الحركات النسوية الغربية ومعركة التحيز اللغوي
كما هو معروف؛ فإن المرأة الغربية ذاقت أنواعاً من الهوان، وقاست صنوفاً من الظلم، في الحقبة التي يسمونها (القرون الوسطى)، وكانت الكنيسة تحتقر المرأة، وتعدها سبباً للخطيئة الأولى؛ يقول (بولس): (ولم يُغْوَ آدمُ، بل المرأة هي التي أُغوِيت، فوقعت في المعصية!)[1] ، ويأمر (بولس) المرأة - في أكثر من موضع من رسائله - بالانقياد الأعمى للرجل؛ لأنه (رأس المرأة، كما أن المسيح رأس الكنيسة)[2] ، ولأن (المرأة خُلِقَتْ لأجل الرجل، وليس العكس!)[3].
وفي بداية الربع الأخير من القرن الثامن عشر ظهرت حركات التحرر النسائية في الولايات المتحدة، وبعد عشرين سنة في فرنسا، ثم بقية الدول الأوربية، ومنها انتقلت إلى كثير من البلاد.
إلا أن حركات التحرر هذه بدلاً من المطالبة بحقوق المرأة، التي تناسب طبيعتها وإنسانيتها؛ قادتها ردة الفعل غير المتعقلة إلى افتراض أن كل عمل يكله المجتمع للرجال؛ هو – بالضرورة - عمل رفيع، ينبغي أن تشاركه فيه؛ وإن شق عليها ولم يناسب خِلقتها! وبالمقابل؛ كل مهمة يكلها المجتمع للمرأة هي مهمة وضيعة، يجب أن تتخلص منها جهدها، أو تقتسمها مع الرجل!
حتى صار المبدأ العام لهذه الحركات: أن أي إخلال بالمساواة التامة بين الجنسين، في كل جوانب الحياة، حتى في عدد المرات التي يذكر فيها كل من الجنسين في المعاجم، والروايات، والكتب المدرسية؛ ظلمٌ للمرأة، وامتهانٌ لها، وتمييز يجب التصدي له.
ثم صارت ثنائية (تمييز - مساواة) شبيهةً بثنائية (رجعية - تقدمية) التي ابتدعت أيام الظهور الشيوعي، ولاكتها وسائل الإعلام وألسنة المثقفين، ثم اندثرت لما ذهبت ريح مبتدعيها.
فالتمييز في أيامنا هذه سُبَّةٌ يوصم بها كل من يحاول أن يتكلم عن أي نوع من الفروق بين النساء والرجال، حتى لو كان معه الدين، والمنطق، والأحياء، والواقع!
ويبدو أن هذه الحركات النسائية استمرأت لعبةَ التظلُّم، ووصْمِ المجتمع بالتمييز، في جانب من جوانب الحياة، ثم المطالبةَ بسلسلة من الحقوق، حتى إن بعضهن اعترضن على تقسيم البشر إلى ذكور وإناث! وزعمن أن هذه الفروقات من صنع المجتمع، وأنه لا داعي لهذا التقسيم من أصله[4]، وما إلى ذلك مما يمكن أن نسميه بـ (هرطقة الألفية الثالثة).
من الجوانب التي طالتها أيدي هؤلاء المحرِّرات: اللغة؛ فاللغة هي المرآة التي تعكس ثقافة المجتمع.
وأولى اللغات التي صُبَّ عليها جامُ الغضب النسائي هي اللغة (الإنجليزية)، أو (اللغة الذكورية) كما تسميها بعض الثائرات!
ومن جملة المطالب التي طالبن بها:
1. الدعوة إلى تحييد اللغة؛ بالتخلص من مظاهر احتقار المرأة من جهة، وأشكال التفوق الذكوري من جهة أخرى.
2. الدعوة إلى إزالة جميع صور القهر اللغوي للمرأة، والعمل على تحسين صورتها في المجتمع! كأنها ليست المسؤولة عن تربية هذا المجتمع، وتنشئته على فضيلة بر الأم، واحترام الزوجة، والإحسان إلى البنت!!
3. نفي الصفات التي ألصقت بالمرأة وأظهرتها جنساً تابعاً، ضعيفاً، متزعزعاً، وإنكار معاملتها معاملة الأقليات؛ برغم زيادة عدد النساء على الرجال في كل المجتمعات!
