مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

اذهب إلى ابنتي زينب..

اذهب إلى ابنتي زينب..

في تلك الليلة المدلهمّة، غشيته حالة من الانفطام عن الوجود، فلم يعد يشعر بشيءٍ سوى تسرّب العدم إلى أنفاسه. المكان من حوله أُلبس ثوباً ناصع البياض، فبدت الأشجار وكأنها صخور منحوتة تقفُ صلبةً في وجه الرياح، فيما ظلّت السماء تفيض على الأرض بعطائها الأبيض حتى محت خط الأفق الفاصل بينهما، فإن ضربت صاعقة وارتسم برقٌ متعرجٌ كشف عن وحشةٍ زادت منها زمجرة الرعد..
كان قد مضى عدة أيام على تواجده ورفيقه في نقطة رصد عالية جداً عن سطح البحر في إقليم التفاح. حينما انطلقا في المهمة، كانت السماء المكفهرة قد كشفت عن أنياب عاصفة قوية، فمضيا تحت جنح الهواء البارد، فإن أمطرت مكثا تحت صخرةٍ تظللهما ريثما يخفّ المطر فيكملان بحذرٍ طريقهما الذي تموج فيه الوحول.
ولكن، وقبيل وصولهما إلى المكان المحدد، شعرا وكأن الدنيا من حولهما قد تحولت إلى لوحٍ من الزجاج لشدة انخفاض درجة الحرارة.. قال أبو تراب لرفيقه: يبدو أن السماء قد غيّرت رأيها وسيتساقط الثلجُ..
زاد البخارُ الذي تطاير من فمّ رفيقه وهو يرد عليه شعوره بالبرد: بل بدأ بالتساقط..
حطت حبّة من الثلجِ على كتف أبو تراب، سرعان ما اختفت.. وكالورد الذي يتفتحُ ويختفي سريعاً، صارت حباتُ الثلج تتفتحُ فوق الوحول بين أقدامهما وتختفي، فما إن صعدا أكثر، تحولت الأرض إلى بساطٍ أبيض موحلٍ، سرعان ما زادت كثافته رويداً رويداً..
كان مشهدُ الأغصان وهي تلبسُ ثوبها الأبيض وكأنها عروسٌ في يوم زفافها، أما كتفاهما فوسمهما الثلج برتبة بيضاء ناصعة.. سيساعدهما ذلك في سهولة الحركة وسط مكان محاصر بالمواقع الإسرائيلية العالية والمحصنّة جيداً، والتي تكاد مناظيرها أن تلمح الدوري في جبّ البلان، ولكن الثلج الآن سيعمي أبصارها، وسيبحثُ الحراس عمّا يدفئهم ويسليهم تحت السماء الغاضبة التي جيّشت غيومها الرمادية مؤذنة بجولة جديدة من الثلج..
ازدادت الطريقُ صعوبة مع سماكة الثلج، وكان البردُ لم يتسّرب إليهما بعدُ بسبب جدهما المتواصل في الوصول إلى نقطة الرصد، فما إن وصلا، حتى خلع كل منها "الساك"، وجلسا يرتاحا بين صخرةٍ وشجرة..
ليست مهمة الرصد بالأمر السهل، فهي تتطلبُ دقة ملاحظة عالية حتى لا يفوت الراصد أي حركة معادية، تؤدي إلى فشل العملية بسبب تفصيل صغير..
  مرّ الوقت بطيئاً جداً تحت الثلج وفي أحضان العاصفة، وقد أثر ذلك على طبيعة حركة الدوريات الإسرائيلية، وحركة الدخول والخروج من المواقع وتبديل الحرّاس، ما تطلّب دقة أعلى..
استولى البردُ على كيانهما، كان الحديث المتقطع عن العمل وبعض الأمور العامة يسليهما عن الصقيع الذي تمدد في أوصالهما، وتناوبا على القيام ببعض الحركات التي لا تثير شبهة الحراس في المواقع لاستجلاب الدفء، غير أن أبا تراب في تلك الليلة بات عاجزاً عن تحريك قدميه أثناء قيامه بالمراقبة.
