي على المرأة فيملأ حياتها بهجة وسروراً.
إن ما يهبط بالمرأة إلى أدنى مراحل دورها الطبيعي والاجتماعي هو أن ترى نفسها مجرد وسيلة لإطفاء شهوة الرجل، فتقصر كل جهودها ومهاراتها على تجميل نفسها وتزيينها لتستثير شهوة الرجال وتشبع رغباتهم الآنية، مكتفية بهذا الدور الحيواني الأنثوي فحسب.
لا شك في أن مجرد الاستجابة لغرائز الرجل، على الرغم من أهميتها الحيوية، لا يمكن أن تبني وحدها شخصية المرأة وتعرضها على الأنظار بتلك الشخصية التي أرادها الله تعالى لها.
إن تزين المرأة لغير زوجها، وعدم تحجبها وعرض مفاتنها لتحريك شهوة الرجال واجتذابهم، والاستمتاع بطرق غير طريق الزواج، يعتبر نوعاً من مسخ المرأة، ونتيجة لتخلف المرأة عن الاضطلاع بدورها الحقيقي، وتحولها إلى مجرد "أنثى" لا يمكن أن تناسب شخصية المرأة وكرامتها الإنسانية ولا تشبهها.
ك. التطلع إلى الكمال والتكامل
التكامل قانون طبيعي ثابت في العالم، والإنسان يمثل جزءاً منه وتابعاً له بناءً على الفطرة التي خلق عليها.
والإنسان من حيث كونه جسماً ومادةً، لا بد له من السير في طريقه نحو التكامل. ولكنه من حيث إنسانيته، ومن أجل أن يصل إلى النضج الخلقي والعقلي وإلى تنمية مداركه ونظرته إلى العالم وإلى نفسه وإلى الله (والتي يطلقون عليها اسم: وجهة نظر عالمية وعقائدية، وتعبيرها الآخر هو أصول الدين) وبهدف بلوغه كماله النهائي، مقام القرب من الله، أو وصاله، أو لقائه (وهو ما يصطلح عليه: السير إلى الله والأسفار المعنوية)، فإنه يحتاج إلى العزيمة والإرادة. إن إرادة الإنسان وسعيه المستمر لطيّ هذه المسيرة التكاملية لازمان وضروريان، فيما تقوم الفطرة والطبيعة بتسهيل أمر التكامل وتمهيد طريقه.
التكامل المادي يشمل مرحلة الطفولة، فالبلوغ، فالشباب، فالاعتدال الطبيعي، وهو تكامل حيواني ونباتي. أما التكامل المعنوي فهو تكامل إنسانية الإنسان، والشروع فيه يستدعي تجاوز الدرجة الأولى من سلم الحياة. أي الحياة الحيوانية، والشروع بالمسير بالاعتماد على عوامل ثلاثة، هي الإرادة، والبرمجة، والسعي (أو الجهاد) ليرقى إلى مدارج اللامتناهية التالية.
إن طيّ هذه المدارج الروحية، أي تكامل الإنسان المعنوي، في حياة عائلية ضيقة، لا يمكن أن يتحقق من دون مساعدة الزوجة وتعاونها. إن الزوجة غير مناسبة، أو غير مدركة، أو لا هدف لها، ستكون دائماً حجر عثرة في الطريق وعائقاً أشبه بالقيد الثقيل يكبل قدمي الرجل فيمنع تحركه المستمر المثمر.
هنا يتبين دور المرأة في طيّ مراحل هذا الطريق المعنوي وتسريع تكاملها وتكامل زوجها، أو في أن تثقل على زوجها كصخرة فتمنعه من التحرك، وبتعبير سعدي في شعره القائل: "المرأة الخبيثة في بيت الرجل الطيب جحيمه في هذه الدنيا".
