مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

ذكريات من زنازين

ذكريات من زنازين "الخيام" (3): قصة الأسيرة المحررة نوال بيضون

عند خروجي من الغرفة نظرت إلى الخارج فلفت نظري عدد من الفرش، كانت حوالي خمسة عشر فرشة مع حرامات مفروشة على الأرض، فقلت في نفسي مؤكد إنها لمعتقلين، ولكن أين هم؟ لا أسمع صوتا إذ إن كل شيء كان ساكنا. أعادتني إلى الزنزانة مرة ثانية وعادت وقيدت يدي إلى الخلف ثم خرجت وأقفلت الباب، وبعد ذلك، وبالتحديد بعد حوالي ساعتين، بدأت رحلة العذاب: بدأ التحقيق معي، إنه الحادي والعشرون من نيسان يوم الجمعة 1988.
فتح باب الزنزانة فإذا بوجه جديد أمامي، ليست الفتاة التي أحضرتني إلى الزنزانة، وليست رفيقتها، لعلهن أكثر من واحدة قلت، نظرت إليها، إنها في الأربعين أو أكثر، قصيرة القامة، ضخمة الجثة، زرقاء العينين، سألتني عن اسمي وعن بلدي ثم طلبت مني الوقوف بعد أن فكت الكلبجة عن يدي لتضعهما إلى الأمام.
وبعد ذلك وضعت الكيس في رأسي مع العصبة وقالت لي:
-يجب أن تعترفي بكل شيء، أفضل لك من أن تتعذبي، وأنا أحب مساعدتك.
-إنني لا أعرف شيئا لأعترف به.
-كلكن في البداية تقلن ذلك ثم يتضح أن عملكن كثير.
أثناء ذلك طلبت مني أن أرفع قدمي ثم أنزلهما بعد مسافة عدة خطوات من الزنزانة، ثم سرت بضع خطوات لا تتجاوز الأربع وأمرتني أن أرفع قدمي مرة ثانية وأعود وأنزلهما. ثم مشيت نفس المسافة تقريبا لأعود للشيء نفسه. هذه المرة رفعت قدمي قليلا ثم أنزلتها ثم رفعتها بشكل واضح العلو ثم سرت خطوتين. طلبت مني بعدها الجلوس على كرسي أمسكتها بيد في حين كانت مسكني بيدها الأخرى. أدركت حينها أنني في غرفة ولكن لا أعرف شكلها ولا أشعر بوجود أحد فيها. فجأة سمعت صوت تشويش ثم كلام. فتقطع باللغة العربية، أدركت أن هذا جهاز إرسال. أخذت أركز سمعي على كل شيء، فأدركت أن هناك شخصا موجودا في الغرفة، وذلك حين سمعت صوت ورق للكتابة يحرك. ركزت اهتمامي على مصدر الصوت أكثر ثم فوجئت بصوت يسألني:
-ما اسمك؟
انتفضت من مكاني وكانت لهجة الصوت قوية جهورية فأجبته عن سؤاله ثم دار بيننا الحديث التالي:
-أين أنت الآن يا نوال؟
-حسب ما فهمت فإنني في معتقل الخيام.
-وكيف عرفت ذلك؟
-عند إحضاري إلى مركز بنت جبيل. هناك قالوا لي إنهم سيحضرونني إلى هذا المكان.
-وماذا تعرفين عن سجن الخيام؟
-لا شيء.
-لا شيء أبدا؟ ألا يوجد أشخاص من بلدتكم هنا؟
-نعم.
-وماذا تسمعين عنهم؟
-لا أسمع شيئا أكثر من أنهم يعذبون.
-إذن عندك فكرة بأن الذي يُؤتى به إلى الخيام يعذب، ولماذا يعذب؟
-لا أعرف.
-طيب لماذا أنت هنا؟
-كمان ما بعرف.
أثناء ذلك ظننت أن الشخص الذي يتكلم معي هو ذاته فوزي الصغير الذي أحضرني إلى المعتقل وذلك من صوته، فحاولت رفع الكيس عن وجهي لأتأكد من ذلك بعدما ناديته باسمه (أي باسم فوزي الصغير)، لمحت وجهه بضع ثوان، فصرخ بوجهي قائلا: "أنزلي الكيس على عينيك وإياك أن تفعلي ذلك"، فأدركت أنه ليس فوزي الصغير بل شخص آخر، ضخم الجثة كما لمحته، أجلح الرأس، في حوالي الخمسينيات من العمر، ثم قال لي:
-قلت أن اسمك نوال. أليس كذلك؟
-نعم.
