مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

راغب... ذاكرة اسم

راغب... ذاكرة اسم

راغب... ذاكرة اسم

    فطنت والدة الشيخ راغب إلى أنّني كنت سألتها عن ظروف ولادة ابنها راغب فما كادت تنهي كلامها عن بيتها الزوجي، حتى استوت في جلستها استواء المهتمين كثيراً، ثم راحت تسرد سرداً مختلفاً:
  "في ساعة متأخرة من الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1952، كبّرت الداية الحاجّة أمينة شعيب، ثمّ حوّقت بيدها حول رأس المولود وردّدت: ومن شرّ حاسدٍ إذا حسد، حتى لا تقع عينٌ لاحقًا على طفلي الصغير الذي ملأت صرخته الأولى تلك الغرفة، وعلى ضوء السراج، تفحّصته أمينة بدقّة، ثمّ أطلقت صوت البشارة لتسمع أحمد، المنتظر في الغرفة الأخرى: ولدٌ كامل الخلقة، يا ما شاء الله، الحمدلله على سلامة سكنة، كأنها بهذه الكلمات، تريد أن تقول لوالده: أين الحلوان؟ 
     سبق أن جهّز علي والد الحاجة سكنة الاسم لحفيده، حينما قصّ على ابنته سكنة حادثة من أيّام العسكر العثملّي:
 "وقتها سيق رجلٌ إلى معسكرٍ في فلسطين: "سبق صوتُه وصولَه إلى عتبة غرفة العسكر، وهو ينادي: أين علي حرب؟ أريد أن أتعرّف إليه، دلّوني على علي حرب، كرّرها حتّى وقف في عتبة الغرفة، سألته: ماذا تريد من علي؟ ضحك وقال: أريده على انفراد.. أنا علي حرب، أجبته، اقترب منّي، أمسك بيدي، وهو يضحك من قلبه، ومضينا معًا إلى خيمة محايدة في طرف المعسكر، وهناك عمرت سهرتنا... اسمي راغب حرب وأنا هنا في العسكر منذ سنين.
 وتواصل الحاجّة سردها عن أبيها: "لم أعد أذكر يا سكنة كم سنة قضّى راغب في العسكر، ولكنّني ما زلت أذكر محيّاه، ضحكته، وخطوطًا من الرجولة ارتسمت عند الصدغين، ووجهًا يتوهّج، ولحيةً كثّة، وبدنًا عامرًا، ولا زلت أسمع صوته الهادئ، وأرى عينيه اللامعتين. سهرنا وحدنا ذلك الليل بطوله، صلّينا الفجر، أفطرنا على لقمتين، وبقينا معًا، حتى أصبحت الشمس بارتفاع رمح، تمنّيت أن يبقى، ولكنه اعتذر وقال إنه مشغولٌ جدًّا، وما تجاوزنا الخيمة، حتّى اجتمع العسكر حوله، هذا يسلّم عليه، وذلك يعبّر عن حبّه، وآخر يعانقه ويقول: في أمان الله، فاجأني المشهد، لم أسأله عن السّبب، ولكنني علمت فيما بعد، أنّه كان يطعم العسكر، وأنّ سخاءه نادر، ثمّ قصّوا عليّ شيئًا من شهامته وشجاعته، ومنذ ذلك الوقت، مضى مع العسكر، غاب ولم أعد أعرف عنه شيئًا، يا سكنة ولدك هذا، اسمه جاهز، ولادةٌ ميمونةٌ يا راغب"... أذّنت له الداية في أذنه اليمنى وفي اليسرى أقامت، وفعل مثلها أحمد، الذي أصبح منذ تلك اللحظة "أبو راغب".
    لم أتأكّد هل كانت الحاجة أم راغب تدرك في العمق سلوك ابنها في سني طفولته الأولى، وما تحمل تصرّفاته من دلالةٍ أم لا، ذلك لأنها راحت تقصّ عليّ بعضًا منها، ولكن من دون أي تعليق، كأنها، في تلك القصص القصيرة، أرادت أن تترك لي استنباط الأحكام، وقراءة الدلالات، ربّما كان هذا عن عدم تأمّلٍ في الدلالات، من قبل أم راغب، وربّما كان وهو الأرجح، تصرّفًا ذكيًّا منها، ذلك لأن كلّ أمّ لا تقدّم ولدها، سوى أفض طفل في العالم، فأرادت أم راغب أن تتجنّب مثل هذا الموقف، أمّا أنا، فيكفيني أن أقرأ الحدث، حتى أقارب دلالته، أو أحاول على أقلّ تقدير، وفق فهمٍ يقصر حتمًا عن إدراك أبعاد السماء، التي ترعى الطفولة المميّزة، وتؤهلها لتكون مفارقةً فريدةً، أو شبه فريدةٍ في المستقبل..

 

المصدر: من قصة "دار سكنة" [أيقونة جبشيت]، مقتطفات من سيرة الحاجة سكنة حرب (والدة شيخ الشهداء راغب حرب) في نزعة روائية، للكاتب الأستاذ سديف حمادة، إصدار مشروع التأريخ لدور المرأة في مقاومة الاحتلال، جمعية الرابطة اللبنانية الثقافية، بيروت، لبنان، ط1، 1443هـ 2021م.
 

التعليقات (0)

اترك تعليق