جرّب الإيحاء لنفسه بأنه لا يزال يشعر بقدميه، غير أن حقيقة الأمر أنه لو فصلتا عنه في تلك اللحظة، لما شعر بأنه خسر أي شيء من جسده! حاول أن ينتزعَ قدميه اللتين غرزتا في الثلج، فلم يفلح بذلك.. بدا من شكلِ أصابعه في القفازين أنها كألواحِ الجليد إن حركها تهشمت.. ومال لون شفتيه الزرقاوين إلى الأسود فتشققتا ورسمَ الدمُ المتجمّد على ضفتيهما خطوطاً صغيرة ضاعت تحت أعشاب لحيته.. لقد صار عاجزاً عن وهب نفسه شيئاً من الدفء، حتى أنفاسه تحولّت إلى هواء بارد يقطنُ مغارةً متجمدة في صدره..
صار رفيقه يحاول أن يحرك له قدميه لتنشيط الدورة الدموية، في وقتٍ بات هو يحتاجُ أيضاً إلى الحركة لدرء الجليد عن مفاصله..
- لا تتعب نفسك..
قال رفيقه بصوتٍ رقيق : أنا أيضاً ما عدت قادراً على تحريك قدمي، ولكن لا تقلق فما هي إلا ساعات ويحين وقت الرجوع عندها سنتسابق في الوصول..
هزَّ أبو تراب برأسه، كان يعلمُ أن انعدام إحساسه بقدميه تعدا كونه صقيعاً، وهذا ما تأكد منه بعد أن انقضت الساعات المتبقية من المهمة وأزفت ساعة الرجوع..
- لا استطيع المشي..
قال بصوت رخيم ينمّ عن حيرة وقلق تنطويان على ألمٍ شديد..
اقترب رفيقه منه ووضع كتفه تحت أبط أبو تراب: سأساعدك بذلك لا تقلق.. هيا بنا..
كان أبو تراب يجرُّ نفسه جراً تاركاً خلفه خندقين، فلم يقو على رفع قدميه أبداً، ولكنه لم يستطع أن يكمل..
وقف مكانه قائلاً لرفيقه: اذهب واتركني هنا.. لن استطيع ذلك..
نظر إليه رفيقه محاولاً حثّه على عدم الاستسلام: لا تقل ذلك.. فيمكنك مساعدتي.. ثم نستطيع أن نرتاح كلما تعبتَ، ثم لمَ العجلة؟ الطقسُ جميل.. كثيرون يتمنون أن يتزلجوا هنا..
ضحك أبو تراب، وعوض أن يمشي ألقى بنفسه على الأرض: لن استطيع السير.. لا أستطيع أبداً..
أخذ رفيقه بيده: حسنٌ، سأحملك إلى أقرب نقطة و هناك نست...
- لا..
قال بنبرة حازمة: اذهب ودعني هنا..
أدار الرفيق ظهره قائلاً: اركب على ظهري.. فلن أتركك، إما أن نموت متجمدين هنا.. أو نرجع معاً..
كمركبٍ يسير عكس التيار، شقا طريق العودة.. كان أبو تراب يركب ظهر صاحبه، ويكاد يغشى عليه بين الحين والآخر من شدة الوجع، فإذا ما وصلا إلى أقرب مكان يستطيعان فيه التواصل مع المحور، فتح رفيقه جهاز اللاسلكي وطلب ملاقاة المسعفين لهما..
كان الاستلقاء على الحمالة أخفّ وطأة على قلب ابو تراب الذي انشغل باله برفيقه الذي يعاني من الآلام أيضاً ما يعانيه، وتحت رذاذ مطرٍ خفيف، أغمض عينيه مستسلماً لكبوة استنقذته من مخالب الوجع المطبقة عليه.
لم يستطع أبو تراب تذكّر تفاصيل طريق العودة من بين تلك الهضاب البيضاء، ولكن ما إن وصلت المجموعة إلى مكانٍ بانت فيه أغصان الشجر حتى انهمر المطر غزيراً فوق رؤوسهم فبللهم، فشعر حينها بلمسة من الدفء أعادته قليلاً إلى ما حوله، وتعلقت روحه بحبال المطر الصاخب وكأنه سيخرجه من صقيع البئر التي وقع فيها..
 في داخل الغرفة الدافئة اقترب المسعفُ، وبمقصٍ قوي قصّ الحذاء العسكري الذي حاصر قدمي أبو تراب.. كان  سلخُ جلد الحذاء عن جلد أبو تراب مؤلماً جداً، وقد فاحت في الغرفة رائحة قوية من العفن. بدأ المسعف بصبّ كميات من الدواء المطهّر والمعقّم، وأعطاهُ إبرة من مسكن الألم لمساعدته على الصمود ريثما يصلون به إلى المستشفى..
