مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

دور المرأة في  كربلاء -2-

دور المرأة في كربلاء 2: البيانات العاصفة للنساء

من المقطوع به تاريخياً أنّ الحسين (ع) كان مدركاً أن مقاومته للسياسة الأموية ووقوفه الحازم في وجهها ليس له مصلحة غير الشهادة في سبيل الله، سواء أبقي الحسين (ع) في المدينة المنورة أم في مكة المكرمة أم في إقليم آخر، ولكنه أراد أن يكون لاستشهاده أثر موضوعي في مسيرة الأمة التاريخية بحجم الأثر الذاتي الذي كسبه هو من نعيم ورضوان دائم، ومن أجل ذلك كان يخطط لإفشال مشاريع الإغتيال التي شاءت السياسة الأموية تنفيذها للتخلص منه، لأنّ ذلك النوع من الموت ليس له دويّ، أو أنّ دويه محدود، فلا تتبعه هزة بالمستوى المتوخى، ولا تعقبه ضجة على المستوى العام للأمّة بامتدادها التاريخي.
إذن لا بدَّ من إنضاج الظروف الموضوعية لخلق هزّة تاريخية ذات أثر موضوعي على حاضر الأُمة ومستقبلها، الأمر الذي دعا الحسين (ع) إلى التحضير إلى معركة حقيقية بين معسكر الإيمان الذي يقوده، وقوى الإنحراف التي يقودها البيت الأموي، ومن أجل ذلك دعا الإمام (ع) الرجال للإنخراط في صفوف الثورة، فكان لا يمر بقوم، أو بحي من أحياء العرب، وهو في طريقه إلى العراق، حتى يدعوهم إلى نصرته، والإنضواء تحت لوائه ليتسع مدار الضجة أُفقياً وتاريخياً، ولعلنا هنا ندرك السر الذي جعل الحسين(ع) يحمل معه نساءه وأطفاله مع قناعته بالنتيجة المحتومة لتصديه للحكم الأموي.
فالحسين (ع) كان مقتنعاً إلى حد القطع أن نساءه ونساء أنصاره سيتعرضن للسبي والإهانة من لدن عملاء السلطة الأموية، ولكنه كان يعلم أنَّ ذلك الإجراء سوف لن يستساغ جماهيرياً، وسيكون له دور متقدم في فضح السياسة الأموية، وتعريتها أمام الأُمة، ووضع الضمير المسلم في إطار من الحرج والتحدي الكبير بشكل لا يبقى معه متسربلاً بالخنوع والذلة كما كان.
وإذا أضفنا إلى دور النساء ذلك في كشف سوأة الحكم الأموي وتعريته، أقول إذا أضفنا إلى ذلك دورهن بعد السبي: -في التحدث إلى الناس، ومواجهتهم بالحقائق وفضح ألاعيب السياسة الأموية في كل من الكوفة والشام، ومن خلال الخطب والمناقشات ومهاجمة الحكام، تصبح الغاية التي حمل الحسين (ع) من أجلها نساءه إلى قلب المعركة جلية لا تخفى على ذي لب.
ومن هنا فلا جرم إذا أكدنا أنَّ موضوع خروج النسوة مع الحسين (ع) وأصحابه كان أمراً مخططاً له مسبقاً، ومن أجل ذلك، فإنّ الإمام (ع) حين حدثه أخوه "محمد بن الحنفية" بشأن النساء وعن عزمه على مغادرة مكة إلى العراق، قال (ع): "قد شاء الله تعالى أن يَراهنَّ سبايا".(1)
ومن المناسب بعد إيضاح دور النساء في المسيرة الحسينية، أن نذكر بعضاً من البيانات المثيرة التي أذاعتها زينب الكبرى وسواها من فضليات النساء:
فهذه زينب عقيلة بني هاشم تخطب في أهل الكوفة مدشنة دور النساء في المسيرة الخالدة: "الحمدلله والصلاة على أبي محمد وآله الطاهرين أما بعد؛ يا أهل الكوفة... أتبكون فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلّا الصلف النطف، والعجب والكذب والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة.
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون؟! اي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومِدّرَة (2) ألسنتكم، ألا ساء ما تزرون، فتعساً ونكساً وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي وتَبَّتْ الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضُربت عليكم الذلة والمسكنة، ويلكم، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم، وأي حرمة له انتهكتم!
ولقد أتيتم بها صلعاء عنقاء، سوداء فقماء، تأثاء، خرقاء، شوهاء، كطلاع الأرض وملاء السماء، أفَعجبتم أن أمطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون.
فلا يستخفنكم المهل، فإنّه لا يحفّزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر وإنّ ربكم لبالمرصاد...".(3)
وهكذا تضع زينب الكبرى أهل الكوفة أمام مسؤولياتهم، وتعكس لهم جسامة الخطر، وحراجة الموقف الذي هم فيه، بعد قتلهم الحسين (ع) مما أثار موجة عارمة من السخط الجماهيري على السياسة الأموية والضالعين في ركابها!
