مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

لماذا تتطلّب الأمومة الكثير من الذكاء

الأمومة مهمة تتطلب المزيد من المهارات الإدراكية: "إنني أشعر أحيانا أن أمي وحدها هي من تعرفني حق المعرفة"

 
"إنني أشعر أحيانا أن أمي وحدها هي من تعرفني حق المعرفة، أنا الصبي القلق المتطفل الوحيد في غرفته...".
من كتاب: الأمهات والأبناء: بكلماتهم الخاصة لمؤلفة جيمس آتلاس

أدركت ماريان ساندمير أن هناك خطبًا خطيرًا تعاني منه ابنتها دارا ذات الستة عشر عامًا حتى بعد أن طمأنها طبيبان عاينا الفتاة أنها لا تعاني من أي شيء يستوجب القلق. وقد كانت دارا تعاني من صداع وإحساس غريب بأنها تسمع تدفق مياه في رأسها. وعندما ازداد قلق الأم، وهي كاتبة مستقلة ومحررة من بنسلفانيا، فعلت ما يفعله الملايين من الأميركيين عندما تخطر ببالهم أسئلة لا يجيب عنها أطباؤهم أو لا يودون ذلك. لقد دخلت إلى شبكة الإنترنت لتبحث بنفسها عن تشخيص للمشكلة.
سرعان ما اكتشفت ساندمير أن ابنتها تعاني من رد فعل عصبي نادر جدًا تجاه المينوسيكلين، وهو مضاد حيوي عندما تتعاطاه لمعالجة مزمنة بالبشرة، مما أدى إلى حدوث تجمع سوائل حول دماغها. ويؤدي هذا المرض إن لم يعالج إلى حدوث آلام مزمنة ثم فقدان البصر. ولم يكن أطباء دارا قد سألوا حتى إن كانت تتعاطى أي أدوية. فتوقفت عن تناول هذا العقار وتعافت في غضون بضعة أيام. وقد تحدثت ياندمير عن تجربتها في مقالة في صحيفة تحت عنوان: "خذ حبتي أسبرين وتصفّح الإنترنت".
كان عمل الأم في الماضي يعتبر عملا جسديا أكثر من أي شيء آخر. فهناك حفاضات يجب غسلها ووجبات يجب طبخها من العدم وملابس بحاجة إلى الكي. أما اليوم فقد أصبح عملا عقليا بشكل متزايد، مما يجبر النساء على سرعة التفكير وأخذ القرارات. وبعد أن فقدت شخصيات السلطة السابقة، كالأطباء ومعلمي المدارس والجدات، قيمتها، أصبحت الأمهات وحدهن من يحللن المعلومات على مدار الأأربع والعشرين ساعة، وميزتهن الرئيسة هي التزامهن الاستثنائي. ولهذا يجب عليهن أن يكنّ أكثر ذكاء. وغالبا ما يزددن ذكاء خلال قيامهن بذلك.
كانت هذه النزعة تحدث بمعنى أوسع خلال فترة التطور البشري كلها والتي أصبحت فيها الأمومة مهمة تتطلب المزيد من المهارات الإدراكية. ففي الثدييات الأخرى، ينخفض السلوك الأأبوي بعد أن يتم فطام الصغار وينتهي بهذا النفوذ الكيميائي العصبي الأقوى. أما لدى البشر، الذين يتطور دماغهم طوال فترة زمنية طويلة، فمن الممكن أن يستمر هذا النفوذ بشكل مكثف طوال عقد أو حتى اثنين، وهذه سنوات طويلة تقف فيها الأم مستخدمة كل مصادرها العقلية بين طفلها الذي ينمو والعالم الخارجي الذي غالبًا ما يكون خطرًا.
بيّنا في الفصل السابق كيف يساعد ذكاء الأم على مشاركتها كعاملة في الاقتصاد المباشر وجهًا لوجه. أما هذا الفصل فيبحث في دورها الحيوي وهي تقود أطفالها خلال ثقافتنا الحديثة. ففي يومنا هذا يتطلب هجوم المعلومات من المرء أن يكون أكثر ذكاء من ذي قبل، ولكن الأمهات اللواتي يقمن بصيانة أنفسهن وأطفالهن يجب أن يكنّ أكثر ذكاء من الجميع.
لقد حدثت أربعة تطورات زادت من تحديات الأمومة العقلية خلال الأجيال القليلة الأخيرة. فهناك التيار الحديث من نظريات ونصائح الأبوة التي ساهمت فيها أبحاث علم الأعصاب بكل وزنها (إذ أصبح يفترض الآن أن الأمهات مسؤولات جزئيًا عن تطور دماغ أطفالهن). وهناك الورطات الطبية التي تواجهها بعض الأمهات، كما حدث مع ساندمير (فالأمهات يجدن أنفسهن الآن في غالب الأحيان يصفن علاجات لأطفالهن كما يفعل الأطباء)، وهناك تدهور في مستوى المدارس العامة بالإضافة إلى ازدياد التنافس على قبولات الجامعات. (فقد أصبح متوجبًا على الأمهات أكثر من أي وقت مضى أن يتعرفن إلى المصادر الأكاديمية ويمارسن ضغوطهن عليها وهن في نفس الوقت يشرفن على إنجاز الفروض المنزلية الذي قد يبدأ مبكرا في الحضانة). وأخيرًا، هناك ازدياد هائل في الثقافة الاستهلاكية التي لا تهدد سلامة أطفالنا وحدهم ولكن البيئة الطبيعية التي سيرثونها. (فأصبح من الواجب على الأمهات أن يميّزن بين الإرضاء الفوري والتبعات التي تترتب عليه على المدى البعيد).
إن هذا التنوع من المسؤوليات يجعل من المهم بالنسبة إلى الأمهات أن يتحدين فكرة دماغ الأم النمطية التي تدفعهن للاعتقاد أنهن لسن مؤهلات للتفوق بالتفكير على السلطات الأأخرى، وأصبح هذا يشكل تحديًا متزايدًا بالنسبة إليهن. تقول سارة روديك، مؤلفة كتاب التفكير الأمومي: "لطالما استخف المجتمع بالأمهات اللواتي يتوجب عليهن أن يتغلبن على ثقافاتهن ويعشن ضمن تلك الثقافات ويقاومنها في آن معا. ولطالما كان ذلك أكثر تعقيدًا من الشرف الذي يعترف لهن به أحد لفعل ذلك. وقد أصبح ربما أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى".