كان الهمسُ حول أبو تراب ونظرات رفاقه تشي بأن ثمة شيئاً خطيراً به، وقد منعوه من رؤية قدميه اللذيْن تحولا بفعل الورم والعفن إلى جبلين تملؤهما النتوءات، فغطوهما جيداً أثناء نقله إلى السيارة..
الطريق إلى المستشفى كانت أكثرَ دفئاً.. صار يعدُّ الحفر والتعرجات التي كانت تترنحُ السيارة بسببها بشدة، فيتمسك بمقبض الباب لتثبيت نفسه بالمقعد وبالقرب منه المسعف، وفي المقعد بالقرب من السائق جلس رفيقه ..
شلَّ عجزه عن الشعور بقدميه تفكيره عن كل شيء، فكان يهرب بنظراته إلى الخارج عبر الزجاج الذي غطته غشاوة راح يمحوها بإصبعه بين فينة وأخرى.. وبين حين وآخر يسأله سائق السيارة : هل أنت مرتاح؟! فيبستم أبو تراب ويهز برأسه إيجاباً.
كانوا يتحدثون طوال الطريق تارة عن شؤون المحور وأخرى عن الأسلحة التي يستخدمونها، وما استجد عليها من تطور تقني، وأبو تراب ساكتٌ يعضُّ على ناجذيه من الوجع..
لم يسمع شيئاً من همسات الطبيب الذي لم يحسم بالفحص السريري المبدئي الذي أخضع له، كان يتحدّث بغمغمة مع رفاقه، فيما كان هو يشعر برغبة قوية بوضع قدميه في مدفأة مشتعلة بالنار ربما تذيب الصقيع في شرايينه..
أخبروه أنه سيتم نقله إلى مستشفى متخصصٍ ليكشف عليه أكثر من طبيب.. لم يعنِ له ذلك، فما يريده أكثر من زوال الألم عنه، هو العودة إلى المحور، فلزوم الفراش طويلاً ينهك قلبه، وكيف له الركون إلى المرض ورفاقه لا يزالون بين القباب الثلجية وفي الوهاد الغائرة المسننة بالصخور..
اتكأ رفيقه على السرير المتحرك في تلك الغرفة الباردة وقال ممازحاً: ستأخذ إجازة مرضية ترتاح فيها، وليس هناك أجمل من البقاء متدثراً في الشتاء..
لم يستطع أبو التراب حتى من التبسّم.. فقد حدّثه قلبه بأشياء كثيرة تداخلت في بعضها البعض..
كان عليه الخضوع للعديد من الصور الإشعاعية والفحوصات المخبرية، والرفاق من حوله يتحدثون معه في كل شيء، ما عدا ما ينتظر سماعه.. كل واحد منهم كان يجيد اختلاق إجابة يبتسم لسماعها، وقلبه ضائع في متاهات الترّقب..
الغرفة في المستشفى صارت أكثر برودة من القطب الشمالي، وليس من إقليم التفاح فحسب.. وأمتد الصقيع واللاشعور من قدميه حتى شل جسده وقلبه.. فما انتظر سماعه.. سمعه، ولكن سماع ما تنتظره يظلّ قاسياً..
- إنها الغرغرينا.. لقد تسببت بموت الخلايا في القدمين وانسداد في الشرايين، فبدأتا بالتعفن.. ولا بدّ من محاصرتها بقطعها خوفاً من أن تبدأ بأكل الخلايا صعوداً..
كان الطبيبُ يشرحُ ما يقوله على الصورة، وعينا أبو تراب المعلقتين عليها لم تعودا تريا أي شيء.. حتى سمعه غشيه صمم استجلبه لنفسه هرباً مما يقال..
سيطرت عليه برودة لم يشعر بها حتى عندما غطاهُ الثلج لأيام في الإقليم.. كل ما كان يقال حوله من كلمات للتخفيف عنه، لم تفلح في أن تصيب هدفها في قلبه.. لكنه كان دائم الابتسام بوجههم وحرص أن لا يؤذي أيا منهم بأنه لا يسمع من تمتمات الشفاه شيئاً..
كيف له أن يمسك بالأيام كي لا تفلت منه؟ كيف له أن يعود إلى ما قبل أن ينطق الطبيب بحكم القطع؟! أحدٌ لا يعرف عذاب روحه التي سرعان ما تتمرد في هدأة الليل عندما يصير وحيداً في تلك الغرفة الباردة، فيذرف الدمع الساخن على وجنتيه.. مَن له أن يعرف سرّ وجعه؟! فبتر قدميه يعني بتر أحلامه.. بترُ تواجده في المحاور.. بترُ علاقته بالبندقية.. باختصار شديد؛ بتره عن أصل وجوده..