-شوفي يا نوال، أنا رح كون صريح معك وسأساعدك بقدر الإمكان، أنت بنت ووضعك حساس جدا، وأكيد سمعت بأن ناس كتير جبناهم لهون منهم مهندسين ودكاترة وشيوخ وكلهم اعترفوا بكل شيء بعد محاولة الإنكار فلا بد لهم أن يعترفوا لأن عندنا وسائل عديدة للاعتراف.
وأخذ يعد لي الوسائل الوحشية التي ستعملونها (ومنها الكهرباء، وكب الماء، والتوقيف بالشمس، أو بالهواء وتحت المطر، التركيع ساعات عديدة، الربط بالعمود)، وذكر لي وسائل عديدة لم أعد خلالها أستطيع التركيز لهول ما ذكر لي من وسائل وحشية، ثم قال لي: "ماذا ستفعلين وأنت فتاة، يعني لا تعرضي نفسك للإهانات والتعذيب، فضلا عن ذلك فإن شرف البنت يهمها وأكيد فاهمة قصدي، لو اضطر الأمر للاعتداء عليك فسيفعلون ذلك وأنت ستدفعينهم إلى هكذا تصرف، إلا إذا كنت تريدين المحافظة على كرامتك وشرفك وأن لا تتعرضي لأية إهانة وأن تعاملي أحسن معاملة فعليك الاعتراف بكل شيء وبالتفصيل، وعليك أن تكوني صريحة لا داعي لأية مواربة أو تردد، والأهم ذكر كل شيء بالتفصيل".
سمعت صوت باب الزنزانة يفتح فقلت في نفسي سأساق الآن إلى التحقيق. فجأة فتحت الشرطية الباب وأمرتني بأن أحمل الصحن الذي وجدته في الغرفة وأن أذهب إلى الحمام الذي أشارت إلي عليه، وكان مقابل الزنزانة، يبعد عنها حوالي عشر خطوات، فنظرت إلى الصحن ووجدته كما هو فصرخت بوجهي قائلة :
-لماذا لم تتناولي طعامك حتى الآن؟
-لست جائعة.
-يجب أن تأكلي وإلا سنضطر إلى أسلوب آخر معك.
لا أدري كم مر من الوقت لأعود وأقف مذعورة أيضا حين سمعت صوت الباب يفتح: إنها الشرطية. أمرتني بأن أحمل فرشتي وأغراضي وأن أتبعها. سألتها إلى أين؟
-لا تسألي، احملي أغراضك واتبعيني فقط.
ففعلت ما أمرتني به ومشيت وراءها نزولا من مكان الزنزانة مسافة حوالي عشرين مترا ثم أدخلتني غرفة أوسع من الزنزانة بكثير، إذ تكاد تكون بحجم الغرف العادية، وبعد أن دخلت قالت لي: "هذه غرفة جديدة"، خرجت وأقفلت الباب وراءها، بعد ذلك أخذت أتفحص المكان.
كان في الغرفة مجلى من الألمنيوم، وحنفية ماء وباب خشبي يؤدي إلى غرفة صغيرة بحجم الزنزانة أو أكبر بقليل. كان الباب الخشبي مفتوحا، دخلتها وأخذت أتأملها أيضا، يوجد فيها ركيزة من الباطون بعلو متر ونصف تقريبا وفوقها شباك يطل إلى الخارج، صعدتها لأرى ماذا يوجد بعد هذا الشباك فوجدت أسلاكا شائكة تحيط بالمكان، وبدت لي قرى عديدة لم أكن أعرفها في بداية الأمر، تبين لي في ما بعد أنها قرى مرجعيون والقليعة وقرية كان يقال لها الخربة ثم بدل اسمها ببرج الملوك.
أخذت أجول في نظري حيث ظهر لي عميل يقف على برج تحيط به أكياس من الرمل، يحمل بندقية، خشيت أن يراني فنزلت أرض الغرفة لأتأملها من جديد، وهنا بدا لي شيء غريب، حيث وقع نظري على شيء يشبه "القمع" مصنوع من المعدن الرقيق معلق من السقف ينحدر قليلا، ملصق بالجدار، حجمه بحجم نصف البرميل تقريبا، نظرت إلى داخله وفجأة خطرت برأسي فكرة سوداء، ربما كان هذا الشكل للتعذيب، لا شك بأنهم يعلقون السجين في داخله لتعذيبه، أو ربما كان بداخله جهاز تنصت أو تصوير لمراقبة من بداخل الغرفة. أفكار عديدة خطرة برأسي حول هذا الشكل الذي لم أستطع تحديد استعماله.
