كربلاء ودور المرأة في صناعة التاريخ
لقد استطاعت ثورة الإمام(ع) رغم انكسارها العسكري أن تعيد برمجة القيم الانسانية والاجتماعية والشخصية في المجتمع وهذا ما نجده واضحًا من توالي الثورات وانطلاق الموالين في بيان إداناتهم المستمرة للنظام الأموي ومن ثم الحكم العباسي بعدما ازيحت ثقافة الخوف والذل التي كانت سائدة إلى ثقافة العز والكرامة.
وعموما كانت النساء بعيدات عن القتال وربما عن المشاركة في الثورات التي اتخذت طابعا رجوليا فقد عاشت النساء مسؤولياتهنّ الأولى في الاهتمام الأكثر بتربية الجيل الموالي والناصر لآل البيت عليهم السلام والذي ولد في العصر الأموي الأسود ثار في العصر العباسي الأكثر ظلما لآل البيت(ع). فلقد تركت ثورة الإمام الحسين(ع) جرحًا لا يندمل في قلوب النساء والرجال من خلال صور التضحية والفداء ومن خلال جرح الأمهات والثكالى ونداء السبايا - فأصبحت المرأة المسلمة الموالية تعي مسؤوليتها في ضرورة تنشئة الأولاد على مبادئ الولاء لآل البيت(ع) وعلى حبهم وكيفية صيانة الرمز الديني وحماية المقدسات. وإذ لم تكن هناك صورة واضحة عن ماهية المطلوب من المرأة المسلمة قبل الثورة ولكن الصورة اتضحت بعدها فبدأت المرأة تربي أبناءها ليس لأمومتها فحسب ولكن لنصرة خط الإمامة، وهذا ما يفسر لنا استمرار التيار الموالي لأهل البيت(ع) في عدده وعدته وقوته وثباته. إذ كان الرجال يستشهدون في المعارك والثورات التي خاضوها وكانت النساء تكمل المسيرة عبر التنمية البشرية الموالية. ولو لم تتبنَّ المرأة هذا الخط لحصل فراغ كبير لا يسد أبدًا. فالمرأة بعد الطفوف بدأت تعي أنّ لها دورا وأن هناك مهام ومسؤوليات لا يؤدّيها غيرها ولئن كانت نساء الطفوف قد عانين ما عانين من أجل الدفاع عن المقدس وحماية خط الولاء فإن المطلوب من النساء بعد الطفوف اكثر. إن هذا يجرّنا إلى التفكير في مهمة المرأة الأولى في التربية ويمكن من خلال استقراء أوضاع الدول التي تخلت فيها المرأة عن وظيفتها التربوية أن نرى انعكاسات ذلك ففي بعض المجتمعات التي تقوم فيها الخادمات بمهام التربية ظهر جيل يعاني من مشكلة اللغة ومن ضعف الحس الإيماني والوطني لانه يأخذ قيم الخادمة المربية واتجاهاتها وليست اتجاهات الأم الأصلية ومن ثم حصل نوع من الاغتراب الأمر الذي جعل أصوات الاستغاثة تنطلق من كل مكان. ولتخلي الأم (عالميًا) عن هذه المسؤولية نشأ جيل يهوى العنف ويتخذه منهجًا في الحياة لأنه عاش الحرمان العاطفي لغياب الأم وعدم استطاعة المعلمة والخادمة تعويض النقص في مشاعر الحب والحنان. ولقد أطل القرن العشرون مع مطالبات بنبذ الأمومة وانتهى بصيحات تطالب بعودة المرأة إلى البيت والأسرة!.
