مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أم سلمة(ع)

أم سلمة(ع)

 

 

هند بنت أمية القرشية المخزومية- أم سلمة(ع)

وهي هند بنت أبي أمية هند بن سهيل -ويعرف بزاد الركب، وهو أحد أجواد العرب المشهورين بالكرم، كان إذا سافر لم يحمل معه أحد من رفقته زادًا، بل كان يكفيهم، وهو ابن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم- ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشية المخزومية.
أما أمها فهي عائكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن خزيمة بن علقمة بن فراس - ومن قال: عائكة بنت المطلب، فجعلها بنت عمة الرسول(ص) فقد أخطأ، وإنما هي بنت زوجها.
وأخواها: عبد الله وزهير، ابنا عمة رسول الله(ص).
واسمها: هند، وقيل: رملة والول أصحّ.
هاجرت هي وزوجها أبوسلمة بن عبد الأسد(ع) إلى الحبشة الهجرتين وهما أول من هاجر إلى الحبشة.
أما قصة زواجها من النبيّ(ص) فهي:
كانت أم سلمة قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد، وأمه عمة رسول الله(ص) برّة بنت عبد المطلب فولدت لأبي سلمة: سلمة وعمر ودرَّة وزينب ومات أبو سلمة سنة أربع، شهد بدرًا وأُحدًا، ورمي بسهم في عضده، فمكث شهرًا يُداوى، ثم برأ الجرح، وبعثه رسول الله(ص) في هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من مهاجره، وبعث معه مائة وخمسين رجلاً إلى قطن/ وهو جبل/ فغاب تسعًا وعشرين ليلة ثم رجع إلى المدينة فانتقض جرحه، فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع.
فاعتدّت أم سلمة، وحلت لعشرين بقين من شوال سنة أربع، فتزوجها رسول الله(ص) من ليال بقين من شوال المذكور.
ولو لم يكن من فضلها إلا شورها على رسول الله(ص) بالحلق في قصة الحديبية لمَّا امتنع منه أكثر الصحابة، لكفاها.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى وأبو عمر: تزوجها رسول الله(ص) بعد وقعة بدر في شوال سنة اثنتين. وروى مسلم عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله(ص) يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمر الله تبارك وتعالى: "إنَّا لله وَ إنَّا إليهِ رَٰجِعُونَ"(1) اللهمَّ آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلّا أخلف الله له خيرًا منها" قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله(ص)؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول(ص). قالت: أرسل إلي رسول الله(ص) خاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيور. فقال: أما إبنتها فندعو لله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة.
وفي حديث آخر رواه ثقات: قالت أم سلمة: فلما أصبت بأبي سلمة، استرجعت، فقلت: اللهمَّ عندك أَحتسب مصيبتي هذه، قالت: ثم عجلت، لا تطاوعني نفسي أن أقول: اللهمَّ أخلفني بخير منها - وفي لفظ: فكنت إذا أردت أن أقول: وأبدلني خيرًا منها- أقول: ومن خير من أبي سلمة؟ فلم أزل حتى قلتها.[...] فأرسل إليها رسول الله(ص) يخطبها، فقالت: مرحبًا برسول الله(ص)، إنَّ فيَّ خلالًا ثلاثًا أخافهن على رسول الله(ص): إني إمرأة شديدة الغيرة، وإني امرأة مصيبة/ يعني لها صبيان/ أو ذات عيال، وإني إمرأة ليس لها هاهنا أحد من أوليائي شلهد يزوّجني.
فأجابها(ص): "أما العيال فإلى الله ورسوله - وأما ما ذكرت أن ليس ها هنا أحد من أوليائك يزوجك فإنه ليس أحد من أو ليائك شاهد ولا غائب يكرهني". [...]
تزوّجها رسول الله(ص) سنة أربع من الهجرة، وكانت من أجمل النساء، وأشرفهن نسبًا، وأوفرهن عقلًا، وكان عمرها قريبًا من خمس وثلاثين سنة، ولدت في مكة قبل البعثة بنحو سبع عشرة سنة، وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين رضوان الله عليهنّ، فتوفيت سنة إحدى وستين من الهجرة وعاشت نحوًا من تسعين سنة.
المهاجرة هجرتين في سبيل الإسلام:
قال تعالى: «فَآلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ»(2).
وأم سلمة(ع) كانت أول المهاجرات إلى الحبشة، وأول المهاجرات إلى المدينة.
قال ابن هشام: "وكان أول من خرج من المسلمين إلى الحبشة مهاجرا من بني مخزوم" أبو سلمة بن عبد الأسد ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي(ص) قالت: لما نزلنا بأرض الحبشة، جاورنا بها خير جارٍ النجاشي، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نُؤذي ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة.
فخرجا حتى قدما على النجاشي، ثم إنهما قدَّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلّماه فقالا:
"أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك وجاؤوا بدين إبتدعوه، لا نعرفه نحن و لا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بهم. عابوا عليهم وعتبوهم فيه.
قالت: ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله(ص) فدعاهم، فلما جاؤوا قال لهم: ما هذا الدين الي غارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟
قالت: فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب(ع) فقال له:
"أيها الملك! كنا قومًا أهل جاهلية ، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا/ وعدد عليه أمور الإسلام/ فعدا غلينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، وقهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك!؟
قالت: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟
قالت: فقرأ عليه صدرًا من سورة "كهيعص".
قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته، حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال لهم النجاشي: إنَّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، إنطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
هكذا تروي أم سلمة(ع) حديث هجرة الحبشة الطويل، الذي ذكره غبن هشام في سيرته كاملًا - وهي تستعرض ذكريات الهجرة في سبيل الله، وكم لاقت هي ومن معها من صعاب وأهوال في سبيل أن تعيش مسلمة حرة كريمة.
وما إن بلغ المهاجرين في الحبشة إسلام أهل مكة، حتى أقبلوا فرحين مسرورين، فلما دنوا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد مكة إلّا بجوار مشرك، أو مستخفٍ عن أنظار الظالمين، وتمضي معه أيام الصبر والمصابرة في سبيل الله وتوحيده، لا تفتّ من عزيمتها سياط المشركين، ولا أذاهم ولا إضطهادهم، حتى آذن لهم بالهجرة إلى المدينة المنورة حيث الأمن والسلام.