الرعاية الأمومية المكثفة والأطفال الذكياء
في أواخر التسعينات (المسمى بعقد الدماغ)، بدا على رسالة الثقافة الغربية للأمهات أنها توحي بأنهن يخذلن أطفالهن، إن لم يبدأن بتحفيز مؤهلاتهم العقلية منذ وجودهم في الرحم. فأصبحت معظم حفلات هدايا الطفل الجديد تتضمن أشرطة فيديو موزارت الطفل، وغنائم ذات أجراس لتعزز الوعي الجسدي، وهواتف نقالة بالأبيض والأسود مصممة لالتقاط نظرة عيني الطفل وتدريبها. وقد بدأت الحركة المسماة بحركة الطفل الأفضل والتي انطلقت من معاهد مثل معهد تحقيق الطاقة البشرية الكامنة في فيلادلفيا تروّج لخريجيها كطفل في الرابعة من عمره بدأ من الآن "يقرأ للمتعة، ويؤدي العديد من الواجبات المنزلية، ويعزف على الكمان، ويعدو في سباقات الثلاثة أميال، ويمارس رياضة السباحة". وقد بدا على الأدمغة الصغيرة أنها تتمتع بقوة كامنة جديدة وغير مكتشفة. وهكذا، فبينما كانت رسالة السبعينات الموجهة للأمهات، والتي قد يعبّر عنها أفضل تعبير الروائي فيليب روث بقوله "تراجع أيها الخانق!"، أصبح الأمر الجديد هو: "افعل المزيد...والمزيد!".
في العام ١٩٩٨، تناقل الآباء العصبيون قصة غلاف مجلة تايم التي تدور حول علماء الأعصاب الذين يناقشون كل النوافذ الصغيرة التي تتفتح وتنغلق في دماغ الطفل خلال نموه، مما يعني وجود مهل محددة للحصول على أقصى فائدة في تعليمه اللغات الأجنبية والموسيقى. ويحذّر الكاتب قائلا: "في عصر أصبح فيه الآباء والأمهات بحاجة ملحة إلى الوقت، واستولى عليهم الشعور بالذنب لتزايد عدد الساعات التي يمضونها بعيدا عن أطفالهم، تزيد النتائج القادمة من المختبرات قلقهم حيال ترك الأطفال الصغار جدا في رعاية الآخرين. إذ يجب التركيز على أهمية الرعاية الأبوية والأمومية التي يقدمها الآباء والأمهات بأنفسهم، وتخصيصهم الوقت لاحتضان الطفل والتحدث إليه وتزويده بالتجارب المحفزة".
لقد أصبح صقل دماغ الطفل بمثابة رياضة تنافسية. فقد تمّ في مقالة منشورة في صحيفة وول ستريت الترحيب بنشوء ما يسمى "حديث البطن: الطريقة الأحدث في عالم الأمومة". حيث تم في المقالة وصف امرأة حامل "متلهفة لوضع جنينها على الطريق الأسرع". وكانت تسأل الخبراء الأكاديميين حول الأسلوب التي يمكّنها من أن "تحقق أقصى استفادة من فترة مكوث طفلها في الرحم". كما تمّ وصف تطورات هامة مثل "نظام تعليم الطفل قبل الولادة"، وهي آلة إلكترونية تنتج أصواتا إيقاعية تمّ الترويج لها على أنها المرادف السمعي لفيتامينات ما قبل الولادة. وقد جرب الآباء والأمهات الموسيقى الكلاسيكية من خلال الأقراص الليزرية وسمّاعات الأذن الصغيرة. وقد قمت بهذا بنفسي مع طفلي المسكين جوي في العام ١٩٩٥ إلى أن أشار أخي جيم إلى أنه يبدو في الصورة فوق الصوتية وكأنه يصرخ قائلا أوقفوا هذا الضجيج!، وربما كان على حق. فبعض الخبراء يحذرون الآن من أن حفلات موسيقى ما قبل الولادة قد تسبب للطفل اضطرابات في النوم. ومع ذلك، فلا تزال الكثير من الأمهات يشعرن أنهن مجبرات على البدء برعاية أطفالهن في أقرب وقت ممكن، بسبب التقارير الجديدة التي تتناول موضوع الفرق الكبير الذي يستطيع مانح الرعاية الملتزم أن يحققه. ووصلت هذه النوبة إلى درجة أن أستاذة علم الاجتماع شارون هايز ابتكرت، في نفس العام الذي نشرت فيه صحيفة تايمز غلافاً عن دماغ الطفل، مصطلح الأمومة المركزة لتصف المعيار الجديد. وتعتقد هايز أن متطلبات الأمومة قد ارتفعت بسبب انتشار كتب نصائح العناية الحديثة بالأطفال. وأشارت إلى أن نحو ٩٠٪ من الأمهات الأميركيات اللواتي تم إجراء الاستبيان معهن ذكرن أنهن قرأن كتابا واحدا على الأقل. وتؤكد هايز أن الأمهات في الأجيال الماضية في أنحاء العالم كافة يجدن معاييرنا الحالية سخيفة. وتقول: "بعد أن أجريت مقابلة في إذاعة فري يوروب سمعت أن النساء الروسيات وجدن الفكرة برمتها مثيرة للضحك. ففكرة وضع قوانين محددة يجب على المرأة أن تتبعها لتصبح أما بدت لهن فكرة في غاية التفاهة".

