مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

وحيدة... مع الله..

وحيدة... مع الله..

وحيدة... مع الله..

   
وبعد مضي أسابيع نقاهة نسيَ خلالها آلامه بين حنوّ امرأة خاله، وبلسم العاطفة الشافي من ندى.. عاد رياض إلى دبين، وبعد أيام قليلة من عودته إليها، وفي قاعة الاستقبال استراحت أمّ عادل قرب رياض، ولفت نظرها عقرب الساعة الذي أشار إلى الثالثة إلّا ثلثاً، فسألته:
- رياض... ما قولك؟ ألم تتأخّر نوال؟
- بلى؛ صحيح. لقد تأخّرت قليلاً، سأنتظر حتى الثّالثة. وإذا لم تظهر في هذه الأثناء، سآتي بها. لا تقلقي يمكن أن تتأخر مع رفيقاتها، هذه هي المرة الأولى التي تتأخر بها إلى هذا الحد؟ 
- أجل!... الله وحده يعلم ماذا حدث معها، سأحضر العشاء أرجو أن تكون قد وصلت إنها صائمة. ستتناولان العشاء معاً.
فهمس لها رياض: 
- بلى... لقد أخبرتني... إنها تهديهم لعامر!
- رضي الله عنكم جميعاً.
وغابت أم عادل في المطبخ تستخرج لحوماً محفوظةً وخضاراً للشورباء... وقبل الثالثة تماماً دخلت نوال فوجئت برياض، وعانقته وكان صوتها يحمل آثار بكاء أبرزه لون عينيْها وعكسه احمرار وجنيتيها واحتقانهما. فغادر رياض مكانه، وواجهها وهي تضع محفظتها في المكتبة، وأمسك وجهها بطرف سبَّابته، وأداره بإتجاهه:
- نوال! ما بك؟ ما سبب احمرار وجهك؟ وعينيْكِ الدّامعتيْن؟ ألم تتأخّري قليلاً على غير عادة؟؟
فلامست يده بحنو، وأزاحتها عن وجهها، لتستدير إلى غرفتها معلّقة، فوق مشجبها، مريول المدرسة قائلةً:
- لا شيء.. تأخّرت قليلاً مع رفيقاتي، أشعر بالبرد في عظامي، يبدو أنّني سأعاني الانفلونزا التي لا تدعني... أين أمّي... أين أنتِ حاجَّة أم عادل؟
 ودخلت المطبخ، واقتربت من أمّها، قبَّلت وجنتيها، ثمّ تركتها تتفحصها. وهمست وهي تفتح صنبور الماء ليغطي صوتُه همسها:
- أمّي... اليوم وقبل انتهاء الحصَّة الأخيرة... دخل عميلان المدرسة، وحقّقا معي على انفراد، وسألاني عن عامر. أجبتهم أنه بالكويت، هي المرة الأولى التي أسمع أحداً في عمري يقول لي كذّابة. تضايقت كثيراً، ولكنني حافظت أمامهم على قوتي وأعلمتهم أنه لا شيء يجبرني على الكذب، وفي أثناء ذهابهم بشروني أنني لن أرتاح حتى أعترف بوجهة عامر وعندما عدت إلى الصف لآخذ محفظتي، قرع الجرس، وجدتهم خلفي، وبدأوا إسماعي كلاماً بذيئاً جداً يا أمي يبدو أنهم لن يتركونا نرتاح."
واهتمّت الأمّ بسماع ابنتها التي تركت كلّ ما في يديها واقتربت منها كي لا تضطر لرفع صوتها أكثر متسائلة:
- أتراهم لاحظوا غياب عامر عن الضيعة؟ أتراهم انتبهوا لحزننا على أيمن؟ لم يعترض على بكائنا سواها! أمّ شوقي! يمكن أن تكون قد لفتت نظر ابنها إلينا؟ 
وعندما أنهت نوال كلامها، ومسحت دموعاً غالبتها فغلبتها أحاطتها أمها بذراعيها، بحنان كبير... وهمست:
- نوال! حبيبتي، من المرجَّحِ أن يكون كل ما قلتِه الآن صحيحاً يا ابنتي، أعاننا الله سويّاً على قادم الأيام، لا تخبري أخاكِ رياضاً، بما حدث معك، كي لا يغضب، سأخبرك بعد قليل في أثناء الإفطار بما حدث معه، فتتناسيْ قليلاً ما حدث معك. إيّاكِ أن تخطئي يوماً بكلمةٍ او أن يزلَّ لسانكِ بحرفٍ أمام هؤلاء الكلاب! ولا ضرورة أبداً لإثارة غضب رياض الآن، هو آتٍ في زيارةٍ سريعةٍ وسيعود إلى شقرا... لا يحتاج لإشكالٍ يدخله المعتقل. أرجوك يا نوال، أنتِ تدركين خطورة الموقف، وصعوبة الوضع تماماً.
وهزّت نوال رأسها موافقةً، وراحت تقطع خضار الشورباء وتستعيد بصمت ما حدث معها للمرة الأولى. كانت كلمات العميلين الوقحة.. تخدش حياءها، عندما تقتحم عليها شرودها.. وتعاملهما الفظ، وإخراجها من صفها في الحصة الأخيرة، يفرض عليها كآبةً شديدة،ً أيقنت أنّها ستعيشها من الآن فصاعداً، أكثر من ذي قبل. وكان صوت أمها يسحبها من ألمها.. إلى تحريك اللحمة التي تتقلب على نيران هادئة، إذا ما قيست بتلك التي تشتعل بداخلها المقموع حزناً، وعندما أضافت المرق إلى الشورباء، وأحكمت إقفال الطّنجرة مخففٍّة النار تحتها، مضت إلى وضوئها، تعيده مرتين وثلاثة، وهي تذرف الدمع الحارّ كاتمةً قدر المستطاع نشيجها، كي لا يصل إلى مسامع رياض الذي كان يحاول أن يفسّر تأخير نوال، واضعاً احتمالاته الممكنة. 
اعترض وجه ندى تلك الاحتمالات، وجمعها لحظةً ثم بدّدها، فهو لا ينوي أبداً الاستقالة من عمله الجهادي. وهو حتى الآن يجهل موقف ندى من هذا العمل. أخافته إجابةٌ محتملةٌ لسؤال لا بدّ منه. ماذا لو عرفت ندى باستشهاد عامر؟ ماذا لو رفضت جهاد المقاومة؟ وعمله فيها؟ هو لم يخبرها في هذه الأيام القليلة، شيئاً عن عمله ولا عن أسباب اعتقاله؛ أوهمها أنه اعتقل صدفة، أربعة أيام فقط!!  
ماذا لو كانت ندى تقف على طرف نقيض منه؟ من عقائده ومبادئه؟ 
وأعاده إلى واقعه صوت نوال منبِّهاً:
- رياض... استعد سيحينُ وقت آذان المغرب...
 فابتسم رياض لها وأجابها مؤكداً:
- معك حق؛ سأتوضأ بالجامع أيضاً، قبل أن يحين وقت رفع الآذان، لقد اشتقت إليه كثيراً، لا تفطري من دوني، سأعود. 
ومضى رياض بقامته المديدة على خطى عامر إلى المسجد الذي تركه الشهيد إرثاً وأمانةً، وقد اشتاقه رياض كثيراً بعد أن كان يتعهده بصيانة مئذنته وتنظيف سجَّاده. المهم أنّ وصية الشهيد بأن لا تهجر مئذنة المسجد ولو لفريضة واحدة، كانت تسابق ندى إلى ذاكرة رياض الذي ختم تساؤلاته حولها، عندما ولجت قدماه عتبة باحة المسجد.. بآخر سؤال.
- لمَ أطرح كل هذه الأسئلة؟ أعترف أني أحِبها، ولكنني ما زلت أجنبيّاً عنها، لا حق لي عليها، يا الله... أيصحّ بعد كلّ هذا العذاب، أيمكن لي أن أصِرف أمي وأختي عن حزنيْهما الراقد تحت ضغوطات الخوف بخطبتي؟ أويُعقل؟ واللهِ إنها لفكرة جميلة، غداً عندما ينتهي شهر صفر، بعد أربعين الإمام الحسين سأصارحهما. 
 وعندما شمر عن ساعديه للوضوء، كانت خفقات قلبه تدخل محراب المناجاة بين يديْ الله، طالبةً منه سبحانه مدداً ورضاً.

 

 

المصدر: من قصة القابضة على أشواك الورد، مشروع التأريخ لدور المرأة في مقاومة الاحتلال..

التعليقات (0)

اترك تعليق