مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

"اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها"

السلام عليك سيدتي ومولاتي فاطمة يوم ولدتِ، ويوم استشهدتِ، ويوم تبعثين.

اسمحي لي يا أمنا-كما يحب حيدر شهيدي مناداتك- أن أبثّك بعضًا من لواعجي وأنّاتي.

أتذكرين سيدتي يومَ تعسّرت ولادة صغيري، فناديتك يا زهراء أغيثيني، فسمعتِ الاستغاثة وسرعان ما وُلد حبيبي حيدورة بخير.

وبعد ولادته ولأن الله أنعم عليه وعلينا ببلاء في جسده وقبل وقت العملية ناديتك، وأحضرتُ بعضًا من تربة شهيدك الذبيح رغم معارضة مَن حولي "بأنّه حديث الولادة، ولا يصح أن يتذوق من التربة". ولكن كيف؟ هي تربة سيدي ومولاي وحبيبي الحسين من جعلها شفاء ونوراَ فكيف أنها لا تصح؟ عجبا! لم آبه بما أسمع. دخلتُ غرفته وقت إرضاعه احتضنته بين ذراعي "بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اجعل فيها الشفاء". ومسحتها على شفاهه وقطراتٍ من الرضاعة، فاختلطت بالحليب غذاءً ربّانيًّا ونورًا حسينيًّا، وانسابت إلى داخل فمه ومنه إلى جوارحه فرُوحِه... ومضت الأيام وتوالت الأشهر ولله الحمد فطفلي الصغير يرتع في فيوضات رحمانية، وبين أحضاني، يسبقه دعائي ومناجاتي ومناداتك. وهكذا أضمّه وإخوته في زيارة عاشوراء باكية طالبة منك بحقّ شهيدك الشفاء له وعلو الدرجات..

وعند بداية شهر محرم، أكتسي وأولادي أثواب السواد والحداد وأبوح لهم بعضًا من أحزانك على ولدك، وبأني نذرتهم له، ووصيتي لهم كلّ محرم أن يرتدوا السواد ويشاركوا في مأتم سيد الشهداء، وأصطحبهم إلى مجالس العزاء علّهم ينهلون من معين حبكم وولايتكم ومعرفتكم.

وعند بلوغه السنة وفيما هو يلعب مع أخيه، وقع أرضًا وانشقت جبهته فوق عينه، فأسرعت إليه وإذ بي أرمق وجها مغطًى بالدماء الحمراء تتقاطر على الأرض، أتدرين مولاتي ماذا صرخت عندها؟ "السلام عليك يا أبا عبد الله"، فاستوقفني ندائي، وحدّثت نفسي. "مالَكِ دنيا، تلهجين بذكر المولى الحسين"، لا أدري، فصورة ولدي بالدماء، ذكرتني بصورة ولدك في كربلاء.

فاستغثت بك، وهالني المنظر، وتراءى لي، حزنك وهمك وألمك على ولدك، وأين جرح حيدر من جراح ولدك وسيدي الحسين، والهفي عليك مولاتي! فأشفقت لحالتك فأنت الأم الحنون، وهكذا الأم. لا أدري كيف ولماذا! ولكن هذا ما حصل.

وأسرعت به إلى المشفى، والحمد لله تمت معالجة الجرح، ببعض "القُطب الطبيّة". وفي ذلك الوقت، صرتُ أغوص في عالمي الداخلي، أبحث عن جوابٍ لما تراءى في خاطري عند رؤية حيدر مغطًى بالدماء، ما سر ذلك يا إلهي؟ لمَ اقترنت رؤية حيدر الدامية بآه سيدتي فاطمة وبقلبها العطوف على ولدها؟ لِم ولِم وكيف!؟ ولا أجد جوابا..

اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلّصها وأبقِ لنفسي من نفسي ما يخلصها، فإنّ نفسي هالكة أو ترحمها.

في كل يوم ومع زيارة عاشوراء أستحضر ذلك المشهد الصعب. "إني لم أحتمل رؤية ولدي آنذاك، فكيف بمولاتي الزهراء تحتمل ما احتملت.. وأي قلب لها سلام الله عليها!". وتسيل دموعي تحرّقاً وتفجّعا، وأختم زيارتي بالدعاء لأولادي وأهلي وأخصّ حيدر برعايتك له.. ودوام الشفاء والعافية، وعلو الدرجات..

وبعد أشهر قليلة، شاء ربي أن يأخذ من نفسي ما يخلّصها ولتعلقي الشديد بهم، ابتُليت ببعدي عن أولادي وحيدورة صغيري!!

