مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

ذكريات من زنازين

ذكريات من زنازين "الخيام"(4): قصة الأسيرة المحررة نوال بيضون

بعد مرور حوالي ساعتين تقريبا حضرت هذه الشرطية من جديد وبيدها الكيس الأسود والكلبجة، فعلمت أن موعد التحقيق اقترب، وبعد أن وضعت الكيس على رأسي وفوقه العصبة وكبلت يدي بالكلبجة، أخذت بيدي واقتادتني إلى مكان مجهول، وعند الوصول أمرتني بالتوقف ثم أخذت تعطيني التعليمات عن كيفية تحريك قدمي، فأدركت أنني أصبحت داخل غرفة يبدو أن في داخلها مدفأة، فقد أحسست بدفء النار، وبعد دخولي أمرتني بالجلوس على كرسي.
بعد مد وجزر في التحقيق الكلامي، بدأت أساليب التعذيب تمارس بحقي كما تمارس بحق كل أسير أو أسيرة، هذا إلى جانب التعذيب النفسي. فالتعذيب يبدأ أولا بوضع الأسير في غرفة لا تتعدى سبعين سنتمترا عرضا ومترا ونصف متر تقريبا طولا. في الصيف تشعر داخلها وكأنك في فرن وفي الشتاء يلسع البرد القارس جسدك في كل مكان. كانت معي فرشة وبطانيتان، واحدة أصنع منها وسادة للرأس والثانية غطاء.
وأنت في داخل الغرفة تتسرب إليك أصوات الأنين المنبعثة في من غرف التعذيب من خلف القضبان، ذلك يعذب بالكهرباء أو الجلد أو غيره، وذلك يتأوه ألما نتيجة التعذيب، فاللسع بالكهرباء وسيلة تتبع بحق كل أسير ولا يستثنى أحد هنا. توضع الأسلاك في أصابع يد الأسير أو في أذنيه أو في صدره أو في أماكن أخرى من الجسد، ثم يأتي الكرباج الذي هو أشبه بالعصا السحرية التي تتحول من عصا إلى جنزير حديدي أو كرباج من الألياف أو أسلاك الكهرباء المجدولة، ولا يترك مكانا من جسد الأسير إلا ويلسعه. وإذا لم تنفع هذه ولا تلك يبدأ التعذيب الذي يبدو وكأنه مسرحية هزلية، حيث كان يتم توقيفي ساعات طويلة أمام غرفة من غرف التحقيق المقابلة لساحة المعتقل وأفاجأ بسطل من الماء البارد يداهمني فوق رأسي ثم يليه آخر من الماء الساخن، وبعد ذلك تأمر الشرطة بنقلي إلى داخل زنزانتي وأنا مبللة بالماء ولا يسمح لي بإعطائي ملابس لتبديلها بالمبللة.
في الجولة الثانية من التحقيق، اليوم التالي مباشرة، بدأ أسلوب التعذيب النفسي الممزوج بالتعذيب الجسدي. أخذ المحقق يهددني بإخلاعي ملابسي والاعتداء علي ويذكر لي أسماء أشخاص توحي بالوحشية، يستدعيهم للقيام بمحاولة الاعتداء إذا لم أعترف بكل شيء، ثم يرفق ذلك بركلات من بوط عسكري توقعني أرضا.
عاد وأجلسني على الكرسي من جديد وبدأ يحدثني بصوت عادي حيث قال لي بالحرف الواحد: "على كل حال إذا لم تعترفي فهناك من سيعرف بما كنت تقومين به من أعمال. أعلمك بأننا أحضرنا أختك وهي الآن في التحقيق، وبعد قليل سنسمعك صوتها لتتأكدي من ذلك".
لحظة لا أنساها، شعور لا يمكن تخيله، إذ فكرت بأنه مهما فعلوا بي فانا سأتحمل العذاب. عندها لم أعد أشعر بأي ألم، بل كان كل همي أن أتأكد من أن أختي موجودة حقا أم لا، وبالفعل اسمعوني صوت إحدى الأسيرات وهي تتعذب بالكهرباء وأوهموني أنها هي، بالرغم من أنه كان ينتابني شك بصحة ذلك، لأن أختي لم تكن تعرف أي شيء عن عملي على الإطلاق. ثم أمر المحقق الشرطية بنقلي إلى داخل أحد الحمامات وأمرها بتركيعي هناك. لا أدري كم مر علي من الوقت وأنا على هذه الحال، لكن الفكرة التي استولت علي هي إحضار أختي إلى داخل المعتقل.
بدأت أشعر بألم في قدمي، أخذ يزداد يوما بعد يوم إلى أن طلبت رؤية الممرض ومهمته القيام بجولة تفقدية (شكلية) على المعتقلين لتفقد أوضاعهم الصحية، التي كانت متدهورة، وأهم علاج لكل الحالات، حبة من المسكن كما كان يدعوها الممرض.
