مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مرونة الأم ورعايتها: تخفّف التوتر وتعزّز الذكاء

مرونة الأم ورعايتها: مع إنجاب الطفل الأول يحدث شيء يغير المرأة إلى الأبد


إن جربت على الإطلاق أن ترضعي طفلا، [...] فستعرفين أنه ليس هناك ما هو أكثر حميمية من هذا العمل.
إن هذا النوع من التواصل فريد من نوعه. ومع ذلك، فهو من وجهة نظر العديد من الأمهات يمهّد لطريقة جديدة في العيش تشعرهن أنهن منجذبات إلى علاقة قوية تتضمن الطفل وتحتويه. تقول الكاتبة إريكا جونغ: "لقد جعلتني الأمومة أنضم إلى الجنس البشري".
[...] من الممكن للاختلاط الاجتماعي، أن يكون نوعًا من الذكاء بحدّ ذاته، فهو يشتمل على مهارات لم تقدّر حق قدرها حتى وقت قريب. ولكني الآن أناقش أوجه الذكاء التقليدية كالذاكرة والتركيز. فقد اكتشف في دراسة أجريت على أكثر من مئة ألف امرأة أميركية، وتم تمويلها من المعهد القومي للصحة، أن الانتماء إلى شبكة اجتماعية قوية ملازم للتمتع بوظائف ذهنية أفضل. وأظهرت دراسة مستقلة من جامعة ميتشيغان أجريت على أكثر من ثلاثة آلاف شخص راشد أن الناس الذين يحافظون على مستويات عالية من الاندماج الاجتماعي، كتمضية الوقت مع الآخرين وحتى التحدث عبر الهاتف، يحافظون على ذاكرة ومهارات إدراكية أخرى أفضل من غيرهم.
مع أن بعض هذا ناتج عن التحفيز البسيط للدماغ، الذي يمكن للمرء أن يحصل عليه من التواصل مع الآخرين، فالكثير منه يعتمد أيضًا على الكيفية التي من الممكن من خلالها لتمضية الوقت مع الآخرين أن يخفف من حدّة التوتر. وهناك قاعدة مفادها: من الممكن للتوتر أن يكون مفيدًا إلى درجة معينة فقط. وقد عرفنا لسنوات أن تخفيف حدّة التوتر يساعد الصحة الجسدية، ويخفض خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري، ويقوي جهاز المناعة. والجديد في هذا هو ازدياد الأدلة التي تثبت أن الراحة من التوتر قد تساعد الدماغ أيضًا على المدى القصير والطويل. والأحدث من ذلك هو أن الأمهات، اللواتي يظهرهن نموذج دماغ الأم القديم على أنهن ضحايا للتوتر ليس إلا، يثبتن في الواقع أنهنّ يملكن بعض الفوائد التي تساهم في تهدئة التوتر الذي يواجهنه. ولنفهم هذا بشكل أفضل، يجب أن نتعرف على هرمون ببتيدي أساسي في الأمومة يسمى هرمون الأوكسيتوسين (الهرمون المعجّل للولادة). تقول سو كارتر، أستاذة علم الحيوان وخبيرة رائدة في هذا الموضوع، إن أهمية هذا الهرمون الرئيسة هي أنه "يربطنا بالعالم الاجتماعي". ولكن، هناك أيضًا دليل حديث جدير بالملاحظة يشير إلى أن الأوكسيتوسين يساعد بشكل مباشر على الذاكرة والتعلم من خلال التغييرات المحتملة بعيدة الأمد التي تطرأ على الدماغ.
لقد تم اكتشاف الأوكسيتوسين عام 1906 على يد الباحث الإنكليزي سير هنري ديل الذي أدرك أنه يستطيع تسريع عملية المخاض عن طريق تحفيز تقلصات الرحم. وقد أطلق عليه هذا الاسم مستخدمًا كلمتين يونانيتين تعنيان الولادة السريعة. وبعد مرور قرن على ذلك، بدأ العلماء لتوّهم يكتشفون الأدوار الأخرى التي يلعبها هذا الهرمون وسط آمال كبيرة أنه قد يستخدم يومًا كمضاد للاكتئاب، وسلاح ضد مرض الألزهايمر، أو حتى كوسيلة لمحاربة التلوث والفقر في العالم.