في أواخر التسعينات، أصبحت الأمهات في الولايات المتحدة يمضين مع أطفالهن وقتًا متساويًا إن لم يكن أكثر من الوقت الذي كانت الأمهات يمضينه قبل ثلاثين عامًا بالرغم من ساعات العمل خارج المنزل، وذلك وفقا لما اكتشفته هايز وخبيرات أخريات. وبالنسبة إلى العديد من الأمهات، يعني هذا انخفاضا كبيرا في ساعات الراحة، بما فيها ساعات النوم. وبالطبع لم تتغير كمية الوقت لبتي يمضينها مع أطفالهن فقط ولكن كثافة ذلك الوقت قد تغيرت أيضًا. تقول هايز: "إن أرسلتني أمي للعب في الشارع طوال اليوم قالت إنها تعتني بابنتها، ولكن الأمهات في يومنا هذا لا يعتبرن أنفسهن يعتنين بأطفالهن فعلا ما لم يكن الوقت مركزًا كليًا على الأطفال". وتقول هايز إن الاعتقاد أن الطفل يكون عرضة للإهمال إن لم ينهمك بعمل مفيد ويوجّه بالتحفيز المستمر، أصبح يتحكم بقرارات رعاية الطفل. وقد اكتشفت هايز أن الكثير من الأمهات لم يعدن يثقن بمجرد طلب رعاية أطفالهن من الأقارب حتى عندما الأقارب متوفرين وتكون الأم قليلة الموارد، ولكنهن عوضًا عن ذلك يسعين وراء المحترفين، وهذا لا يتطلب مبالغ مالية أكبر فقط، وإنما يتطلب القوة الذهنية للتمييز بين الخيارات المتعددة. وتشعر الكثير من الأمهات المتمتعات بالمصادر أنهن مجبرات على إلحاق أطفالهن بكمّ كبير من برامج الإثراء بعد المدرسة.