عدت لأتأمل ما كتب على الجدار من عبارات العديدات من المعتقلات، كأسمائهن وتواريخ اعتقالهن التي تتراوح ما بين عامي 86-88، أما التاريخ الذي لفت اهتمامي فهو تاريخ اعتقال فتاة تدعى راغدة الخالد من بلدة كفر حمام في 23-3-88. وعاودتني الأفكار، لم أستطع التركيز على فكرة معينة، ثم عاودني ما يشبه النعاس فأغمضت عيني مستسلمة لنوم عميق.
بعد مضي وقت لم أستطع تحديده، فتحت عيني على صوت المئذنة التي تصل إلى أذني من داخل بلدة الخيام، وكان الصوت واضحا وكأنه قريب جدا فأصغيت لتلاوة القرآن ومن خلال ذلك أدركت أن الشمس قد غابت وأن موعد الإفطار قد أوشك. فيما أنا غارقة في أفكاري عدت إلى ما حولي سمعت صوت الباب يفتح. دخلت علي الشرطية وكانت تدعى Belle (جميلة) وعلى غير عادتها ابتسمت لي وقالت: "هذه الغرفة أوسع وأريح أليس كذلك"؟
ما فائدة ذلك والباب مقفل؟ قلت في سري.. ثم قالت لي: "استعدي الآن، سيأتي المحقق إلى هنا ويجب أن تصارحيه بكل شيء، وهذا المحقق متساهل جدا وسيعاملك معاملة جديدة، ولكن في النهاية هذا يتوقف عليك، وأنا أحب أن أنصحك فقط". ثم قاطعتني لتنادي بصوت عال: "ادخل يا سيد عواد"، وهذا هو لقب المحقق الذي حدثتني عنه وقد علمت في ما بعد أن اسمه الحقيقي عصام جرواني من بلدة دير ميماس ويبلغ من العمر حوالي الأربعين.
دخل المحقق المذكور وألقى علي تحية المساء وهو يتبسم ابتسامة الثعلب المحتال، فأدركت في نفسي أنه لم يحضر في اللحظة التي دخل فيها الغرفة بل كان يقف وراء الباب، خارج الغرفة، ليسمع ما يدور من حديث مع الشرطية. سألني عن اسمي وعمري ومهنتي، أجبت، ثم ناولني أوراقا بيضاء وقلم حبر وقال لي: "هذه الأوراق ستساعدك على التفكير ويجب عليك أن تكتبي كل ما حدث معك. فكري على مهلك، معك من ضالان حتى الساعة الحادية عشرة، أي معك أربع ساعات من الآن، إذ إن الساعة الآن هي السابعة". ثم أشار إلى المصباح الكهربائي الذي كان يلتصق بسقف الغرفة التي يصل علوها إلى حوالي ستة أمتار، وقال لي: "الكهرباء ستبقى مضاءة في غرفتك حتى الصباح". طلب من الشرطية أن تبقيها لي مضاءة، وذلك لكي أتمكن من الكتابة، ثم انصرف وعادت الشرطية وأقفلت الباب.
حان الموعد، وقد عرفت ذلك حين سمعت صوت الباب وصوت المحقق الذي كان يحادث الشرطية. دخلا معا وبادرني بالسؤال التالي: "هل انتهيت من كتابة الاعتراف؟ أريني ماذا كتبت على الأوراق". راح يتفحصها وقال: "أهذا كل ما لديك من معلومات؟ على كل حال أنا حذرتك منذ البداية وسنرى ما سيكون مصيرك". خرج بعد أن طلب من الشرطية أن تقفل الباب وتتركني أفكر.
أطرقت للحظات أحسست خلالها بصمت قاتل حولي ثم استرخيت على الأرض ودارت في رأسي أفكار عديدة: أحقا يعلم بأنني اخفي حقائق عدة؟ وبماذا سيواجهني، وما الشيء الذي أدلت به صفاء، ولماذا يركز على صفاء دون سكنة مع أنهما اعتقلتا معا والقضية واحدة. دون أن أشعر بنفسي ذهبت في نوم عميق كمن يستريح من عمل شاق. ودون تحديد لمضي الوقت استفقت على صوت الباب من جديد، هذا الصوت الذي يحدث هلعا في قلبي لأنه مقدمة للكيس والكلبجة. وحصل ما توقعت.