ربّت رفيقه على كتفه وقد جلس على حافة السرير ليصير قريباً منه، وقال له بحنان: لا تتحسر يا صديقي.. فأنت الآن جريح تواسي أبا الفضل العباس عليه السلام، لا تزد من أوجاعك بالتحسر والتمني، فمهما فعلتَ فلن يصيبك إلا ما كتبه الله لك..
تنهد أبو تراب، وكأن صديقه لامس ما يعذبه.. بلى.. إنه يعرف ويدرك جيداً معنى أن يصير المجاهد جريحاً في سبيل الله.. ولكنها حسرة لا تدانيها حسرة ذلك الرحيل القسري عن المحور.. كيف له بعد الآن أن يطيب له عيشاً؟! كيف له أن يتنفس هواءً لا يحملُ رائحة الطيون وزهر الليمون؟! كيف ستمضي الأيام دون أن تشقق يداه من ضرب المعول وقلع الشوك لتحضير حفر القتال؟! كيف سيقلّب الساعات وعيناهُ لا ترصدان عدواً؟! إن رحابة الدنيا ضيقة جداً أمام قادومية صغيرة في جبل صافي..
ما إن خرج رفيقه من الغرفة وصار وحيداً، حتى فاضتْ بحيرة خديه المالحة فغرقت ضفاف لحيته وابتلَّ عشبها، وكان قلبه يتلوى في صدره كأنه يستجدي روحه أن تسلم بين يدي الرحمان.. فما هي إلا ساعاتْ ويحين موعد العملية..
عقربُ الساعات يتحرك ببطء وسط السكون الغريب.. كان أبو تراب ينظر إليه بين غفوة وأخرى، وقد سكتَ عن البكاء بعد أن تجلبب قلبه بسكينة ودفء غريبين.. فانتبه أن صمتاً غريباً عمّ المستشفى..أصاخ السمع جيداً؛ لا شيء.. سكون لا تقربهُ وحشة خيّم عليه.. شعر بهيبة وكأنّ أوصاله كلها استنفرت لشيء لا يزال يجهله.. لم يستطع أن يمدّ يده ليضغط على جرس الممرضة.. كانت أنفاسه متسارعة مع نبض قلبه، وقد سطع نور باهر في الغرفة وسمع صوتاً يقول له:
- "اذهب إلى ابنتي زينب.."
سوّى أبو تراب من جلسته وشهق شهقة لم يعرف إن كانت من الدهشة أو الفزع! كان يحاول في جزء من ثانية أن يفهم ما حدث معه.. هل كانت رؤيا؟! أم أضغاثُ أحلام.. ولكن لا.. الصوت الذي سمعه لا يزالُ رنينه في قلبه.. لا يزالُ صداه في مسمعه: اذهب إلى ابنتي زينب..
ما إن انبلج الصباح حتى طلب إلى رفاقه حمله إلى الشام..
- ولكن كيف ذلك ؟ فقد حدد موعد العملية؟
- سنأخذك إلى الشام، بعد أن نطمئن على نجاح العملية إن شاء الله ..
ولكن لم يستطع أحد من اهله او رفاقه ثنيه عن ما عزم عليه.. لقد جاءه نداء وسيلبيه.. إنه يؤمن بما سمعه.. (ما كذب الفؤاد ما رأى..) سورة النجم
- سأذهب إلى مرقد السيدة زينب عليها السلام في الشام قبل العملية.. لن أخسر شيئاً حتى وإن عدت وقطعت قدميّ.. ولكن إن  لم أذهب؛ فسأخسر كل شيء..
الطريق الطويلة بين بيروت والشام اختصرها أبو تراب برفة جفن ونبضة قلب.. وعلى كرسي متحرك تناوب رفاقه على دفعه بين الجموع. الباعةُ في الطريق يتداورون على جذب أنظار المارة.. كل يصرخ بصوت ليعرض بضاعته، الناسُ تزاحم بعضها بعضاً أمام المحلات، حتى لا يكاد المرء أن يجد موطئ قدم له..  فإذا ما وصلوا أمام البوابة الكبيرة انهمرت دموعه، وخيّل إليه أن هبّ إليها يحبو على البلاط وهو يصرخ: يا زينب..