ل. دور المرأة في التاريخ
قلنا إن حضور المرأة الدائم في المجتمع البشري بأعداد كبيرة قد جعل منها كائناً رخيص الثمن وعديم الأهمية، مستصغراً دورها في المجتمع. يعتقد الناس أن عمل المرأة هو إشباع الحاجة الجنسية، وإنجاب الأطفال وتربيتهم، والقيام بأعمال المنزل وخدمة الرجل. وهذا الاعتقاد تحمله المرأة عن نفسها. بعض النسوة يحسبن أنهن مؤنسات وحدة الرجل، أو أنهنّ يخدمنه، وفي بعض المجتمعات تصور المرأة أنها ملك يمين الرجل، لا أكثر. وفي غضون ذلك خفيت على الجميع- باستثناء قادة البشرية الأنبياء وأوصيائهم- الأدوار الأخرى للمرأة، بما فيه دورها في الطبيعة وفي التاريخ.
وإذا ما تغاضينا عن دور المرأة في إدامة بقاء النوع، وعن دورها في تربية الأطفال، وعن تأثيرها في الزوج والرجل وفي جميع التطورات الاجتماعية، فإننا بمحاسبة قصيرة ولكن دقيقة، نلاحظ أن للمرأة دوراً مهماً آخر، وهو دور "ولادة التاريخ".
إن المرأة "أم التاريخ"، فما التاريخ إلا حركة المجتمعات البشرية المستمرة الموصولة، وجماع المنحنيات الأفقية والعمودية وظاهرات الإنسان الإيجابية والسلبية. ولولا المجتمعات لما كان للتاريخ معنى، ولولا الفرد أو العائلة- وهما لبنة بناء المجتمع- لما كان هناك مجتمع، ولما كان هناك هذا الوجود العجيب المليء بالأشياء والأحداث.
فأي دور أعلى من إنجاب الإنسان، المحور الذي يدور حوله التاريخ، وإعداد هذا الإنسان، وصقله وتربيته (سواء أكان ابناً أم زوجاً يصنع التاريخ).
كل الأنبياء والقادة والعلماء والمفكرين والذين خدموا الإنسان قد ولدتهم الأمهات، وفي كل الخطوط التي تصور حياتهم ترى آثار دور الأم المشهود. والرجال الذين كانوا عار الإنسانية وسوّدوا صفحات التاريخ كانوا أيضاً لأمهات ولدنهم واستلهموا منهن دوافعهم.
هنا يمكن إدراك دور الأم الصالحة والطالحة، بصرف النظر عن النسوة اللواتي كن بذواتهن محور تحرك المجتمع والتاريخ وغيرن مسيرته، وكن أحياناً أجدر من كثير من رجالات زمانهن.
إلا أن التاريخ نفسه، بالرغم من هذا كله، مثل أكثر أبناء هذه الأم- أعني المرأة- لم يحفظ الجميل لكل هذا الإحسان والعون والخدمة، فبعد مرور قرون من عمر التاريخ، ما تزال المرأة هي تلك المرأة التي كانت تقبع بالقرب من مهد التاريخ تهزّه في خضوع الأمة، تهمهم لوليدها ألحان المحبة والحنان.
كان هذا موجزاً عن دور المرأة، وهو وليد ذلك الاختلاف النفسي والجسمي والطبيعي بينها وبين الرجل. إن أدوار المرأة الاجتماعية هي معيار تقويم شخصية المرأة وتقدير "قيمتها الاجتماعية" ومكانها الطبيعي. وهذا المعيار هو الذي يحدو بالمقنّنين والمشرعين أن يضعوا الحدود اللازمة بين حقوقها وتكاليفها وحقوق الرجل وتكاليفه في المجتمع، ويسقطوا نظرية المساواة المطلقة والعمياء بين حقوق المرأة والرجل باعتبارها أقل النظريات نضجاً وأضعفها دفاعاً عن المرأة.
1- «وَمِن آياتِهِ أنْ خلَقَ لكُم منْ أنفُسِكُم أزوَاجَاً لتسكُنُوا إليها وجعَلَ بينَكُم مودَّةً ورحمَةً إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يتفكَّرُونَ» سورة الروم، الآية 21.
2- «حملتْهُ أمُّهُ وَهناً على وَهْنٍ» سورة لقمان، الآية 14؛ «حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً» سورة الأحقاف، الآية 15.
المصدر:
فلسفة الأنوثة (مقدمة لحقوق المرأة في الإسلام)، محمد الخامنئي، ترجمة حيدر نجف، دار المعارف الحكمية، ط1، 2015م، بيروت- لبنان.
اترك تعليق