هجرتها إلى المدينة:
عن إبنها عمر بن أبي سلمة، عن أمه أنها قالت:
لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحَّل بعيرًا له، وحملني معي إبني سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوني، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهووا إلى سلمة، وقالوا، والله لا نترك غبننا عندهم، وانطلق زوجي حتى لحق بالمدينة ففرق بيني وبين زوجي وابني، فكنت أخرج كل غداة، وأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي سبعصا أو قريبها، حتى مرَّ بي رجل من بني عمي فرأى ما في وجهي، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين غبنها، فقالوا: إلحقي بزوجك إن شئت، وردَّ عليَّ بنو الأسد عند ذلك إبني، فرحلت بعيري، ووضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله؟ فكنت أبلغ من لقيت حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا بنت أبي أمية؟
قلت: أريد زوجي بالمدينة؟ فقال: هل معك أحد؟
فقلت: لا والله إلاّ الله، وابني هذا؟
فقال: والله ما لك من منزل، فأخذ خطام البعير فانطلق معي يقودني، فوالله ما صحبت رجلا من العرب أراه أكرم منه؟ إذا نزل المنزل أناخ بي، ثم تنحّى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه، ورحله ثم إستأخر عني، وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري، أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى نزلت "فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة، فلما نظر إلى قرية بنو عمرو بن عوف بقباء، قال: إنَّ زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة نازلا بها، فيستقبل أبو سلمة وانبها معها، بكل بهجة وسرور وتلتقي الأسرة المهاجرة بعد تفرق وتشتت وأهوال، ويلتئم شمل الأسرة وتحيا الحياة الكريمة.
وتعكف الزوجة على رعاية أطفالها وتربيتهم، وتفرّغ أبو سلمة للدعوة إلى الله تعالى في المدينة، وللجهاد في سبيل الله دفاعًا عن حوزة الإسلام.
وعندما خرج الرسول(ص) في غزوة ذي العشيرة -في جمادي الآخرة من السنة الثانية للهجرة- اختار الرسول(ص) من بين أصحابه "أبا سلمة"(ع) فاستعمله على المدينة.
وشهد أبو سلمة غزوة بدر وكان أحد جند الإسلام الأولين، كما كان في مكة أحد السابقين إليه وينال بذلك شرفًا على شرف.
ثم يشهد يوم أحد ويبلي بلاء عظيمًا، إلى أن يُرمى بسهم في عضده، مكث يداويه حتى ظن أنه التأم وبرئ.
ولما تمالأ المرجفون للإسلام بعد أحد وبلغ النبي(ص) أن "بني أسد" يدعون إلى محاربته في دار هجرته، دعا إليه "أبا سلمة" فعقد له لواء على سرية إلى بني أسد، في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة، وكان من بين رجال السرية أبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص، وبعث معه مائة وخمسين رجلًا إلى جبل يسمى "قطن" فغاب تسعًا وعشرين ليلة، ونفَّذ أبو سلمة ما أمره رسول الله(ص) من أخذ العدو على حين غرة، فأحاط بهم في إسفار الفجر على غير أهبة منهم لتوقع هجوم.
وقاد معركة ظافرة ثم قفل راجعا إلى المدينة يصحبه النصر ورايات بهجته، والغنائم الني ظفر بها، وقد أعاد للمسلمين ما فات يوم أحد من هيبة ووقار.
فلما رجع إلى المدينة إنتقض جرحه الذي أصابه يوم أحد، فأخلد إلى فراشه، تمرضه أم سلمة، إلى أن حضره الأجل، فدعت له رسول الله(ص) فجاءه على فراش الموت، وبقي إلى جانبه يدعو الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء على ما أبلى في سبيله وفي سبيل نصرة دينه.