كانت حضرةُ السيدة زينب عليها السلام تعجّ بالزوار من كل حدبٍ وصوب.. نظر أبو تراب حوله، فرأى الحمام يهبطُ حيناً على البلاط يلتقطُ حباً من القمح ثم يطير، وما كان أشبه ذلك بقلبه في تلك اللحظة.. كان قلبه يحتاجْ إلى أن يستشعر برودة البلاط عساهُ يطير في سماءٍ لا نهاية لها..
تحركت عجلات الكرسي وأُدخل إلى الحضرة.. لم ينبس هناك ببنت شفة، كانت دموعه تحكي كل شيء.. كانت الحرارة المشتعلة في صدره تشي بكل ما عنده.. كانت عيناه تنظران إلى القفص كأنهما تقولان: لقد جئتُ..
في لقاء لا يشبهُ اللقاءات.. مدّ أبو تراب يده وأمسك حديد القفص البارد الذي سرعان ما استحال ساخناً من حرارة قبضته.. بكى بحرارة وانفصلت روحه عن المكان فما عاد يسمع أو يرى، فلذةُ الوصال أنسته الدنيا.. هو الآن طير في السماء، إن أرادته سيدته زينب أن يهبط على البلاط هبط، وإن أمرته أن يطوي الأرض بجناحيه طوى.. لقد جاء ليربح كل شيء، وما همه حينها إن خسر حياته، ليس قدميه فحسب!
- قم وقف على قدميك..
جاءه صوت عميق.. فهمس قلبه لها: إن كان قدري أن أظلّ على كرسي متحرك، فإني أحمد الله على عظيم نعمته، ولكني أبثُّ إليك حزني ووجعي، فماذا أفعل بقلبي الذي لا يفتأ يتململ من القهر كلما راودتني فكرة أني لن أقاتل بعد الآن.. أني لن أكون ناصراً لأخيك الحسين عليه السلام.. أني سأظلُّ عاجزاً عن دفع حيرتك في الحادي عشر من المحرم..
زادت سخونة دموعه، وشعر بنيران تلتهم كيانه.. رفع أبو تراب رأسه ونظر حوله.. فلم ير أحدا.. ظنّ لوهلة أن الليل خيّم وانفض الزائرون من حوله، وأن أحدهم كان يطلب إليه التهيؤ للخروج من الحضرة..
- قم وقف على قدميك..
قال الصوت ثانية.. صوتٌ ليس كالصوت الذي سمعه في المستشفى.. إن فيه مزيجاً من القوة والصلابة والرقة والحنان ما لا يخطر في بال بشر.. فشدّ قبضتيه على القفص ووقف صارخاً:  يا زينب ..
علت التكبيرات من حوله، فانتبه إلى نفسه واقفاً ومن حوله رفاقه والناس بين باكٍ وشاكٍ، وساد حال من الهرج ومن المرج وهو لم يستعدْ بعدُ حقيقة ما حدث معه، وكأنه غاب عن الدنيا وفجأة عاد إليها.. فالحضرة كانت مليئة بالزوار، وليست كما رآها قبل قليل.. فأصابته حالة من الذهول وهو يقف على قدميه ممسكاً بالقفص.
لقد حدثت معجزة لتوها معه، واستطاع الوقوف على قدميه.. لقد صدقت الرؤيا.. صدقت..
عجز الأطباء عن تفسير ما حصل، ولكن عملية بتر القدمين أُلغيت.. وعولجت الغرغرينا ببعض العقاقير التي عرف أبو تراب أنها ليست السبب في شفائه.. فالعشقُ كان الترياق الذي شفى روحه.. الآن صار باستطاعته العودة إلى المحاور.. لقد آن الأوان ليتحد من جديد مع بندقيته ليلتحم مع الموت وليأنس به كما أنس به أصحاب الإمام الحسين (ع)  يوم العاشر من المحرم.. وليدرأ مع كل طلقة رصاص سوطاً عن ظهر الغريبة التي سُبيت من كربلاء إلى الشام..
صارت الحكاية المعجزة تتناقل بين الرفاق.. ولكن أبا تراب الذي أنقذته السيدة زينب عليها السلام من بتر قدميه، بتر شيئاً من قلبه بين القفصِ وواقع الحياة.. فصار لا هنا ولا هناك..