أشجاني الفراق، وأهلكني البعد، وأدمى فؤادي الحنين، أتجرع لحظاتي غصصًا غصصًا، وأموت لوعة وشجوًا. وعندما ألتقي بأولادي أحضنهم وأشمّهم علّني أبلسم بعض الآهات. وأما حيدورة فهو صغيرهم ولم يلتئم جرح جبهته بعد -من ذكّرني بسيدي الحسين- فيثير فيّ العويل والبكاء عندما يبوح لي بتعبيراته الطفولية وهو يشير إلى بطني "ماما رجعيني ع قلبك، خليني جوا" قاصدا بقائه معي، آه وآه وألف آه، كنت أضجّ لك يا مولاتي وألوذ بك صارخة "أدركيني، أغيثني فاطمة، فأنت وجه الله الذي منه يُؤتى، وأنت من كلّمك جبرائيل عن ربك بحديث الكساء، أتوسلك فأنت أيضًا الأم التي تختزن حنانا ورحمة وحباً إلهياً كاملا، فأنتِ أكثر مَن يحاكي معاناتي وجراحي. وأقسم عليك بفلذة كبدك أن تحضني حيدر وتضمّيه في كنف رعايتك وتضمّدي جراحه القلبية وتعينيه وتعينيني على الفراق.

ولما كنت أقصد زيارة أولادك وأئمتي، وأناجيك وأناجيهم أسميهم فردا فردا "بتول، مهدي، حيدر في رعايتكم، سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم. وأدعو لهم بالتوفيق للصلاح والتقوى وحُسن العاقبة، وأن يكونوا أنصارا لولدك الحجة المنتظر.

ومضت الأيام وتوالت السنين وكبر حيدر وإخوته تظلّله رحماتكم وعونكم ودعاء والدته. وها هو حيدر صغيري أصبح شاباً يافعاً هادئاً أقرب إلى الملائكة منه إلى الأنسيين، مؤمناً موالياً مناجياً في محراب صلاة الفجر ومتهجداً في صلاة الليل، وشاعراً وأديباً ومصوراً ومخرجاً وخطيبا. يبث من علوم القرآن وأهل البيت الحِكَم والمواعظ، سابقًا أبناء عصره وعمره في الإيمان والتديّن ومراعاة حكم الله في كل التفاصيل. إلى أن منّ الله علي، باصطحابهم إلى زيارة ولدك أبي عبد الله الحسين في الأربعين، وكانت كلمته الشهيرة لي لما سألته عن رغبته بالذهاب: "وهل عُرضت على عاقل وأبى؟".

وأضحت من أسعد لحظات حياته، يخطو نحو كربلاء معنا بكل حب ووَلَهٍ ومهابة وولاء خالص، لا يشكو تعبًا ولا شمسًا ولا ألمًا برغم وجعه وضيق حاله الصحية. فأنظر إليه شاكرة ومسبّحة وأسأل ربي الصحة والشفاء وعلو الدرجات له ولإخوته. "اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وأبقِ لنفسي من نفسي ما يصلحها".

وعندما يشارك في المسابقات والامتحانات ويتفوق محضرا شهادته لي كنت أحضنه وأدعو له دعائي الشهير "الدرجات العليا يا حبيبي في الدنيا والآخرة".

لقد درس القرآن ونهل من علومه، واقتنى الكتب الإسلامية، وواظب على زيارة عاشوراء يوميّا.

ومضت الأيام وتوالت السنين وشاء الله أن يجمعني بحيدر كما إخوته، عند بدء الحرب الإسرائيلية على الشعوب المستضعفة، في سنة ٢٠٢٣، ومكث حيدر معي لامس فيها شغاف قلبي وروحي ووجداني "شكرا لك يا رب على كثير نعمك وتجلياتك".

وانزاحت الكربات، وآنستني حرارة قربه وجع كل السنوات الأليمة، وامتزج الوجدُ هيامًا ووصالا وعشقا وحبا وتعلّقا غريبا.

إلى أن عصفت الرياح، وتعالت الأصوات، واشتد البلاء، وضاقت الأرض، ومنعت السماء وانقطع الرجاء، وأنا ألوذ بك سيدتي فاطم، فحيدر قلبي وروحي التي بين جنبي".

"اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها".

وانتقل حيدر إلى الجنوب في عطلة الصيف بعد نهاية عامه الدراسي، واشتد البلاء على المؤمنين بانفجار الأجهزة "يا زهراء، أدركينا"

وقصد حيدر بيروت لزيارة أخته وصهره، وكان وصاله معي، شددته إلى حضني، أشمه، وأناغيه وأتبادل معه حروف العشق والهيام الأمومي: "اشتقت إليك عمري، لا تبعد عن أمك الولهى.. رفقا بفؤادها الجريح النازف بين الأمس واليوم"، يبتسم في وجهي: "حبيبتي أنت بتعرفي، لو كان في يدي بضلني جوات قلبك"، "دخيل قلبك يا روح أمك".

وغادرني مجدّدًا إلى الجنوب، وغادرت معه روحي "اكفلي قلبه يا زهراء".