ولو قرأنا التاريخ قبل الثورة لوجدنا الرموز النسائية بحد ذاتها محدودة العدد وقد ظهرت في نموذج سيدات نساء العالمين وفي مواهب المسلمات في صدر الإسلام. ولكن يا ترى هل يعني ذلك أن المرأة لم يكن لها دور في صناعة التاريخ إلا من خلال هذه الصورة الظاهرة؟
إن دور المرأة في صياغة التاريخ يمر بشكلين أساسيين:
الشكل الأول: وهو الأعم هو الشكل غير المباشر والصورة غير الظاهرة على شاشة التاريخ ولكنها بصورة فاعلة ومؤثرة وذات امتدادات طولية. وتأتي من خلال أدوار النساء التقليدية وبخاصة دور الزوجة والأم زالذي اهتم بصناعة الأجيال، وهذا الدور كان ضبابيًا حتى للمرأة الموالية وإن وجدناه في آحاد ومفردات، ولكن هذه الصورة أخذت لها أبعادًا أساسية عند المرأة الموالية بعد الثورة ونضجت وبشكل واعٍ استقر في لباب المرأة من خلال إعداد الجيل الموالي والذي يديم خط الولاء لأهل البيت(ع) ومن هؤلاء النساء اللائي نجهل أسماءهن ومن كانت سجون الحجاج تغص بهن وكانت سجون الرشيد تعج بهن. وفي زماننا المعاصر كان صدام يقنص هؤلاء النساء ويغيبهن في (التيزاب) كما جرى مع الكثير من النساء أمثال الشهيدة: بنت الهدى [...] وسلوى البحراني وآلاف من النساء قتلن وأعدمن وغيّبن في غياهب السجن.
والمستتبع للتاريخ يرى أن صورة الرجل الذي يصنع التاريخ كانت محدودة في الخلفاء الظالمين لآل البيت(ع) وفي أعوانهم فأين كان الرجل الموالي؟ لقد كان ثائرًا في سلسلة ثورات متتالية أبيد فيها الكثير منهم كثورة التوابين التي أتت على خمسة آلاف رجل وكذلك بقية الثورات ومنها الثورات المعاصرة... كان الرجال يُستشهدون ويتركون ذراريهم بين حاكمظالم محارب لأهل البيت يروم تنشئة الأجيال على بغض علي(ع) والنيل منه وبين أم موالية تصر على إدامة خط الولاء وتعاني الكثير من الضغط الاقتصادي والنفسي والاجتماعي والفكري حتى ينشأ ولدها على حب أهل البيت(ع) وربما عشنا بعض مفاصل هذه الحالة وعاش أبناؤنا أيضًا بعض استتباعاتها وإلى هذا يقول الشاعر:
لا عذب الله أمي انها شربت حب الوصي وغذتنيه في لبن
وكان لي والد يهوى ابا حسن فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن
- أما الشكل الثاني في صناعة التاريخ فكان في أسماء محدودة وواضحة عرفنا بعضها وجهلنا كثيرا غيرها من الرجال والنساء. وكان اسم الرجل يظهر بوضوح؛ لأن العرف نفسه يروج له في حين تبقى صور النساء وأسماؤهن في ضمن الدائرة الحمراء! لأن التاريخ نفسه لم يكن إنسانيا في كثير من مقاطعة بل كان ذكوريا.
لقد أسهم التاريخ نفسه في ظلم الانسان رجلا كان أو امرأة فالتاريخ كتب لنا عن مجون الكام وبطش الطغاة وظلمهم للبشر وعما قاموا به من اعمال يعدها البعض افتخارات في حين انها احتراقات واحتقارات!.. فهل الذي يقوم بذبح البشر وإراقة دمائهم وطمس حضاراتهم هل يستحق التمجيد والخلود؟.. ولكن التاريخ هو هذه القائع المرة إذ نادرًا ما يكتب التاريخ عن الفضائل وعن السمو الانساني وعن سبل تكامل البشر. ولأن الأغلب في مسار التاريخ هي حاكمية الرجل ونبذه للأنثى أيا كانت فقد أخفى التاريخ الكثير من الحقائق العليا فيما يخص النساء وبقي تاريخا ذكوريا في حين أن تاريخ الإسلام كان تاريخ الرجل والمرأة على حد سواء.
ومع كل ذلك نجد صورا خالدة في التاريخ كصورة العقيلة زينب(ع) والوافدات على معاوية وسمية ونسيبة.... ولكن من البديهي أيضًا أن تكون هناك صور أخرى في التسافل الحيواني كصورة آكلة الأكباد.