عندما تدهور وضع قدمي كثيرا وعدوني بأن أنقل إلى المستشفى لإجراء "اللازم" ولم يتم ذلك إلا بعد إلحاح في الطلب من قبلي ومن قبل أخواتي الأسيرات. وأثناء الطريق إلى المستشفى شاهدت داخل سيارة الإسعاف أحد الأسرى على حمالة، وقع نظري على يديه وقد بانت عليهما آثار التعذيب من جراء إطفاء السجائر بيديه. وعندما وصلنا إلى المستشفى أدخلتني الشرطية إلى داخل عيادة الطبيب، وعند فحص قدمي أخبر الشرطية بأنه يلزمني عملية لقدمي. وهنا سمعت الممرض يتحدث إلى طبيب آخر ويطلب منه إجراء عملية للأسير الذي كان برفقتنا فسمعت الطبيب يقول له إنه لا يلزمه عملية، لكن الممرض أصر على إجراء العملية له وقال للطبيب بالحرف: "اعمل له عملية وريحنا من صوته حاجي كل شوي ينادو رفقاتو يا ممرض فلان تعبان ولم يعد يحتمل الألم".
عدت إلى غرفتي والألم يلازمني، وعند المساء تدهورت حالتي أكثر فأكثر، فاضطررت إلى طلب الممرض من جديد. أحضرته الشرطية بعد إلحاح مني ومن أخواتي الأسيرات، عندها حاول أن يقوم هو بمعالجة قدمي وذلك داخل غرفة بنات الشرطة فسألته أحد الشرطيات:
- ماذا ستفعل لها؟
- سنحاول هذه التجربة ربما نجحت.
أحضر إبرة لمحاولة سحب "العمل" من قدمي دون أي مادة مطهرة، فشعرت بألم كبير ورفضت ما يقوم به.
بعد أسبوع من ذلك نقلت إلى المستشفى حيث أجريت لي عملية في قدمي ونقلت بعد انتهائها فورا إلى المعتقل دون أية عناية، وكنت أطالب بتغيير الضمادات ولم يتم ذلك إلا مرة أو مرتين إلى أن التهبت قدمي وتدهور وضعها، ولا أزال حتى اليوم أشعر بالألم فيها على رغم مرور سنوات على ذلك.
أذكر حادثة معينة حين كان البعض يصوم استحبابا بمناسبات معينة وكنت وأسيرة ثانية صائمتين، أذكر وقتها أن العشاء كان كناية عن علبة سردين لأربع أسيرات. بعد الإفطار أحسسنا بالعطش ولم يكن في الغرفة نقطة ماء للشرب فطلبنا من الشرطيات تزويدنا بقليل من الماء، لكنهن رفضن فتح باب الغرفة وإعطاءنا الماء. فجلست أرضا وأخذت أنظر إلى شباك الغرفة الذي كان يقابله لوح من الحديد يحجب عنا رؤية الخارج إلا من جانبيه قليلا. وأنا اسمع صوت المطر يتساقط في الخارج، لفتت نظري حافة الشباك التي كان يتسرب منها الماء فيبلل الفرشات والثياب، وكنا وضعنا قطعة من القماش لمنع الماء من الوصول إلى حاجياتنا، فلاحظت أن القطعة قد شربت الماء جيدا وأخذت ترشح بسرعة، ففكرت بأن أضع علية من البلاستيك تحتها لتجميع الماء فيها. كان فوق قطعة القماش بصل يابس يوزع مع الطعام من حين إلى آخر، وبعد مضي وقت ليس بقصير تجمعت في العلبة كمية من الماء، عندها تظاهرت بأن الماء كان موجودا أصلا في العلبة ولم ننتبه إليه فاقتربت قليلا لأذوق طعمه فإذا هو بطعم العلقم لأنه ممزوج مع البصل الموجود على قطعة القماش.
لا أنسى حلما حلمته وأنا داخل المعتقل، تذكرته بعد الإفراج عني: حلمت بأن أخي الذي يصغرني بعام تقريبا قتل نتيجة طلق ناري عليه، فيما كنت أنا أبكيه، واستفقت من نومي مذعورة وأنا أصرخ بأعلى صوتي. استيقظ كل من كان معي داخل الغرفة وربما في الغرفة المجاورة، حتى أن الشرطيات أخذن يطرقن الباب للسؤال عما يجري، فأجابت رفيقاتي بأنني كنت أحلم وكان ذلك حوالي الثانية ليلا تقريبا، وقد بقي هذا الحلم يراودني في المعتقل مدة سنة ونصف تقريبا. بعد الإفراج عني، فوجئت باستشهاد أخي الذي حلمت به ولا أزال حتى الآن أتذكر هذه الحادثة بحلمها الذي كان وقتها حقيقة.
 
المصدر: www.bintjbeil.com
قصة الأسيرة المحررة نوال قاسم بيضون
ذكريات من زنازين "الخيام"

التعليقات (0)

اترك تعليق