وفي يوم ٢٣ أيلول صب الصهاينة حقدهم القديم وبدأت الغارات في كل حدب وصوب منذرة ببداية الحرب علينا، اتصلت بفلذة كبدي باكية "عمري يا أمي، الله يخليك إنزل؛ روحي تذوب بين أضلعي، تعال يا تؤبرني إلى بيروت". أجابني حبيبي الصغير: "حبيبة قلبي لي عم تبكي أنا منيح حبيبتي، اهدئي يا قلبي، فقط ادعي لي، سأنزل يا أمي، وآتي إليك، فقط قري عينا".

عندها رفعت يدي مجددا "الله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، بحمايتك يا زهراء، بعيون ولدك الحسين، ولدي حيدر في أمانتك".

ولم يصل حيدر مع الواصلين، يوم يومين وثلاثة وأشهر، وأم حيدر تنظر مولاتها الزهراء مستفسرة "أين ولدي يا سيدة النساء، حيدر بأمانتك أنا أعرف، بحبيبك الحسين هو في رعايتك، أليس كذلك؟ ولكن قلبي ينزف آها ودموعا وعويلا، فولدي أصبح مفقودا لا أعلم عنه شيئا، أنا مطمئنة أنه في حضنك في أحسن حال، ولكن اكفلي قلب أمه الثكلى".

ثم يمّمتُ وجهي نحو ولدك الغريب أبثّه همّي ودعائي، وولدك العباس أشكوه العطش المضني. انتقلت نحو ابن عمك الأمير قلبي بين يديكم يا مولاي، غادرت للرضا والمعصومة والكاظم والجواد والعسكري، رحلة غريبة! أجوب فيها زوايا إلهية بين بطنان العرش المحمدي والفاطمي، أحسست أني أحمل بين يدي ملائكة رحيمة تنقلني بين سيد وإمام وعلوي وذبيح ومسموم وأسير، أين همّ دنيا عند أعتاب كرباتهم، استحييت منك مولاتي، فحيدر وحده، أين منه أولادك التسعة فضلا عن سيدهم وجدهم المظلوم وابن عمه المقتول وابنتك المسبية؟ أدركيني يا مولاتي". اللهم إن نفسي هالكة أو ترحمها. أقسم بضلوعك المكسورة مولاتي، حيدر قربان لولدك الذبيح، فهل تقبلينه مني؟ هل أستطيع مواساتك بالأكبر والقاسم! هل تقبلين مني القليل!.. اللهم تقبل مني هذا القربان.

وعدت إلى دياري أنتظر خبرا عن قرباني. انتهت الحرب، وشُيّع الشهداء، وعلّت الأنّات والمواجع، وسُكبت الدموع والآهات، وأنا لا أعلم منه خبرا إلا خيرا، وأناجيك صبح مساء، وأناجي ابنك المخفي الغائب، "أين قرباني، كي أتمم الدفن وأحمل جثمانه بين يدي وأقدمه، كرمى لعيون حبيبي وسيدي الحسين!

ويلبي ولدك المهدي النداء؛ ويصل الخبر: قومي أم حيدر، هناك في بلدة مباركة تسمى معركة في جبل عامل الأشم.

سبقني قلبي ودموعي وإيماني ويقيني: "تُرى ماذا سأجد هناك؟ هل سأجد حبيبي مفدوغ الرأس؟ هل سأجد صغيري مقطعا إربا إربا، هل سأرى الإصبع المبتور؟ هل سأرى الأضلاع المتكسرة؟ والصدر المهشم؟

في الطريق كنت أجمع أشلاء نفسي، وألوذ بحبكم مولاتي فاطمة، أربطي على قلبي وروحي، بقلب حبيبك الحسين"، ووصلت يا مولاتي، وعثرت على أغراض ولدي مرمية أرضا، متناثرة وممزقة في كل مكان، قرآنه مسبحته مريوله وكتابه..

أدرت وجهي ناحية أخرى.. ولكن أين حيدورة؟ هل من أشلاء مقطعة؟ هل من نحر محزوز من القفا! لم أجد شيئا من جسد حيدر يا مولاتي..

ابتسمت نظرت إلى السماء.. هل هذه بشارة القبول سيدتي أتقبلين مني هذا القربان؟ أتقبلين ذراته المتناثرة في روضة ولايتكم؟ سلم لمن سالمكم يا مولاتي.

الآن فهمت يا ولدي سرك مع أمنا فاطمة!

الآن فهمت بعد مضي ستة عشر عاما سرَّ ذكري لها عند رؤيتك والدماء سائلة على وجهك الرضيع! شكرا لك سيدتي..

فخورةٌ أم حيدر بحيدر.

اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها وابقي لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو ترحمها".

 

بقلم والدة الشهيد حيدر زين الدين

التعليقات (0)

اترك تعليق