يعمل الأوكسيتوسين بطريقتين. فعندما ينتجه الوطاء (وهو مركز الهرمونات في الدماغ)، تفرزه الغدة النخامية في مجرى الدم حيث لا يحفز المخاض وحسب، ولكنه يحرض على إفراز الحليب حالما يبدأ الطفل بالرضاعة. وتعود العصبونات في الوطاء إلى داخل الدماغ حيث يعمل الأوكسيتوسين عمل الناقل العصبي حاملا المعلومات عبر المشابك، ومسيطرا على العواطف، ومحفزًا على الهدوء، ووفقا لبعض الباحثين، مقويًا للروابط الاجتماعية.
عندما أعطيت ذكور فئران الحقل حقنة من المادة تحولت من عزّاب تطارد الإناث، إلى أزواج وآباء ترعى صغارها. أما الفئران التي ربيت بحيث لا تتأثر بالأوكسيتوسين، فهي تفشل في الاعتراف بوجود الفئران الأخرى. وتفرز الجرذان والأبقار هرمون الأوكسيتوسين عندما تخضع للتدليك. أما لدى البشر فتصل مستويات الأوكسيتوسين إلى ذروتها عند الشعور بالمتعة.
ولكن أكثر أدوار الأوكسيتوسين حيوية يأتي في عالم الارتباط بين الأم والطفل. فقد كتبت عالمة الأنتروبولوجيا سارة هردي، أن هذا الهرمون الذي يساعد على إطلاق السلوك الأمومي، يعتبر بالنسبة إلى الأمهات والمواليد الجدد الذين يلتقون وجها لوجه للمرة الأولى مرادف علم الغدد الصمّاء لضوء الشموع والموسيقى الناعمة. إذ تتخلى إناث الجرذان العذارى المحقونة بهرمون الاحتضان هذا من مشاعر الخوف والعدائية، لدرجة أنها تبدأ بلعق أي صغار في الجوار ورعايتها وحمايتها. أما لدى البشر، فيعتقد أن الأوكسيتوسين، مجتمعًا مع الببتيدات داخلية المنشأ، أفيونية المفعول (وهي المواد التي يعتقد أنها تسبب المتعة التي يشعر بها بعض عدّائي المسافات الطويلة، والتي تفرز أيضًا في أثناء تواصل الأم والطفل)، قد يساعد في تفسير سبب تصرف بعض الراشدين العقلاء، وجلوسهم لساعات، وهم يداعبون الأطفال، ويتفوهون بكلام طفولي سخيف، وبالتالي، فهو يفسر سبب بقاء الأجيال المتعاقبة من المواليد الجدد على قيد الحياة.
إنّ حساسية المرأة لقوة الأوكسيتوسين هي إحدى الطرائق الجوهرية التي تتغير فيها كأم جديدة. إذ تظهر لدى إناث الجرذان الحوامل مستقبلات جديدة للهرمون في الرحم والنسيج الثديي والدماغ. وقد اكتشفت مستقبلات كهذه لدى البشر في الرحم والنسيج الثديي، مما يجعل من المنطقي أن نفترض وجودها في الدماغ بالرغم من أنه يصعب تحديد ذلك لأسباب واضحة.
في معهد كارولينسكا في السويد أجريت كريستين أوفناس موبيرغ، وهي من أهم الخبراء في العالم في هرمون الأوكسيتوسين، عدة اختبارات في مطلع تسعينات القرن الماضي. فأظهرت نتائج اختباراتها أن النساء اللواتي يرضعن أطفالهن يملن إلى أن يكن أقل تفاعلا مع هرمونات التوتر. فقد ذكرت النساء خلال فترة من ثلاثة إلى ستة أشهر بعد الولادة، أرضعن فيها أطفالهن لثمانية أسابيع على الأقل، أنهن أصبحن أقل توترًا جسديًا، وأقل شكّاً ومللاً. وتبين أيضًا أنهن أصبحن أكثر هدوءًا واجتماعية عندما تم اختبارهن لهذه الصفات مقارنة مع نظيراتهن من الأمهات اللواتي لا يرضعن أطفالهن. وعلاوة على ذلك، فقد أشارت أوفناس موبيرغ إلى أنه من الممكن توقع درجة استرخاء هؤلاء الأمهات الجديدات من مستوى الأوكسيتوسين في مجرى دمائهن الذي قد يكون مرتبطا بالمستوى الموجود في أدمغتهن.
