مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

متى يجوز قطع الرحم؟

متى يجوز قطع الرحم؟

من المحرمات التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها بشكل كبير قطيعة الرحم فقد ورد في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى: «وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» (سورة الرعد، الآية: 25). وقد قدمنا في بداية البحث أنّ صلة الرحم هي مما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل وبالتالي فإن من يقطعها قال عنه الله عز وجل إنه عليه اللعنة وله سوء الدار.
ومن الملفت ربط قطيعة الرحم في أكثر من مورد بالإفساد في الأرض وكأنها من سنخها وهذا طبيعي، فإنّ الله عندما خلقنا أرادنا أن نتعارف ونتآلف فقطع الرحم هو على خلاف الإرادة الإلهية ويؤدي حتماً إلى إفساد المجتمع وتفكيكه بعد أن أراد الله سبحانه وتعالى منا توحيده وصهره في بوتقة إنسانية واحدة لا يميز فيها أحدنا عن الآخر إلا التقوى. فقد ورد في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (سورة الحجرات، الآية: 13). وفي نفس المورد وهو ربط قطيعة الرحم بالإفساد في الأرض ورد قول الله سبحانه وتعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» (سورة محمد، الآية: 22). وهذا ما يؤكد الحرمة الكبيرة لقطيعة الرحم كونها من أكبر الآثام الشرعية التي يمكن أن يرتكبها إنسان فقد أوردها الله سبحانه وتعالى مقارنة للإفساد في الأرض مشعراً بعِظم الجرم المرتكب بواسطتها، وهي على ما في بعض الأحاديث من أقبح المعاصي، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي(ع) قوله: "أقبح المعاصي قطيعة الرحم والعقوق"(1).
متى يجوز قطع الرحم؟
في الأصل لا يجوز بحال قطع رحمنا إلا في موارد محدودة ولطروء عناوين ثانوية وهذا ما سنتعرض له إجمالاً فيما يلي:
أ‌- مقاطعة من يخالفنا:
في بعض الأحيان تنشأ بين الأرحام خلافات كبيرة ذات منطلقات مختلفة، فقد نختلف بسبب أمور مادية، وقد يكون ذلك بسبب خلافات سياسية، أو فكرية، أو حتى مذهبية. فإذا بهم يقاطعون بعضهم البعض ويتعادون معاداة لا يشفع لهم فيها كونهم أرحاما ينتسبون إلى عائلة واحدة، بل قد يكونوا إخوة وأخوات.
أن تكون على خلاف فكري، أو مادي، أو مذهبي مع رحمك فإن ذلك لا يبرر للك مقاطعته، والإسلام منع شرعاً من القطيعة بهذا السبب، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) فيما رواه عنه الجهم بن حميد أنه قال: قلت لأبي عبد الله(ع): "يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: نعم، حق الرحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقان: حق الرحم، وحق الإسلام"(2).
فالإسلام قسم القرابة إلى قسمين: إما إخوة لك في الدين فلهم عليك حقان حق الرحم وحق الإسلام، وإما على غير ديننا أو مذهبنا فلهم علينا حق الرحم والقرابة الذي على حسب الرواية لا يقطعه شيء.
ب‌- مقاطعة من أساء إلينا:
في بعض الأحيان نتعامل مع أرحامنا لا على مقياس الإسلام الذي يتجاوز فيه المسلم المؤمن عن أخطاء الآخرين ويتعامل معهم على أساس إيمانه لا على أساس تصرفاتهم معه فلو شتموه يشتمهم في حين أنّ المطلوب منهم أن يتجاوزوا عن أخطاء غيره معه ويسامحهم ويعاملهم انطلاقاً من مفهوم الدين السمح الذي يتجاوز عن أخطاء الآخرين، ومن ذلك ترى أنّ بعض الأشخاص يقاطع رحمه وهو مؤمن فإذا سألته لماذا تفعل ذلك وهو غير جائز ومحرم؟ يقول لك: إنهم يؤذونني ويشتمونني ويسيئون إليّ ولا يعاملونني معاملة حسنة ولا يحترمونني فلماذا أصلهم وهم يتصرفون معي هكذا؟.