وقد أصبحت طريقة تأديب الأطفال مرهقة لعقل الأم أكثر مما كانت خلال سنوات خلت. فبينما كان لا يزال مقبولا اجتماعيا قبل جيل أو جيلين، إن لم يكن صحيحا بالضرورة، أن يصفع المرء طفلا تأديبا له، فقد أصبحت الوسيلة الأكثر تحديا دماغيا، والمتمثلة بالتفاوض، هي المعيار المحدد للثقافة، وقد أتى هذا التحول كجزء من الاختلاف الجذري الذي طرأ على طريقة رؤيتنا للأطفال، وفقا للكاتب بيتر ستيرنز مؤلف كتاب الآباء القلقون: تاريخ رعاية الأطفال الحديثة في أميركا. إذ كان ينظر إلى الأطفال من قبل على أنهم أقوياء ومرنون، بينما يبدو عليهم الآن أنهم أصبحوا أكثر ضعفًا ولينًا. فوضع هذا التغيير الآباء في خط النار مباشرة بين مؤلفي كتب النصائح التي تجيز التساهل في التربية، والناقدين الاجتماعيين الذين يشتكون من تفشي ظاهرة الأطفال المدللين.

ومن جديد، أصبحت الأمهات، أكثر من الآباء، هن على الأغلب من يتوجب عليهن تبني المنطق البديل وتقديم الصفقات والرشاوي التي يشتمل عليها أسلوب التأديب المعاصر. ويرفض العديد من الرجال الآن الأسلوب القديم في النظر إليهم على أنهم الرجال السيئون، مما يجعل تهديد الأم بعودة الوالد إلى المنزل يبدو تهديدًا فارغًا. وهذا يترك الأمهات وحدهن ليمضين أطول وقت مع أطفالهن، ويقرأن كتب الانضباط، ويحضرن حلقات البحث، ويرسمن جداول معقدة للمكافآت والعقوبات. تقول ميشيل بولارد مضيفة طيران لديها طفلان صغيران: "إنني أخضع حاليا لمنهجين في تربية الأطفال بعد أن جربت خمسة برامج سلوكية في العامين المنصرمين. فجميع هذه البرامج تنجح لبعض الوقت إلى أن يتوجب عليّ أن أكتشف أسلوبًا جديدًا. أما عندما كنت طفلة، فلم يكن أحد يود أن يعرف رأيي أو يكترث له".        

المصدر: دفاع الأم: كيف تثري الأمومة ذكاءنا وتنمي قدراتنا، كاثرين اليسون، ترجمة: أفنان سعد الدين. ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، ١٤٣١ﻫ - ٢٠١٠م.

التعليقات (0)

اترك تعليق