أما السبل المقترحة لرفع هذا التمييز فمنها:
1- التخلي عن استعمال لفظ (man) بالمعنى العام (إنسان)، وقصره على معناه الخاص (رجل)، ويستبدل بـ:
(someone) أو (human) أو (person)، أو تحويل الاسم أو الصفة لتكون محايدة، مثل:
(working man = worker) (manmade = handmade) (mankind = humankind)
2- استعمال ضمائر محايدة بدلاً من استعمال الضمير المذكر؛ في حال احتمال أن يكون المشار إليه ذكراً أو أنثى، مثل:
a doctor should be careful that he...= that thon-
...Everybody bring his...= their-
3- الدعوة إلى وضع معاجم محايدة (nonsexist dictionaries)، تخلو من التحيز الجنسي، وتقوم على الأسس التالية:
- مراعاة التوازن الجنسي في المعجم، والاهتمام بالأمثلة التي تكشف عن الصفات الإيجابية للنساء، مثل: الاختراع والمغامرة! وهي عادة صفات تحتفظ بها المعاجم للرجال والأولاد!!
- الحَيْدَة في تعريف الكلمات؛ فلا يفسر لفظ:(adulthood) مثلاً بـ: (manhood)؛ لئلا يُتَوَهَّم عدمُ وصول البنات لهذه المرحلة!
ومن أمثلة هذه المعاجم: (The Handbook of Nonsexist Writing) الذي استهله المؤلفان بقولهما: "الكتاب موضوع لكل من يحاول أن يفرغ لغته من التحيز اللاواعي، الموجود في اللغة (الإنجليزية)، الذي يستمد وجوده من الاتجاهات الثقافية نحو المرأة".
وقد أصبحت كثير من الكلمات التي ابتدعتها الحركات النسائية ذائعة متداولة، مثل:
(chairperson spokesperson) بدلاً من(chairman, spokesman).
4- تبني خطوط عامة لتحسين صورة المرأة، واستعمال لغة غير متحيزة في الكتب الدراسية والمعاجم، وفرض هذه الخطوط عن طريق المؤسسات الرسمية، ودور النشر، والجمعيات اللغوية؛ وفي سبيل ذلك برزت الأنشطة التالية:
- أصدر المجلس الوطني الأمريكي لمعلمي اللغة (الإنجليزية) عام 1975م عدداً من التوصيات، للوصول إلى لغة غير متحيزة جنسياً، في مطبوعات المجلس ومراسلاته، منها: تجنب استعمال لفظ (man) في أي تركيب يحتمل أن يكون المشار إليه فيه ذكراً أو أنثى، والإشارة إلى الرجال والنساء بصورة متعادلة، وتجنب الكلمات التي تمتهن المرأة، وإظهار النساء في صورة فعالة، وتجنب ربط أنواع من الوظائف بجنس معين.
- عقدت الجمعية اللغوية الأمريكية الحديثة مؤتمراً عاماً سنة 1978م، تناول بالبحث موضوع المرأة واللغة، وركز على اشتراك المرأة مع الرجل بالتساوي في دراسة اللغة، وفي مجالات الأدب والنقد.
وقد خَطَتْ التنظيماتُ المهنيةُ خطوات كثيرة في سبيل تحييد اللغة، مثل:
• الجمعية الأمريكية لعلم الإنسان؛ التي وافقت سنة 1973م على عدم التوسع في استخدام لفظ (man) بمعناه العام.
• الجمعية الأمريكية الحرة؛ التي رأت سنة 1975م تجنب استخدام اللغة المتحيزة في كل مطبوعاتها، وفي الوثائق الرسمية كذلك.
- حتى بعض المؤسسات الدينية؛ رأت أهمية التخلص من سُبَّة التمييز والرجعية؛ فغيرت اللغة المستعملة في نشراتها في أمريكا. بل أعلنت بعض الكنائس سنة 1973م أنها ستقلل من التفرقة بين الجنسين في خطابها، فعدلت كل موادها المطبوعة، بما في ذلك كتب التراتيل وإجراءات القداس! كما عُدِّل كتابُ الصلوات اليهودي سنة 1975م بغرض المساواة بين الجنسين! فبدلاً من: "إله آبائنا" وضعوا: "إله كل الأجيال"!! وبعضهم أضاف: "إله أمهاتنا، وإله سارة"، لتعادل: "إله آبائنا، وإله إبراهيم"!!
وانتقل هذا الاتجاه إلى بريطانيا سنة 1985م، على يد "حركة المنهجيين"، وترتب على ذلك حذف بعض التراتيل الكنسية التي تتحيز للذكورة!
- ألف عدد من الباحثين كتاباً بعنوان:
(The Role of Women in Foreign-Language Textbooks)
سجلوا فيه نماذج من التحيز للرجال في كتب النصوص الأجنبية (غير الإنجليزية)، فكان مما أخذوه على الكتب المدرسية الروسية:
• أول جملة يتعلمها الطفل في المدرسة: "الأب يعمل، والأم في المنزل!" وذكروا أن أحد الأطفال علق قائلاً: "كان أبي وأمي يعملان، ولم أكن أعرف أن هناك امرأة تمكث في المنزل!!"
