ذكريات من زنازين "الخيام" (2): قصة الأسيرة المحررة نوال بيضون
جاء الموعد المحدد وهو الساعة الخامسة صباحا. سمعت صوت محرك سيارة تقف بجانب المركز. قلت في نفسي لقد جاؤوا. دعوت الله تعالى بان يكون معي ويقف إلى جانبي ضد هؤلاء. أخذت أتأمل الباب بحذر، وإذا بصوت الباب يفتح، تظاهرت وكأنني طبيعية لا أخشى شيئا ودخل العميل فوزي الصغير وألقى علي تحية الصباح (يا للوقاحة)! لم أجب، بقيت صامتة ثم قال لي: "لا تخافي، سأعمل المستحيل لأرى ما القضية بالتحديد، ولكن الآن علي نقلك إلى الخيام وإن شاء الله تعودي معي ولا تتأخري هناك". بقيت صامتة.
أمرني بالتوجه نحو السيارة، فخرجت من الغرفة، وجلت بنظري بعيدا كمن يلقي نظرة وداع، ثم نظرت إلى السيارة وتخيلت أنني سأوضع في داخل صندوق مكبلة اليدين، مغمضة العينين، إذ هكذا كانوا ينقلون معظم الفتيات إلى الخيام. ولكنه أمرني بفتح الباب الخلفي للسيارة والصعود إلى داخلها، ففعلت ذلك، وجلس بقرب العميل فوزي الغير المدعو كمال صالح ليكون مرافقا له.
بدأت لحظة الانطلاق إلى العالم المجهول، سارت بنا السيارة بسرعة طبيعية، ولكنني كنت أسمع دقات قلبي المتسارعة، لا أدري لماذا بالتحديد، هل من الخوف أم ماذا ؟ أخذت أنظر حولي، إلى الأشجار والبيوت والشوارع، إلى المارة. وكأن كل ما يقع عليه نظري كان آية من الجمال والروعة. أنظر إلى ورق الشجر فأشعر نحوه بإحساس غريب وكأنه شيء مقدس، لماذا انتابني هذا الشعور في تلك اللحظة يا ترى، ولماذا يبدو لي الآن كل شيء جميلا، مع أنني أرى كل هذا باستمرار وبصورة طبيعية: إنه الإحساس بمعرفة قيمة الأرض وكل شيء عليها.
في تلك الأثناء وضع العميل فوزي الصغير شريط كاسيت وأول أغنية كانت عن الأم، لن أنسى مطلعها وهي (سامحيني طالب الغفران). كانت مؤثرة للغاية، انهمرت دموعي لسماعها، وقد تصورت أنه تعمد إسماعي هذه الأغنية لعله يريد بذلك أن يعذبني نفسيا. وصلنا إلى مكان يدعى (الدردارة) وهي بركة ماء واسعة وحولها متنزه معد للحفلات، كنت أسمع بها، وشاء القدر أن أراها. هناك قال لي العميل المذكور: انظري إلى أعلى الجبل المقابل لنا، هناك سجن الخيام. صوبت نظري بدقة لأرى هذا المكان المجهول، فإذا هو أشبه بقلعة محصنة. طالعني من بعيد رجل يحمل بندقيته يقف في أعلى البرج.
تابعت السيارة المسيرة حتى وصلنا إلى بوابة المعتقل، وهي عبارة عن بوابة كبيرة يصل عرضها تقريبا إلى حوالي ستة أمتار. توقفت السيارة هناك وأخذت أتفحص ما حولي. كان هناك العديد من أكياس الرمل المكدسة تحيط بالأبراج، ولكن العميل الذي يقف على البوابة لم يسمح للسيارة بالدخول مباشرة بل طلب من العميل فوزي الصغير إبراز هويته. لم يطمئن لذلك، فإذا به يتصل بواسطة جهاز للإرسال بشخص آخر وسمعته يقول: "سيارة للأمن تنقل فتاة، والأمن تابع لمنطقة بنت جبيل".
بدا أن المجيب طلب منه السماح للسيارة بالدخول، إذ إنه فور انتهاء المكالمة أشار إلى العميل فوزي الصغير بمتابعة السير والدخول إلى قلب المعتقل. أول ما طالعني بعد تجاوزنا البوابة عدد من الغرف ذات أبواب حديدية مبنية بانتظام، فقلت في نفسي لا شك بان المعتقلين داخل هذه الغرف. توقفت السيارة أمام غرفة خرج منها عميل يحمل سلاحا على كتفه. كان ذلك في تمام الساعة السابعة صباحا، وقد عرفت الوقت من سماعي صوت الراديو من داخل السيارة.