ويمضي أبو سلمة إلى جوار ربه وقلبه يخفق بالدعوات إلى الله تعالى بأن يخلف عنه في أهله خيرًا، فقد قال عند وفاته: "اللهم أخلفني في أهلي بخير".
فأخلفه الله تعالى رسوله(ص) على زوجته أم سلمة - بعد إنقضاء عدتها، فخطبها وتزوجها. [...].
وروي عن أم كلثوم قالت: لما تزوج رسول الله(ص) أم سلمة قال لها: "يا أم سلمة إني قد أهديت إلى النجاشي حلَّة وأواقي من مسكٍ، ولا أرى النجاشي إلّا قد مات، ولا أرى هديتي إلّا مردودة غليَّ فإن ردت عليَّ فهي لك". 
فكان كما قال رسول الله(ص)، وردت إليه هديته، فأعطى كل واحدة من نسائه أوقية مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلّة. [...]
أم سلمة ومشاركتها في الغزوات ومشورتها لمصلحة المسلمين:
لقد صحبت "أم المؤمنين - أم سلمة" النبي(ص) في غزوات كثيرة، فكانت معه في خيبر، وفي فتح مكة، وفي حصاره للطائف، وفي غزوة هوزان وثقيف، ثم صحبته في حجة الوداع(ع)، كما كانت تصحبه زوجاته الأخريات في غزواته(ص) وزوجات أصحابه من الصحابيات، اللائي أبلين معه البلاء الحسن، فكنَّ نعم المعينات للمحاربين، يداوين جرحاهم، ويحملن إليهم الماء في القُرَب يسقينهم، ويتعهدن أطعمتهم، وتجهيز ملابسهم. [....]
وفي السنة السادسة للهجرة صحبت "أم سلمة" النبي(ص) في غزوة الحديبية وكانت في شهر ذي القعدة من السنة.
وكانت أشارت عليه(ص) بمشورةٍ أنجت بها أصحابه من غضب الله وغضب رسوله(ص)، وذلك حين أعرضوا عن إمتثال أمره.
ففي صحيح البخاري "كتاب الشروط": سار النبي(ص) حتى إذا كان بالثنيّة التي يهبط بها عليهم منا، بركت بها راحلته، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء؟ فقال رسول الله(ص) "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخُلْقٍ ولكن حبسها حابس الفيل" ثم قال(ص): "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمدٍ قليل الماء.
وشُكِيَ إلى رسول الله(ص) العطش، فانتزع سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال بجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفرٍ من خزاعة، فقال: هم مقاتلوك وصادّوك عن البيت.
فقال النبي(ص): "إنّا لم نجيء لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرَّت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدًا، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن أمر الله"!؟
قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشًا فقال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله(ص) فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، إنَّ هذا عرض لكم خطة رُشدٍ اقبلوها ودعوني آتية، فقالوا: أئته، فأتاه فكلم النبي(ص)، فقال النبي(ص) نحو قوله لبديل، ثم إن عروة بن مسعود جعل يرمق أصحاب رسول الله(ص) بعينه فكانت وجوههم وجلودهم صفراء بإنتظار أوامر الرسول.
فرجع عروة إلى أصحابه، فقال أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن ما رأيت ملِكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، وإنه قد عرض عليكم خطةَ رُشدٍ فاقبلوها.
ثم جاء سهيل بن عمرو ولما جاء قال رسول الله(ص): "لقد سهَّلَ لكم من أمركم" فجاء سهيل فقال: هات فاكتب بيننا وبينكم كتابًا فدعا النبي(ص) الكاتب، فقال النبي(ص): "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللَّهم كما كنت تكتب.