وقد اكتشف علماء آخرون دلائل مشابهة على انخفاض الاستجابة للتوتر لدى النساء المرضعات. فقد ذكرت خبيرة الأوكسيتوسين الأميركية سو كارتر، أن تدفق ثلاثة من هرمونات التوتر لدى النساء المرضعات انخفض إلى النصف، بالمقارنة مع النساء اللواتي يغذين أطفالهن بالزجاجة، وأنّ النساء المرضعات ينتجن مستويات أكثر انخفاضا من هرمونات التوتر استجابة للتمارين الجسدية. وتفترض كارتر وعلماء آخرون، أن مستوى هذه الاختلافات ينخفض حالما تتوقف الأمهات عن الرضاعة. ولكن أوفناس موبيرغ تفترض حدوث تغيير دائم، وتؤسس هذه الافتراضات جزئيًا على بحث يظهر أن البشر والثدييات الأخرى تستجيب للطفل الثاني بسهولة أكبر جسديًا وعاطفيًا مما تستجيب للأول، لأن الأم تكون قد مرت بتلك التجربة من قبل وأصبحت مدركة لما سيحدث. ويبدو أن الاختلاف يصبح راسخًا أكثر حتى في ما يتعلق بتدفق حليب الأمهات والذي يصبح أكثر غزارة في المرة الثانية. (تذكروا كيف أحدث الإنجاب اختلافا دائمًا لدى الجرذان التي أجرى كريغ كينزلي زكيلي لامبرت تجاربهما عليها، حيث ظلت الأمهات تحتل الصدارة في التعلم والذاكرة بعد أن توقفت عن الإنجاب بوقت طويل). تقول أوفناس موبيرغ في كتابها: عامل الأوكسيتوسين: إطلاق الهدوء والحب والشفاء: "مع إنجاب الطفل الأول يحدث شيء يغير المرأة إلى الأبد". وتشير إلى أن الحيوانات التي يتمّ تعريضها لزيادة في الأوكسيتوسين، قد يحدث لديها انخفاض في التفاعل مع التوتر بالإضافة إلى انخفاض في ضغط الدم. وهكذا تعتقد أوفناس موبيرغ أيضًا أن جهاز المرأة العصبي قد يصبح أقل تفاعلا بعد أن تضع مولودها. وتقول: "إن أجهزتك المضادة للتوتر نشطة، إذاً، فأنت بالتأكيد محمية".

أفضلية الأمومة
[...]
في نفس العام [أي عام 2003م]، قدمت تريسي شورز، أستاذة علم الأعصاب الوظيفية من جامعة روتغرز، اكتشافاتها التي تظهر أن الأمهات الجديدات يصبحن محميات من التوتر الذي يؤذي ذاكرتهن، وهذه ظاهرة تظن شورز أن لها أيضًا علاقة بالأوكسيتوسين. وفي أبحاثها السابقة، كانت شورز قد أظهرت أن إناث الجرذان العذارى تتعلم بفعالية أقل بعد التجارب المثيرة للتوتر. وقد وضعت في اعتبارها أيضًا الدراسات التي تظهر أن النساء المرضعات هن أقل تفاعلا مع التوتر. وهكذا، صممت شورز اختبارًا لأمهات الجرذان عرّضتها فيه أولا للتوتر عن طريق حجزها داخل أنبوب من البلاستيك الشفاف، وبعد أن دربتها على اختبار بافلوف الكلاسيكي، نبهت أجفانها بموجة كهربائية صغيرة في الوقت الذي تسمع فيه نغمة موسيقية. وعندما قاست شورز الوقت الذي استغرقته الجرذان لتتعلم أن ترمش بعينيها لسماع صوت النغمة، اكتشفت أن الأمهات تعلمت أسرع بكثير من غير الأمهات المرضعات لنفس القدر من التوتر.