وبعد كل ما استعرضناه نصل إلى نتيجة وهي أننا مدينون للمرأة في حفظ رسالة الولاء وإيصالها لنا بكل أمانة، فيا ترى كيف نحافظ عليها؟
ويمكن القول: إن حضور السيدة زينب(ع) في برنامج الإصلاح الحسيني قد كشف أمورًا منها:
1- إنه لا يمكن لأي مسيرة إصلاح أن تنجح ما لم تهتم بالمرأة وتوكل إليها مهام المشاركة فيها. وإن أي عمل إصلاحي يهمل نصف المجتمع سيصاب بالتلكؤ والضعف وهذا الاهتمام بوجود المرأة في البرامج الإصلاحية يسهم في إيجاد الحلول الإصلاحية لمشاكل النساء والمجتمع، فإصلاح أوضاع النساء يحتاج إلى جهد المرأة والرجل، وكذلك إصلاح أوضاع الرجال، وكذلك إصلاح أوضاع المجتمع.
2- نساء الطفوف كسرن الصورة السلبية النمطية عن المرأة ونشرن صورة المرأة الآمرة المعروف والناهية عن المنكر والناصرة لدينها، صورة إيجابية تعرّف المرأة بدورها المطلوب في كل عصر سواء في عصور التضييق والحراب أو في عصور الانفتاح والحرية.
3- هذا الحضور النسائي المتميز كسر العقل الذكوري الذي كان لا يرى دورًا للمرأة أو أية قيمة مجتمعية... ها هو سيد الشهداء وأبو الأحرار(ع) يوكل إلى أخته أصعب المهام في ظروف قاسية للغاية... مهام قد لا يقوى الرجال عليها لأنها متعددة في ظروف عسيرة وضاغطة... ولكن السيدة زينب(ع) تحقق نجاحًا منقطع النظير وتكون سببًا لكل هذا الخلود الذي حظيت به الثورة الحسينية بشكل لم يكن له سابقة أو لاحقة، فسيد الشهداء(ع) يدعو من خلال هذا الحضور النسائي إلى دعم حضور المرأة في المواقع الصعبة، وإلى إسناد المهام لها وعدم الشك في قدراتها وكفاءتها. فمن قال أن المرأة ضعيفة أو كائن هزيل أو أن ليس لها دور في المسيرة الإنسانية فتبقى مركونة على الرف... أبدًا... ولولا هذه الثورة لما بانت قوة المرأة.
4- إصلاح رؤية المرأة إلى نفسها... فلماذا لا تعيد المرأة قراءة أدوار هؤلاء النساء لتعرف دورها ومهامها ولا تبقى أسيرة الوهم بالعجز وعدم القدرة على أن تقوم بقسط من المهام التي تتطلبها المراحل الراهنة من دورة الإسلام في الكون... هذا الإصلاح له أثره من حيث:
إنه يخلص المرأة من الهامشية واللامبالاة ويجعلها تعيش واقعها ضمن المبالاة والاهتمام والفاعلية.
إنه يسهم في توجيه النظر إلى مشكلات مجتمعها والتعريف بالمساحات التي تحتاج إلى اهتمام اكثر.
يخلصها من العبثية والتشتت فنحن نرى حجم الإنفاق الذي يصب على الإعلام لقوقعة النساء ضمن إطار الزينة والموضة في إطار الصورة والجسد وجعل ذلك شغلهن الشاغل لإبعادهن عن الاهتمام بشؤون المجتمع وإصلاح شؤونه.
شعورها بالمسؤولية الثابتة عليها والتي لا تتغير مع تغير الزمان والمكان أبدًا. «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... »(1)
ويؤدي إلى تخليصها من الأنانية والنكفاء على الذات وإلى الانطلاق إلى المجتمع الكبير وإلى علاج مشكلاته بما فيها مشكلات النساء.
وكل ذلك سيمهد لتطوير الذات عبر زيادة ثقة المرأة بنفسها والابتعاد عن كل علامات الهوان والضعف.
______________________
(1) سورة التوبة، الآية ٧١
المصدر: كتاب: نساء الطفوف: كفاح حداد، العتبة الحسينية المقدسة (قسم الشؤون الفكرية والثقافية) ط١، كربلاء - العراق، ٢٠١١م.
اترك تعليق