في حين أنّ الإسلام يدعوه للتسامح والصفح عنهم والتجاوز عن أخطائهم فلعلهم بذلك يلتفتون إلى ما يفعلون ويعودون إلى رشدهم، وإن لم يفعلوا ذلك فله من الله سبحانه وتعالى الأجر جزاء ما تحمل في سبيل الحفاظ على أحكام الله عز وجل. وقد ورد في ذلك ما روي عن الإمام الصادق(ع) حيث قال: "إنّ رجلاً أتى النبي(ص) فقال: يا رسول الله: أهل بيتي أبوا إلا توثباً علي وقطيعة لي وشتيمة فأرفضهم؟ قال: إذاً يرفضكم الله جميعاً، قال: فكيف أصنع؟ قال: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإنك إذا فعلت ذلك، كان لك من الله عليهم ظهيراً"(3).
فالنبي(ص) عندما جاءه هذا الشخص سائلاً عن جواز أن يقاطع رحمه ويرفضهم أجابه بأنه لا يجوز له ذلك وأنّ تكليفه أن يصل رحمه وإلا فإنّ الله سبحانه وتعالى سيقطعهما معاً ويرفضهما معاً لأنهم تصرفوا على خلاف أحكام الشرع فأساؤوا وشتموا وقطعوا رحمهم وهو أيضاً تصرف على خلاف الشرع فقطع رحمه تعصباً لشخصه وتأثراً بعصبيته من دون ملاحظة أحكام الشرع الداعي إلى الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مسألة مهمة ألا وهي أنّ النبي(ص) عندما قال: "إذاً يرفضكم الله جميعاً.." ومع كون أحد الطرفين على حق والثاني على باطل في القضية التي اختلفوا عليها إلا أن هذا لا يبرر القطيعة للرحم التي لو حصلت فإن كلا الطرفين بغض النظر عن أحقية موقفه في القضية موضع النزاع يكون مأثوماً من الناحية الشرعية.
وعندما استغرب السائل ذلك وسأله إذاً ماذا أفعل؟ طلب منه النبي(ص) أن يصل من قطعه ويُعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه فهذه أخلاق الإسلام وهذا ما دعانا الله سبحانه وتعالى إليه. حيث قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (سورة فصلت، الآية: 34). فإن الهدف الذي يدعو إليه الإسلام في العلاقات الاجتماعية هو التحابب والتجاوز عن الأخطاء للحفاظ على متانة العقد الاجتماعي بين المسلمين ولبناء مجتمع إسلامي متماسك وهذا هو أحد أهم أهداف التركيز على وجوب صلة الرحم.
ج- مقاطعة من يقاطعنا:
في بعض الأحيان نحب أن نعامل الآخرين بالمثل كما تعامل الدول بعضها البعض، فإذا زارونا نزورهم وإن قاطعونا نقاطعهم، لأن كرامتنا الشخصية تمنعنا أن نكون متهالكين على صلة أناس لا يرغبون بصلتنا أو لا يهتمون بنا. فكثيراً ما نرى أشخاصاً لا يزورون أرحامهم وإذا سألتهم لماذا تفعلون ذلك؟ يجيبونك: إننا قاطعناهم لأنهم يقاطعوننا. مع العلم أنّ الإسلام يحث على عدم مقاطعة المقاطع من أرحامنا فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) قوله: قال رسول الله(ص): "لا تقطع رحمك وإن قطعك"(4).
فالرسول(ص) أمرنا أن لا نقطع رحمنا وإن قاطعونا، ونحن عندما ننفذ حكماً شرعياً يكون لنا أجراً أعظم إن كان تنفيذنا لهذا الحكم صعب علينا ومسيء لنا فإنّ العار كما يقول الإمام الحسين(ع) أولى من دخول النار وقد ورد في الترغيب على صلة من قطعنا من أرحامنا ما روي عن الإمام زين العابدين(ع) حيث قال: "ما من خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوتين: خطوة يسد بها المؤمن صفاً في الله، وخطوة إلى ذي رحم قاطع"(5).