دخلت الشرطية ونادتني بلهجة حادة: "هيا انهضي حالا". بقيت مكاني بضع ثوان، إذ أحسست كأنني أحلم بذلك ثم كررت نداءها لي، فنهضت وتوجهت نحوها حيث كانت تقف بالقرب من الباب وطلبت مني أن أمد يدي لتضع بهما القيد، ثم وضعت الكيس على رأسي وفوقه العصبة على عيني وبدأت ترشدني إلى الطريق كالعادة حتى وصلنا. طلبت مني الجلوس على كرسي أمسكت هي به. لم أسمع شيئا حولي، تخيلت أن المكان الذي وضعت فيه لا يوجد فيه أحد، لكن صوتا أحدث هلعا في، هو صوت تشويش مع كلام متقطع ينبعث من جهاز إرسال. ركزت سمعي على مصدر الصوت، إذ أدركت أنه بالقرب مني، حوالي متر تقريبا، وأخذت أصغي إلى الصوت لعلي أفهم شيئا، وفجأة فوجئت بصوت يسألني: "شو يا نوال كيفك. إن شاء الله تكوني فكرت مليح؟" لم اجب عن سؤاله، ثم تابع قائلا: "إن المعلومات التي ذكرت ليست جديدة علينا وهذا شيء نعلمه كما نعلم الحقيقة الكالمة عنك، فالأفضل لك إن تعترفي بكل شيء من تلقاء نفسك لأن الذي يعترف دون إكراه يخفف عنه العقاب، وبمجرد الانتهاء من كامل المعلومات عنه نطلق سراحه. لكن إذا استمر بالإنكار وواجهناه نحن بالمعلومات فسينال عقابا شديدا، بل وربما يدفن هناك. أمامك أحد هذين الخيارين".
وهنا أجبته بهذه الكلمات التي أثارت غضبه:
- لقد كتبت كل ما عندي وليس لدي أي جديد، لقد كتبت الحقيقة كاملة.
- إنك كاذبة عاهرة ولو استمررت بذلك سنبدأ أسلوبا جديدا معك. حتى الآن لم نوجه إليك أية كلمة، ونحن نعاملك بكل احترام، ولكن يبدو أن هذا الأسلوب ليس من طابعك.
- وانتقل مباشرة إلى مواجهتي بتهمة أخفيها تتعلق بمصدر الحصول على المسدس الكاتم الصوت، مصدره فتاة من صيدا تعمل مسؤولة عن قسم الممرضات في أحد المستشفيات في صيدا، ذكر على مسمعي اسم تلك الفتاة دون ذكر عائلتها، فأدركت أن إحدى المعتقلتين قد اعترفت بذلك لأن هذا الموضوع لم يكن علم به أحد على الإطلاق سواهما (سكنة وصفاء).
- الإنكار لن يفيدك، أمامك فرصة أخيرة، من هي هذه الفتاة وأين توجد الآن؟
- قلت لك لا أعرف شيئا عنها.
قبل أن أنهي كلامي انهال علي ضربا بسوط لم أعرف شكله ولا مما صنع، فصرخت للمرة الأولى بصوت عال ثم قال "الآن سأسمع  صوتك للسجن كله، ثم استمر بالضرب". شعرت بالألم في البدء ولكن بعد ذلك أحسست بأن جسدي قد تجمد. كانت الضربات تنهال على ظهري ويدي المقيدتين ورجلي. فجأة شدني بالكلبجة وأوقفني ثم أمرني أن أتبعه. أمرني بالتوقف قرب أحد الجدران وبرفع يدي إلى الأعلى دون أن ألمس الحائط وقال لي: "ستبقين على هذه الحال طوال الليل وإياك أن تنملي يديك".
كان الهواء باردا جدا وصوت الريح يصفر في أذني. بعد فترة، حوالي ربع ساعة، مع وقع خطوات بالقرب مني، نظرت من أسفل الكيس إلى الأرض لعلي أستطيع رؤية أي شيء ولكن دون جدوى، وفجأة أحسست بماء بارد يتساقط علي فشهقت من الماء ومن الرعب ورافق ذلك صوت المحقق قائلا: "الليلة سترين الكثير من أنواع العذاب، ويمكنك أن تخلصي نفسك باعترافك".