كأنهم أرادوا أن يقولوا: "حتى الأطفال يتعجبون من هذه الإهانة، ويستنكرون هذا التمييز، كأن المنزل عندهم يعني السجن الذي لا يقبع فيه إلا العاجزون، والعاطلون، وضعيفو القدرات"..
وكأن العمل خارج المنزل دليل على التعلم والتحضر، حتى ولو كان كنساً للشوارع، أو صباً للبنزين في سيارات العابرين، أو صباً للراح في كؤوس المخمورين!
• ظهر من تحليل عدد من الكتب الأجنبية أن:
1- الأب طويل والأم قصيرة!
2- الأم لا تقرأ الصحيفة، ولكنها تعد الشاي في المطبخ!
3- لا توجد أمثلة لأم تعمل في المكتب، أو تذهب إلى المسرح!
كذلك من مظاهر التحيز اللغوي للرجال: المأثورات الشعبية، التي تحتقر المرأة، وتتهمها بالثرثرة، ومن أمثلة ذلك:
- لسان المرأة آخر عضو يموت في جسدها!
- اجتماع ثلاث نساء يعني الجلبة والضجيج!
- لسان المرأة يتحرك مثل ذيل الغنم!...إلخ.
قد يكون للثورة على كون لفظ (man) جزءاً من التراكيب التي تدل على الإنسانية وجهٌ؛ إن كانت هذه التراكيب قد اصطلح عليها نتيجة لاعتبار الكنيسة -في بعض الأزمان- أن المرأة ليست إنساناً، وليس لها روح!!
أما إن لم يكن الأمر كذلك - وهذا ظاهر بعض اعتراضاتهن على تراكيب أخرى- فلا معنى لمثل تلك المطالب، لأن الكلمات التي أثارت حفيظتهن بسهولة كلمات مجردة لا تدل على تشريف أو وضاعة، ولا تظهر قيمتها إلا باعتبار ما يضاف إليها، فلو قيل: "جنس إنساني" عُبِّرَ عنه بـ (mankind)، لما دل هذا بمجرده على مدح أو ذم، فإذا قيل: "جنس إنساني سيء"؛ لم يكن هذا تشريف قطعاً! ولو استبدلت لفظة (woman) بـ (man)، لما ازدادت النساء بذلك رفعة، ولما تغير من واقعهن شيئاً، فهل رأيت كيف قاد الفراغ وسفه العقول أولئك النسوة إلى هذا الضرب من الجدل العقيم في حقيقته!
إن المسألة في النهاية تعود للنفسية التي تحرك أولئك النسوة؛ فهن يعتبرن أن الرجل والمرأة طرفان متصارعان، فلا يكففن عن افتعال المشكلات، والمطالبة بما يسمينه حقوقاً، ولو بمثل هذا السخف.
بالطبع؛ يَعِزُّ تقصي جهود المحرِّرات في هذا الميدان في مقال واحد، لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح: كيف ستتمكن المحررات العربيات من اقتفاء آثار قدواتهن الغربيات في هذا الميدان؟
فاللغة العربية ليست ذكورية على الإطلاق، والعرب في جاهليتهم كانوا يعدون [المرأة] إنساناً، بل قد يقتتلون بسببها سنين طويلة، لكنهم ربما جاروا عليها لاستضعافهم لها، كدأبهم في ظلم الضعفاء. أما في إسلامهم، فلم ينصف المرأة أحدٌ قطُّ إنصافَهم لها.
إذاً؛ ليس أمام محرراتنا سوى خيارين: إما أن يأتيننا بمنطق غريب عجيب يثبتن به التحيز اللغوي، وهذا بالطبع لن يعيي الراسخات في الفن، من أمثال نوال السعداوي، وميرفت التلاوي، وغيرهن.. أو يصبرن على الوقوف خارج جُحر الضَّبِّ الخرب، في هذه المرة... بل وفي مرات كثيرة!!
ــــــــــــــــــــــ
[1] رسالة بولس إلى ثيموثاوس 2/12.
[2] رسالة بولس إلى أهل أفسس5/2.
[3] المصدر السابق.
[4] وهي (Anne Fausto-Sterling)، الأستاذة في جامعة (براون)، بالولايات المتحدة، وذلك في كتابها:
(Sexing The Body: Gender Politics and the Construction of Sexuality).
مصدر: موقع الألوكة
اترك تعليق