رجع أبو تراب إلى المحاور، غير أن سؤالاً واحداً لم يبارحه ولم يجد له جواباً: لماذا السيدة زينب؟
لقد كان في المستشفى طريح الفراش حينما سمع صوت أمير المؤمنين عليه السلام يطلب إليه الذهاب إلى ابنته زينب.. لماذا لم يشفه هو؟! لماذا كان عليه الذهاب إلى هناك؟ ثمة سرّ في ذلك.. سرٌّ أنبت الحيرة في مفاصل قلبه، وقد حاول كثيراً أن يتناسى الأمر، فالمعجزة قد حصلت معه واستجاب الله لدعواه ببركة الأمير والسيدة زينب.. ولكن هيهات، إن القلوب لتأبى الركون إلا إلى الجواب اليقين، وقد أحبّ أن يحصل على هذا الجواب في كل لحظة من لحظات حياته.. وفي كل مرة يزور فيها الشام، يقف أمام البوابة الكبيرة للحضرة ويتذكر كل ما حدث معه في ذلك النهار.. فيضع يده على قلبه معاهداً سيدته من جديد أن يظل على عهده..
وعلى حين غرةٍ  ذات نهار.. وبعد سنوات، كُتب على جدارِ مقام السيدة زينب في الشام : سترحلين مع النظام..
كانت الأسواق خالية، والدمار يتزاحمُ حوله.. حتى الحمام هجر السماء بعد أن صار الكلام الفصل للرصاص والقذائف.. يومها، وقف أبو تراب أمام البوابة الكبيرة للمرقد متقلداً سلاحه.. يحمل قلبه وردة ليرميها عند أعتابها.. خنقته العبرات وقد رأى وشاح الغربة والوحدة قد ألقي على تلك الحجارة التي بانت دموع الحسرة بين تشققاتها.. لم يعد ثمة زوار.. الحضرة المقدسة صارت فقط للمتقلدين سلاحهم..
نظر أبو تراب إلى القبة بعينيه ثم رمق السماء، وكأنه يريد القول: لقد جئتُ.. يا أمير المؤمنين جئتُ إلى ابنتك زينب..
وانكشفَ السرُّ أمام قلبه.. هنا مصيرهُ.. هنا بزغَ فجر العشق على جبينه، ولن يغيب.. الآن هو يحمل سلاحه ليدافع عن سيدته، فالزمن لن يتكرر، ولن تسبى زينب مرتين..
كانت الشمسُ غابت خلف غمام القذائف، قام أبو تراب ورفاقه بتنظيف المقام، وصعد إلى القبة ومسحها، ورفع الراية عليها صارخاً:  بزينب حفيدة المختار، وبابنة علي الكرار، وبابنة الزهراء ابنة الأطهار، نحن قوة حيدرية حسينية لن تنهان لبيك يا زينب..
رفع الراية الحمراء.. والراية الحمراء في مفهوم العرب ترفع لمن قُتل ولم يؤخذ بثأره..
بالقرب من الحضرة بقي أبو تراب أياما وشهوراً، وكيف له أن يغيب عن المحور، والمقام هو محوره؟! كيف تغفو عينه وهو الذي يحرسه..
لكن ساعة الرحيل قد أذنت.. فاستأذن ابو تراب من سيدة المقام.. فقد آن الأوان ليرتاح القلب من غربة الدنيا.. فطلب منها طلباً أخيراً، أن يكون يوم رحيله في العاشر من المحرم، وأن يكون عندها في حضرتها ليلة الحادي عشر..
كانت الأيام تمرّ، وأبو تراب يتحين فرصة الرحيل، فهو ورفاقه قد أعادوا الأمن إلى منطقة السيدة زينب، ورويداً رويداً عادت الحياة لتلوّن المكان، وضجّت الحضرة من جديد بالزائرين من كل حدب وصوب.. فزينب بقيت وستبقى حيث هي!
حل المحرم، وأبو تراب قد أسرج جواده للرحيل، وكأنه كان على الموعد، فالعاشر اقترب وهو ما عاد بإمكانه الصبر أكثر، وصدق حدسه، فالرصاصة عاجلته غدراً في اليوم التاسع من المحرم..
نقل جريحاً أبو تراب إلى المستشفى، وفي اليوم التالي.. يوم العاشر من المحرم ارتفع أبو تراب إلى الملكوت الأعلى.. كفّن ووضع طوال الليل بالقرب من المقام، والشموع من حوله تذرف ما تبقى لها من وجود..


المصدر: إرث الشهادة،
نسرين ادريس قازان
 

التعليقات (0)

اترك تعليق