لم يكن هو الذي ألقى علي الماء لأن صوته كان بعيدا عني بضع خطوات، قلت في نفسي: ماذا سيفعلون بي، ليس هناك أكثر من الموت، وإن اعترفت بشيء فسيواجهونني بأشياء ثانية عندها يعلمون أنني أخفي الكثير. أصررت على رفضي الاعتراف وعلى كلمتي الواحدة إنني لا أعرف شيئا.
بعد ذلك ساد الصمت حولي من جديد، كان يقطعه صوت الريح القوية وصوت وقع خطوات بعيدة عني. بقيت على هذه الحال فترة طويلة. انهارت قواي وشعرت بأنني سأقع أرضا، وكنت بين الحين والآخر ألمس الجدار لأستريح قليلا، ولم أكن أعرف الوقت في تلك اللحظة. وبعد حوالي ساعتين أو أقل بقليل انتفضت من مكاني حين سمعت صوت الشرطية تأمرني بإنزال يدي ثم أخذت بيدي وأمرتني أن أتبعها. سألتها:
- إلى أين تأخذينني الآن؟
- هذا ليس شغلك، لو أنك اعترفت لكان أفضل لك من ذلك، هيا اتبعيني الآن دون كلام.
وبعد قليل أمرتني بالتوقف، وأخذت تفك لي الكلبجة من يدي ثم أمرتني أن أنزع الكيس عن رأسي ففعلت، نظرت حولي فأدركت أنني عدت إلى غرفتي، وعندما حاولت الانصراف سألتها:
- كيف سأبقى هكذا وملابسي مبللة بالماء والطقس بارد جدا؟
- وما شأني بذلك، هذا لا يعنيني، أنت فعلت هذا بنفسك وعليك أن تتحملي. أجابت بلهجة حادة لئيمة. ثم تابعت كلامها قائلة: جميعكم تقولون في البداية إنكم لا تعرفون شيئا ثم يتضح بعد ذلك إنكم قاتلون مدمرون! ثم أقفلت باب الغرفة وانصرفت.
بقيت واقفة في مكاني لحظات أتأمل حولي وأفكر بطريقة لتجفيف ملابسي، ولكن كيف؟ ثم خطرت ببالي فكرة أن اخلع ملابسي الخارجية وأضعها على حافة النافذة الصغيرة لعلها تجف حتى الصباح، وأن ألف جسدي ببطانية، ففعلت ذلك. وبعد أن جلست في فراشي، ويداي تلفان رجلي المرتجفتين من شدة البرد، عاودتني أفكاري المتشابكة، وفجأة تراءت لي فكرة وهي أن تأتي الشرطية لتأخذني إلى التحقيق وأنا على هذه الحالة، فقلت في نفسي سأدعها تنتظر حتى ارتدي ملابسي.
بقيت جالسة أفكر بأمور كثيرة إلى أن غالبني النعاس أو بالأحرى الغثيان، ذلك أنني لم أستطع النوم ولو لحظة واحدة من شدة البرد إلى أن طلع الفجر. بعد قليل بدأت الشمس ترسل خيوطها، فاطمأن قلبي قليلا لأنني سأتخلص من هذا البرد القارس الذي يلسع جسدي. بعد ذلك بدأت أسمع حركة خارج الغرفة، وقع أقدام من ذهاب وإياب ثم سمعت صوتا ينادي "شرطة". فظننت أنهم سيعدونني إلى التحقيق، فأسرعت وارتديت ملابسي، وبعد مضي حوالي نصف ساعة أو أقل شعرت بأن باب الغرفة يفتح، فإذا بشرطية جديدة متوسطة الطول حنطية اللون ذات شعر قصير تبين لي في ما بعد أنها تدعى (سعاد) وأن اسمها الحقيقي (صونيا) فظننت أنها ستأخذني إلى التحقيق ولكنها طلبت مني أن أحضر كوب الماء والصحن، ففعلت ذلك: وضعت لي طعام الفطور (كوب من الشاي وقطعة من الجبنة المعفنة)، ثم سألتني عن اسمي ومتى أحضروني إلى هنا، وبعد ذلك طلبت مني أن أنظف الغرفة، وبعد الانتهاء من ذلك أقفلت علي الباب مجددا وانصرفت.

المصدر:
www.bintjbeil.com
قصة الأسيرة المحررة نوال قاسم بيضون
ذكريات من زنازين "الخيام"

التعليقات (0)

اترك تعليق