فقال المسلمون: والله ما نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي(ص): "اكتب باسمك اللهمَّ" ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمدًا رسول الله" فقال سهيل: "لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن أكتب محمد بن عبد الله"، فقال رسول الله(ص): "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني؟ اكتب محمد بن عبد الله".
قال الزهري: وذلك لقوله(ص) "لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله،إلّا أعطيتهم إياها".
فقال له النبي(ص): "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" قال سهيل: والله لا يتحدث العرب أنا أخذنا ضغطةً، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب.
فلما رأى المسلمون ذلك دخل عليهم أمر عظيم، وظنوا أنهم بُخِسوا حقَّهم، وهم المنتصرون الغالبون. ويذكر في هذا السياق أنه حين تمَّ الإتفاق على شروط الصلح، بادر عمر بن الخطاب رسول الله(ص) فقال:
- ألست نبي الله حقًّا؟
- قال(ص): بلى.
- قلت: ألسنا على الحقِّ وعدونا على الباطل؟
- قال(ص): بلى.
- قلت: فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذن؟
- قال(ص): إني رسول الله! ولستُ أعصيه وهو ناصري!
- قلت: أولستَ كنتَ تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
- قال(ص): بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟
- قلت: لا.
- قال(ص): "فإنكَ آتيهِ ومطَّوفٌ بهِ"!
- قال عمر: فأتيتُ أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًّا؟
- قال: نعم
- قلت: ألسنا على الحقِّ وعدونا على الباطل؟
- قال: نعم
- قلت: فلمَ نُعطي الدنيَّة في ديننا إذن؟
- قال: أيها الرجل إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهوناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق.
- فلمّا فرغ رسول الله من قضية الكتاب، قال رسول الله(ص) لأصحابه: "قوموا فانحرفوا ثم احلقوا".
- قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من عدم الإستجابة ومن وراء ذلك الهلاك، وغضب الله، واستفحل الأمر إلى درجة الخطر!
- وهنا يدخل دور "أم سلمة" "أم المؤمنين"(ع) بمشورتها الحكيمة، التي كانت سبب إنقاذ المسلمين من هلاك معصية الرسول(ص) ومن غضب الله عليهم في مخالفتهم أمر رسوله(ص).
فدخل(ص) على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحبُّ ذلك؟ فأومأ لها نعم.
قالت: اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج ففعل ذلك، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى يكاد بعضهم يقتل بعضًا.
ويمثل صلح الحديبية إنتصارًا سياسيًا أكثر منه إنتصارًا عسكريًا، ومنه كان الفتح الأكبر فتح مكة، وذلك حين علمت قريش وحلفاؤها بشروط الصلح، فكان ذلك تخويلًا للنبي(ص) في خروجه لفتح مكة، بعد أن قوي المسلمون وكثر عددهم. [...]
توفيت أم سلمة في ولاية يزيد بن معاوية سنة إحدى وستين على الصحيح - واستخلف يزيد سنة ستين بعد ما جاءها الخبر بقتل الحسين بن علي(ع) ولها أربع وثمانون سنة على الصواب.   
__________________________________
(1) سورة البقرة، الآية:156.
(2) سورة آل عمران، الآية:195.



المصدر: نساء في ظلال التربية المحمدية: د. منى برهان غزال (الرفاعي)، ط1، الإنتشار العربي، 2012 م.


التعليقات (0)

اترك تعليق