مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

ذكريات من زنازين

ذكريات من زنازين "الخيام"(1): قصة الأسيرة المحررة نوال بيضون

سمعت دقات على الباب بشكل غير مألوف، أسرعت لأرى من الطارق، ذهلت عندما وجدت ثلاثة كلاب من العملاء أمام الباب.. ماذا تريدون؟...
فوجئت يوم الخميس في العشرين من نيسان، الخامس من شهر رمضان عام 1988، باعتقال فتاتين من اللواتي يعملن ضد الاحتلال واقتيادهن إلى معتقل الخيام، وقد علمت بهذا الأمر وأنا في المدرسة، وذلك من إحدى الزميلات، فصعقت للخبر. قلت في نفسي جاء دوري، إذ كنا نحسب حسابا لهذه الساعة، ولكنني تظاهرت بتجاهلي لهاتين الفتاتين واستمررت في عملي بشكل طبيعي وفي داخلي إحساس غريب وتساؤل عما سيحصل.
في اليوم نفسه وعند الساعة السادسة والربع، وبينما كنت مشغولة بإعداد الإفطار، وقبل خمس دقائق فقط على موعده، سمعت دقات على الباب بشكل غير مألوف، فأسرعت لارى من الطارق. ذهلت عندما وجدت ثلاثة "كلاب" من العملاء أمام الباب (هم حسين عبد النبي أو عدو النبي كما كنا ندعوه في ما بيننا وعبد النبي أيوب الملقب بالجلبوط وفوزي الصغير). سألتهم ما الأمر؟ ماذا تريدون؟.
- لم يكن في البيت سوى أخي الذي لم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره وشقيقتي اللتين تصغرانني بضع سنوات، وللحال خطر ببالي أنهم جاؤوا في طلبي. عندها فتح العميل عبد النبي يده وسألني بالحرف الواحد:
-أنت نوال قاسم بيضون؟
- نعم.
إذ أن اسمي كما تبين لي مكتوب على كفه.
-تعالي معنا إلى مركز البلدة لبضع دقائق، هناك سؤال نريد معرفة جوابه منك وبعدها تعودين إلى البيت.
-ماذا تريدون مني؟
-تعالي معنا وبعد ذلك تعرفين كل شيء.
رفضت، وفي تلك اللحظة تجمع الجيران في باحة البيت واخذوا ينظرون إلي نظرة خوف علي. أصررت على رفضي، لكن العميل فوزي الصغير قال لي: "لا تعاندي، خمس دقائق وتعودين"، فكررت رفضي. عندها صوب العميل عبد النبي مسدسه نحوي وهددني بإطلاق الرصاص علي إذا لم استجب لطلبهم. صرخت جارة لي بان اذهب دون مجادلة (في ذلك الحين لم تكن والدتي ولا والدي في البلدة)، تبسمت للجارة، وطلبت منهم ان يعطوني مهلة خمس دقائق لأداء الصلاة وتغيير ملابسي، ولكنهم رفضوا مع إشهار السلاح.
في تلك اللحظة الرهيبة رمقت جميع من حولي بنظرة وداع وجلت بنظري لأرى أخوتي ولكنني لم أرهم أمامي او ربما كانوا موجودين ولكنني لم أع وجودهم. اقتادوني إلى مركز البلدة الذي يبعد عن منزلنا مسافة عشر دقائق سيرا على الإقدام، والمارة من الجيران ينظرون إلي نظرة خوف علي وعلى مصيري، حتى وصلنا إلى المكان المقصود. أدخلوني غرفة كانت معدة في السابق لإعطاء تصاريح المرور عبر الحاجز وأجلسوني على كرسي حديدي، وانهال علي العميل "عدو النبي" بالأسئلة التالية:
-أين تضعين جهاز الإرسال والأسلحة التي بحوزتك؟
-أية أسلحة هذه وأي جهاز تسألني عنه؟
-لا تتظاهري بالتجاهل، أجيبيني بصراحة، أفضل لك. ما هي علاقتك بفلانة (إحدى الفتاتين اللتين اعتقلتا قبلي بيوم واحد).
-معرفة سطحية كأية فتاة من البلدة.
-ولكنها تقول غير ذلك، تقول أن لديك جهازا وشيفرة وأسلحة كاتمة.
-هذا غير صحيح.
-إذن انظري إلى هذا الجهاز، وأشار إلى جهاز يشبه صندوقا مربعا على سطح خزانة حديدية، أسود اللون، يشبه التلفون القديم، قلت:
-ما هذا؟ وماذا يعني؟
-إنه جهاز كهرباء وستجربينه لنرى ماذا ستفعلين.
رفعت نظري إلى الله تعالى بان يقف بجانبي وصممت على الإنكار مهما كان الثمن. أحضر الجهاز ووضعه أمامه على الطاولة ثم انتزع سلكين من الكهرباء الموصولة بالجهاز ووضع احدهما بيد والآخر بيد أخرى وقال:
-سنرى الآن، لن أوقف هذا الجهاز حتى تشيري برأسك بالإيجاب عن مكان الأسلحة.
نظرت إلى يدي حينا وإلى الجهاز حينا آخر، ثم رمقته بنظري. أحضر العميل الجلبوط كمامة مبللة بالسبيرتو وقد علمت ذلك من رائحتها، ووضعها على فمي، في حين وقف العميل فوزي الصغير وأحد العملاء الذي يدعى كمال صالح والذي قتل في ما بعد بعملية مخدرات على أيديهم.
حانت اللحظة، حرك يديه باتجاه مفتاح الجهاز وأخذ يبرم به. عندها انتفض جسدي من مكانه، أحسست وكأن روحي تنتزع من جسدي، ثم أوقف الجهاز وعاد ليسألني السؤال نفسه. صمت قليلا وتراءت أمامي النهاية، نهاية حياتي. وللحال خطرت ببالي فكرة وهي أن أنزع أحد السلكين من يدي فعندها لا يمكن إيصال الكهرباء إلي، فعاد يبرم ولكنني لم أحرك ساكنا، ففوجئ بذلك ونظر إلى يدي ثم صرخ بأعلى صوته: "ما هذا! ماذا فعلت، الآن سترين نهايتك". وأعاد البرم في الجهاز بشكل جنوني بعد أن أعاد إيصال السلك إلى يدي. بدأت أصرخ ولكن صوتي مكتوم بالكمامة، وبعد ذلك وقعت أرضا لشدة الكهرباء وأغمي علي ولم أعد أعي ماذا يحصل بشكل واضح، كل ما وعيته هو وجود الماء على وجهي وأنا في مكاني. بعد أن استعدت وعيي قال لي حسين عبد النبي: "لقد اخترت نهايتك".
أمر أيوب الجلبوط بأن يدخلني إلى غرفة داخلية ويحكم إقفال الباب علي خشية الهروب، وسمعته يقول للعميل فوزي الصغير: "غدا في الخامسة صباحا تأتي وتأخذها إلى الخيام".

المصدر:
www.bintjbeil.com
قصة الأسيرة المحررة نوال قاسم بيضون
ذكريات من زنازين "الخيام"

التعليقات (0)

اترك تعليق