لم تمض لحظات حتى دخلت الغرفة فتاتان إحداهما شقراء الشعر. للوهلة الأولى ظننتهما "إسرائيليتين"، ولكن تبين لي أنهما، لبنانيتان، كانت تبدو عليهما ملامح غربية، وإذا بإحداهما تحمل كيسا كحلي اللون وتضعه على رأسي، فتعجبت لذلك وانتزعته، فنهرتني بنبرة عالية: "إياك أن تفعلي ذلك مرة ثانية"، ثم وضعته مرة ثانية ووضعت فوقه عصبة كحلية أيضا وبالتحديد فوق عيني، فأحسست بأنني أكاد أختنق من ذلك ولم أعد أرى شيئا، الظلام دامس أمامي، بعد ذلك طلبت مني أن أمد يدي ففعلت، وضعت بهما (كلبجة معدنية) وقالت لي اتبعيني، فقلت لها إلى أين؟ أجابت ساخرة: "إلى السينما.. اتبعيني ولا تسألي عن أي شيء". ثم أخذت بطرف يدي وأنا أسير كعمياء تخاف الاصطدام بأي شيء. مشيت بضع خطوات ثم طلبت مني التوقف، وبعدها سمعت صوت قفل يفتح ومن ثم صوت باب حديدي وأمرتني بأن أرفع قدمي مرة ثم مرة ثانية ثم بالدخول، وبعد ذلك فكت لي القيد المعدني وأمرتني بأن أنزع الكيس والعصبة عن رأسي، ففعلت، ثم نظرت حولي فوجدت نفسي في غرفة لا يكاد يصل طولها إلى متر أو بضع متر وعرضها حوالي نصف متر، فقلت في نفسي هذا هو المكان الذي تخيلته. بعد ذلك طلبت مني أن أضع يدي خلف ظهري، ثم وضعت بهما الكلبجة وكذلك فعلت بقدمي، وأجلستني والأرض وقالت لي إياك أن تتحركي، وخرجت ثم أقفلت باب الزنزانة، علي وذهبت.
هنا نظرت حولي وقلت في نفسي، أين أنا؟ ما هذا؟ وأخذت أتفقد المكان وقد لفتت نظري عبارات عديدة مكتوبة على جدران الزنزانة، بعضها أسماء معتقلات دون أسمائهن وتواريخ اعتقالهن، وبعض أبيات شعرية للأم والوطن، وبعض الآيات القرآنية. أذكر حينها أنني لم أستطع التركيز على فكرة معينة، فلقد أحسست أنني في غيبوبة بعد مضي حوالي ساعة نصف عادت وفتحت باب الزنزانة علي ثم وضعت لي الكيس والعصبة بعدما فكت القيود من قدمي، في حين أبقت يدي مقيدتين وأمرتني أن أتبعها، وعادت وأمسكت بطرف يدي وأمرتني بأن أنزل قدمي مرة ثم مرة ثانية، فأدركت أن الزنزانة التي وضعوني فيها لها درجتان. ثم سرت بشكل مستقيم حوالي ثلاثين خطوة، وأمرتني بأن أرفع قدمي ثم أنزلها وبعد ذلك نزعت الكيس عن رأسي في حين بقيت يداي مقيدتين، فوجدت نفسي في غرفة، فيها طاولة وكرسي وخزانة حديدية وثلاثة أسرة، وكان يجلس على الكرسي خلف الطاولة شخص يبلغ من العمر حوالي خمسة وعشرين عاما.
نظرت أمامه فوجدت عددا من الملفات، فتح أحدها ثم أخذ يسألني: "ما اسمك، عمرك، بلدك، ماذا تعملين، أين تتعلمين، وأنا أجيب عن هذه الأسئلة، ثم سألني عن وزني وطولي وإن كانت لدي علامات فارقة أو إن كنت مصابة بأي مرض أو إن كان قد أجريت لي عملية ولو منذ عدة سنوات وأنا أجيب عن كل ذلك، ثم قال للفتاة التي أحضرتني: "سلموها فرشة وأربعة حرامات"، فنظرت إلى الفتاة نظرة أحسست خلالها بأنه لو باستطاعتي أن أخنقها لما قصرت، ولكن ما حيلتي.. ثم عادت ووضعت الكيس والعصبة في رأسي وتوجهت بي إلى مكان يبعد بضع خطوات عن مكان وجودنا، وأدخلتني غرفة كانت معدة لوضع الفرش والحرامات. هناك فكت القيود من يدي وطلبت مني أن أحمل الفرشة والحرامين وليس الأربعة وأنا أتبعها.
المصدر: www.bintjbeil.com
قصة الأسيرة المحررة نوال قاسم بيضون
ذكريات من زنازين "الخيام"
اترك تعليق