فقد اعتبر الله سبحانه وتعالى أنّ كل خطوة تخطوها إلى صلة رحمك الذي يقطعك لك فيها من الأجر الكثير وهي عند الله عز وجل من أحب الخطوات، كل هذا يهدف إلى المحافظة على هذا التكليف صوناً للمجتمع وخاصة العائلة الواحدة عن الفرقة والاختلاف.
د- مقاطعة أعدائنا:
لو كان أرحامنا في صف أعداء الأمة وأعداء الدين ممن يقومون بترصد أي ثغرة فينا للانقضاض علينا فهل يجب علينا أن نصلهم؟ وهل لا يجوز لنا أن نقاطعهم؟ هذه الحالات موجودة في هذه الأيام فبعض المسلمين انتقل إلى صف الصهاينة أعداء الأمة والدين وحملوا سلاحاً معهم يريدون قتالنا ويتحينون الفرص للقضاء علينا، فلو كان بعضهم من أرحامنا فهل يجوز لنا أن نودهم وذلك صلة لرحمنا؟ هذه الحالة حصلت في أيام الإسلام الأولى عندما هاجر بعض المسلمين من مكة المكرمة إلى يثرب وأراد الرسول(ص) أن يفتح مكة وأراد أحد المسلمين أن يبلغ من بقي من رحمه في مكة المكرمة بنية الرسول(ص) لأنه يريد أن يود أهله أو رحمه فتدخل الله عز وجل وفضح الموضوع ونزلت الآية الكريمة التي تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ» (سورة الممتحنة، الآية: 1). فالله عز وجل نهى عن اتخاذ عدوه وليّاً نلقي إليه بالمودة فلو كان أحد أرحامنا في صف أعدائنا فهو الذي انتهك رحمه وبالتالي لا رحم بيننا، لأنّ رحم الإسلام أشد وأقوى وليس قطعاً للرحم أن نقطع أعداءنا ولو كانوا قريبين إلينا أشد القرب حتى لو كانوا أبناءنا وإخواننا وهذا ما قاله الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: «لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(سورة المجادلة، الآية: 22). فإنّ الله سبحانه وتعالى نهى عن ود من حاد الله وسوله حتى لو كان أبي، أو ابني ومن المعلوم أنّ صلة الأب لها حرمة أكبر من غيره من الأرحام ومع ذلك لا ودَّ له إذا كان في صف الأعداء والمحاربين للإسلام والمسلمين.
هـ- مقاطعة من لا نأمن على أنفسنا منه:
في بعض الحالات يكون رحمنا قد بلغ في عداوته الشخصية لنا أن يهددنا بالقتل، أو أن يضرنا ضرراً معتبراً لا يقتصر على مجرد الإهانة الشخصية، بل يتعداه للإيذاء، ففي هذه الحالة لا يجوز أن نُعَرِض أنفسنا للخطر أو الضرر من أجل أن نصل من يريد أذيتنا وهذا واضح في قوله تعالى: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (سورة النحل، الآية: 115). فمن الواضح أنّ هناك في الشرع الحنيف قاعدة عامة مفادها أنّ المحرم في أصل الشرع كأكل لحم الميتة مثلاً قد يصبح مباحاً بل واجباً في بعض الحالات إذا توقف حفظ الحياة على تناوله، وكذلك فإن قطع الرحم الذي هو حرام شرعاً لكن لو أدّت صلته إلى تعريض حياتنا للخطر، أو للإيذاء، أو الضرر غير المحتمل، بل المهانة غير المحتملة ففي هذه الحالة لا يحرم علينا قطع هذا الرحم.


الهوامش:
1- عيون الحكم والمواعظ، ص122.
2- بحار الأنوار، ج71، ص131.
3- بحار الأنوار، ج71، ص113.
4- بحار الأنوار، ج71، ص137.



المصدر: مشاكل الأسرة بين الشرع والعُرف، الشيخ حسان محمود عبدالله. ط1، دار الهادي، 1428هـ- 2007م.
21- بحار الأنوار، ج71، ص89- 90.

التعليقات (0)

اترك تعليق