تعتقد شورز أن "جهاز الاستجابة الفريد من نوعه هذا"، يساهم في حماية الأم الجديدة من الارتباك، مما يساعدها على العناية بصغيرها بشكل أفضل. وقد أسست حدسها القوي حيال هرمون الاحتضان، على حقيقة أن الأوكسيتوسين يثبط هرمونات التوتر المسماة بالقشرانية السكرية. وتعتبر الهرمونات القشرانية السكرية أحد الأسباب التي تمكن التوتر المزمن من إتلاف قرين آمون، مركز التعلم في الدماغ، كما أنها تضعف قدرة الخلايا على الصمود في أمراض تتضمن السكتة والنوبة الدماغيتين.
يقر روبرت سابولسكي، عالم البيولوجيا في جامعة ستانفورد، وخبير عالمي في أبحاث التوتر، والذي قام بعمل هائل في مجال القشرانيات السكرية، أنه من الممكن للأوكسيتوسين أن يكون طريقة طبيعية تساعد أمهات الثدييات. ووضح هذا بقصة عن الطيور المهاجرة. فالطيور التي تهاجر بشكل منتظم من شبه جزيرة باها إلى القطب الشمالي تستطيع أن تتحمل 20 درجة فهرنهايت تحت الصفر في الشمال، من دون أن تعاني من أي ارتفاع في معدلات هرمون التوتر. ويضيف قائلا: "إن هذا مدهش. ومع ذلك فإن فكرنا في الأمر مليا، أدركنا أن هذا أمر طبيعي بالنسبة إلى تلك الطيور. فلو أن استجابتها أدت إلى ارتفاع في معدلات التوتر لما بقيت على قيد الحياة". وليست الطيور معرضة للأوكسيتوسين باعتبارها ليست من الثدييات، ولكن سابولكسي يظن أن هناك قاعدة عامة تشمل كل أنواع الحيوانات، وتقضي بأنها تتمتع بآليات داخلية تساعدها على التكيف مع بيئاتها المتوقعة. وقد يخدم الأوكسيتوسين ذلك الغرض بالنسبة إلى الأمهات الثدييات فيقوم بتخفيف معدلات التوتر الحاد المتوقعة، بحيث إنها لا تتعارض كثيرًا مع الوظائف الذهنية.
ما زلنا نجهل الكثير عن الأوكسيتوسين والدماغ البشري، ولا سيما لأنه من الصعوبة بمكان أن ندرس الأوكسيتوسين في الدماغ البشري. إذ بينما يعتبر من السهولة نسبيًا أن نقيس الأوكسيتوسين في الدم، فلا يمكن لهذا الهرمون لأن يعبر ما يسمى باسم الحائل الدموي الدماغي، ولهذا لا يزال العلماء يجهلون ما إذا كانت معدلات الدم والدماغ قابلة للمقارنة في ما بينهما. وقد أجرى بعض الأوروبيين مؤخرا بعض التجارب باستخدام بخاخات أنفية تعطي الأوكسيتوسين للدماغ. ولكن البخاخ لم يكن متوفرا في الولايات المتحدة في العام 2004، ولهذا، فقد كان من الصعب إجراء التجارب على المتطوعين إلى أن يصبح متوفرًا، أو يتمكن الباحثون من العثور على طريقة أفضل من الصنابير الشوكية لقياس كيميائيات الدماغ.
ومع ذلك، فالصعوبات التي تنطوي عليها دراسة الأوكسيتوسين تشكل ربما سببا واحدا في تأخر شهرة الهرمون الحالية. إذ يناقش بعض العلماء ومن بينهم أوفناس موبيرغ، أن القضايا التي تهم فيزيولوجيّة النساء بالتحديد، لطالما تراجعت أهميتها لصالح تلك التي تهم الرجال الذين كانوا يترأسون الأبحاث لعقود. وقد يكون سبب هذا التحيز يتمثل بالهوة التي يتّسم بها فهمنا للطرائق المختلفة التي يتكيف بها الرجال والنساء مع الأحداث المسببة للتوتر.

المصدر: أليسون، كاثرين: دماغ الأم، كيف تثري الأمومة ذكاءنا وتنمي قدراتنا، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط١، ٢٠١٠م، بيروت، لبنان.

التعليقات (0)

اترك تعليق