ثم وجهت فاطمة بنت الحسين (ع) بيانها الخالد: "...أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، إنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه، وحكمته، وحجته في الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه (ص) على كثير من خلقه تفضيلاً، فكذبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، كأنا أولاد الترك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت، لحقد متقدم، قرَّت بذلك عيونكم، وفرحت به قلوبكم، اجتراء منكم على الله، ومكراً مكرتم، والله خير الماكرين. فلا تدعوكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب، من قبل أن يبرأها الله إنّ ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور.
تباً لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حلّ بكم وتواترت من السماء نقمات، فسيحتكم بما كسبتم ويذيق بعضكم بأس بعض ثم تخلدون في العذاب الأليم، يوم القيامة بما ظلمتمونا ألا لعنة الله على الظالمين".(4)
وهكذا تبعتها أم كلثوم بحديث مكثف يضرب على نفس الوتر، ويرمي إلى ذات الغاية... غير أنّ دور النسوة قد تبلور بشكل صارم في دمشق بالذات، حيث جرت مناقشات حادة وخطب وتحديات ويبدو أن العنصر النسائي في الحركة الحسينية قد اتخذ مواقع هجومية على الطغاة هناك... بدءاً من يزيد بن معاوية فما دون، وحسبنا في خطبة زينب في دار الحكم الأموي، وبحضور يزيد نموذجاً فذاً على تلك المواقف الجهادية الرائدة: -"الحمدلله رب العالمين، والصلاة على رسول الله وآله أجمعين، صدق الله حيث يقول" «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزئون».(5)
أظننت يا يزيد، حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء، أنّ بنا هواناً على الله وبك كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمختَ بأنفك ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا، وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: «ولا يَحسَبَنَّ الذين كفروا أنَّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم، إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين».(6)
أمن العدل يا بن الطلقاء؟ تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، وتستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويصفح وجوههن القريب والبعيد، والدنيء والشريف، وليس معهن من حماتهن حَمِيّ ولا من رجالهن ولي، وكيف ترتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء...".(7)
"وحسبك بالله حاكماً وبرسول الله خصماً وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم من بوّأك ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأَيُّكم شر مكاناً وأضل سبيلاً، وما استصغاري قدرك ولا استعظامي تقريعك توهماً لانتجاع الخطاب فيك، بعد أن تركت عيون المسلمين به عبرى، وصدورهم عند ذكره حرى... فَكِدْ كيدك، واجهد جهدك فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب والنبوة والانتخاب لا تدرك أمدنا، ولا تبلغ غايتنا ولا تمحو ذكرنا، ولا يُرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فَنَد، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعن الله الظالم العادي...".(8)
هذه شذرات يسيرة من البيانات العاصفة التي أدلت بها زينب وأخواتها على درب الجهاد، ذكرناها للتدليل على أن النساء كان لهن دور إعلامي فعال في إيضاح أهداف الثورة، وكشف مظلومية أهل البيت (ع) وأحقيتهم في سياسة أُمور الناس، بالإضافة إلى تعرية الخط المنحرف الذي ينتهجه البيت الأموي في توجيه دفة الحياة الإسلامية، وتضليل سواد الأُمة، وإغراء ذوي النفوس الضعيفة منها.

الهوامش:

(1) مقتل الحسين (ع)، المقرم، ص 195، نقلاً عن البحار، ج 10، ص 184.
(2) المدْرَه: السيد الشريف المقدم في اللسان.
(3) المجالس السنية، ج 1، ص 130.
(4) المصدر السابق، ص 131.
(5) سورة الروم، الآية: 10.
(6) سورة آل عمران، الآية: 178.
(7) المجالس السنية ،ج1، ص 146.
(8) مقتطفات من خطبة السيدة زينب في دمشق، تراجع الخطبة كاملة في الإحتجاج، ج2.

المصدر: من كتاب حياة الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، المجلد الأول
إعداد لجنة من العلماء

التعليقات (0)

اترك تعليق